لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذي الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.
وحجّ الحجّاج بالناس في هذه السنة، ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع الحجر فوضعه في المنجنيق، ثم مدّه وقال لأصحابه:
« ارموا! » ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج:
« يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم. » فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج:
« ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟ » فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير:
حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما.
فدخل على أمّه أسماء بنت أبي بكر، فقال:
ما قالته لابن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر

« يا أمّه، قد خذلنى الناس حتى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ » فقالت:
« أنت والله يا بنيّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إني كنت على حقّ، فلما وهن أصحابي، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. » فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال:
« هذا رأيي، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد.
اللهمّ، إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. » فقالت أمّه:
« إني لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. » قال:
« يا أمّه، لا تدعى لي الدعاء قبل وبعد. » قالت:
« لا أدعه أبدا. » ثم قالت:
« اللهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبي. اللهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. » ثم دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:
« هذا وداع فلا تبعد. » وكان عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت:
« ما هذا صنيع من يريد ما تريد. » قال:
« ما لبسته إلّا لأشدّ منك. » قالت:
« فإنّه لا يشدّ مني. » - فنزعها، ثم أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه في أسفل المنطقة، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتى ظننت أنّه لا يقتل.
وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير في هذه الناحية ومرّة في هذه الناحية ولكأنّه أسد في أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثرهم، ثم يصيح:
« أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته. » فقال أبو صفوان:
« إى والله وألف. » فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ حرفا حرفا، ثم سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« اكشفوا وجوهكم حتى أنظر. » وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال:
« يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة. أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ:
أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله. » ثم حمل حتى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت في وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
وتمثّل أيضا:
عن أيّ يوميّ من الموت أفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة:
« وا أمير المؤمنيناه! » فأشارت لهم إليه، فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق:
« ما ولدت النساء أذكر من هذا. » فقال الحجّاج:
« أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ » قال:
« نعم، هو أعذر لنا، ولو لا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا في كلّ ما التقينا. » فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
ثم دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.
وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:
« إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لي. » وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا.