« أمعه عمر بن عبيد الله؟ » قيل:
« لا، استعمله على فارس. » قال:
« أمعه المهلّب؟ » قيل:
« استعمله على الموصل. » قال:
« أمعه عبّاد بن الحصين؟ » قيل:
« لا، استخلفه على البصرة. » فقال:
« وأنا بخراسان. » ثم تمثّل:
خذينى، فجرّينى ضباع وأبشرى ** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب:
« يا بنيّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإني مقتول. » وأخبره بما صنع أهل العراق.
فقال ابنه:
« والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [ الحق ] بأمير المؤمنين. » فقال مصعب:
« لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمري ما السيف بعار وما الفرار لي بعادة. »
مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب

ثم أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان:
« إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان. » فقال مصعب:
« إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا. » فلما أبي مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال:
« يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان. » فقال له مصعب:
« قد آمنك عمّك، فامض إليه. » قال:
« لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [ للقتل ]. » وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:
« يا لثارات المختار. » فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:
« إني لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بي. » يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.
وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عني. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه. » قال:
« وهو آمن. » فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتى صاح بين الصفّين:
« أين أبو النحترى إسماعيل بن طلحة؟ » فخرج إليه. فقال:
« إني أريد أن أذكر لك شيئا. » فدنا حتى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى المحشوّة. فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال:
« أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب. » فقال:
« هذا أحبّ إليّ لك من أن أراك غدا مقتولا. » ولما قتل مصعب وابنه عيسى، قال عبد الملك:
« واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم. » وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت:
« تعس قاتله. » قيل:
« فإنّما قتله عبد الملك. » قالت:
« بأبي القاتل والمقتول. » وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان في سنة اثنتين وسبعين.
ومن المقامات المشهورة مقام تقدّم فيه رجل بالأدب
لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما.
فقال عبد الملك: « من؟ » فقال الكاتب: « عدوان. » فقال عبد الملك:
غدير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم بعضا ** فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على الرجل، فقال:
« إيه. » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضى ** فلا ينقض ما يقضى
ومنهم من يجيز الحج ** ج بالسنّة والفرض
وهم من ولدوا أشبوا ** بسرّ الحسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال:
« من يقول هذا؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« ذو الإصبع. » « فأقبل على الجميل، فقال:
« لم سمّى ذا الإصبع؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. »
فقال للجميل:
« وما اسمه؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« حرثان بن الحارث. » فأقبل على الجميل فقال:
« من أيّكم كان؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« من بنى تاج »، وهو يقول:
أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ** فلا تتبعن عينيك من كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ** يقول وهيب: لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ** يطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال:
« كم عطاؤك؟ » فقال:
« سبعمائة. » وقال لي:
« في كم أنت؟ » قلت:
« في ثلاثمائة. » فأقبل على الكاتبين فقال:
« حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا. »
فرجعت وأنا في سبعمائة وهو في ثلاثمائة.
ثم فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان.
وفي هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.
توجيه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير

وكان السبب في توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله. » فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر.
ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجّاج وذلك في شعبان سنة اثنتين وسبعين.
حصر ابن الزبير ومقتله