رجوع الأزارقة

وفي هذه الأيام التي شغل فيها الناس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى قرب الكوفة، وذلك في سنة ثمان وستين.
وكان عبد الله بن الزبير ردّ أخاه مصعبا على العراق أميرا بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّة فعزله. فلما ردّ مصعبا، بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي إصبهان بعد ما أوقع بهم المهلّب بالأهواز. فلما أشخص المهلّب إلى الموصل كان عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، فانحطّت الأزارقة مع ابن الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مصعب، ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالا شديدا وقتل ابنه. ثم إنّه ظفر بهم وقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى إصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا، وقووا، واستعدّوا وكثروا.
ثم إنهم أقبلوا حتى مرّوا بفارس، وفيها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أنّ الخوارج قد قطعت أرضه موجّهة إلى البصرة خشي ألّا يحتملها له مصعب، فشمّر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا موجّهين إلى الأهواز. وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال:
« والله، ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس، وجعلت معه بها جندا أجرى عليهم أرزاقهم في كلّ شهر، وأوفّيهم أعطياتهم في كلّ سنة، وآمر لهم من المعاون كلّ سنة بمثل الأعطيات، قطع أرضه الخوارج إليّ، وقد أزحت علّته، وقد أمددته بالرجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثم فرّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. »
إقبال الخوارج وعليهم الزبير

وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أنّ عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأنّ مصعبا قد خرج من البصرة.
فقام الزبير خطيبا وقال بعد حمد الله:
« أما بعد، فإنّ من سوء الرأي والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدوّنا، فلنلقهم من وجه واحد. » فسار بهم حتى قطع بهم الأرض إلى جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن، فشنّ بها الغارات، وقتل الولدان والنساء والرجال، وبقربطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط، ففعلوا ذلك، وقتلوا نباتة بنت أبي يزيد بن عاصم الأزديّ، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، غشوها بالسيف، قالت:
« ويحكم هل سمعتم بأنّ الرجال كانوا يقتلون النساء؟ ويحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ ويحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يدا ولا يريد بكم ضرّا، ولا يملك لنفسه نفعا؟ أتقتلون من يُنَشَّؤُا في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ » فقال رجل منهم:
« لو تركتموها! » فقال له آخر:
« أعجبك جمالها يا عدوّ الله! كفرت وافتتنت. » وانصرف الآخر عنه وتركهم، قال: فظننّا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها.
خروج الحارث بن أبي ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر

ثم إنّ الناس بالكوفة أتوا الحارث بن أبي ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا:
« اخرج، فإنّ هذا عدوّنا قد أظلّ علينا. » فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتى نزل النخيلة، فأقام بها أياما.
فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيّة، يخيف السبل ويخرّب البلاد، فانهض بنا إليه. » فأمر بالرحيل، فخرج حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل شبث بن ربعيّ، فكلمه بنحو ما كلّمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكدّ، فرجز به الناس وكان يلقّب بالقباع:
سار بنا القباع سيرا نكرا ** يسير يوما ويقيم شهرا
فأشخصوه من ذلك المكان. فكلّما نزل بهم منزلا أقام، يصيح به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراة إلّا في بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها طلائع العدوّ، وأوائل الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل المصر قد أتوهم قطعوا الجسر بينهم وبين الناس.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبي ربيعة:
« اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم. » فقال شبث بن ربعيّ، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عمير:
« أصلح الله الأمير، دعهم، فليذهبوا، لا تبدأ بهم. » وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أتت أيّام اجتمع الناس فقالوا:
« يا أيها الأمير، ما قعودنا بهذا الجسر، فليعد، ثم اعبر بنا إليهم، فإنّ الله سيريك ما تحبّ. » فأمر بالجسر، فأعيد وعبر الناس إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة، عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتى وقعوا في أرض البصرة، ثم وقعوا إلى إصبهان، فانصرف عنهم من غير قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتّاب بن ورقاء بجيّ، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت إصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب الزبير، فبعث عتّابا، فصبر لهم عتّاب، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور النشّاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد.