« خندقنا سيوفنا. » فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن، فوجدوه لم يخندق. فنهض عبد الرحمن وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل في جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتى قتل عبد الرحمن وقتلوا كلّهم حوله.
فلما أصبح المهلّب جاء حتى دفنه وصلّى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجّاج، فكتب الحجّاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرحمن وذمّ أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف، عتّاب بن ورقاء، وأمره إذ ضمّتها الحرب أن يسمع للمهلّب ويطيع. فساءه ذلك ولم يجد بدّا من طاعة الحجّاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلّب، وهو في ذلك يعنى أموره ولا يكاد يستشير المهلّب في شيء. فلما رأى المهلّب ذلك اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتّاب.
فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلّب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلّب معه على مجلسه، فسأله عتّاب سؤالا فيه تجهّم وغلظة وترادّا الكلام حتى قال له المهلّب:
« يا بن اللخناء. » وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال:
« أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت منه ما تكره فاحتمله. » فقبله وقام عتّاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه. فلما رأى عتّاب ذلك كتب إلى الحجّاج يشكو إليه المهلّب ويخبره أنه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمّه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجّاج إليه في ما لقي من شبيب، وما لقيه أيضا أشراف الكوفة منه. وسنذكر من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجّاج أن:
« اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلّب. » فبعث المهلّب ابنه حبيبا، وأقام المهلّب يقاتلهم سنة.
ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقي الحجاج وأشراف الكوفة منه

كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرّح، وكان صالح يرى رأى الصفريّة وكان ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عباده، وله أصحاب يقريهم القرآن ويفقّههم ويقصّ عليهم، وقدم الكوفة فيقيم بها الشهر أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على محمد ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثم عليّا وتحكيمه الرجال في أمر الله، ويتبرّأ من عثمان وعليّ، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمّة الضلال ويقول:
« تيسّروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإنّ القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم عند ما ترجم الظنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنّة. » وأشباه ذلك من الكلام. وكان في من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين.
فقال يوما لأصحابه:
« ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمّة الجور إلّا عتوّا وعلوّا وتباعدا من الحقّ، وجرأة على الربّ، فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأيّ وقت إن خرجنا نحن خارجون. » فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح:
« أما بعد، فقد كنت دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منّا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتنى، فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمنى المنيّة ولمّا أجاهد الظالمين. جعلنا الله وإيّاك ممّن يريد الله بعمله، والسلام عليك. » فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه:
« إنّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلّا انتظارك، فاقدم علينا ثم اخرج بنا، فإنّك ممن لا تقصّى الأمور دونه، والسلام. » فلما ورد كتابه على شبيب دعا نفرا من أصحابه فجمعهم إليه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد والمحلّل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل.
فبثّ صالح رسله، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده في تلك الليلة.
فتحدّث فروة بن لقيط قال: إني لمعهم تلك الليلة وكان رأى استعراض الناس لما رأيت من المنكر والفساد في الأرض. فقمت إليه، فقلت:
« يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنّا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن تضع فيهم السيف. » فقال:
« لا، بل ندعوهم، فلعمري، لا يجيبك إلّا من يرى رأيك، وليقاتلنّك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجّتهم، وأبلغ في الحجة لك عليهم. » قال: فقلت له:
« فكيف ترى في من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول في دمائهم وأموالهم؟ » فقال:
« إن قاتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسّع علينا ولنا. » فأحسن لنا القول.
ثم قال صالح لأصحابه ليلته:
« اتّقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلّا أن يكونوا يريدونكم، فإنّكم خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، وسفكت الدماء بغير حقّها، وأخذت الأموال غصبا، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها. وهذه دوابّ لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فاحملوا رجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم. » ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخفّ بأمرهم، وبعث إليهم عديّ بن عميرة في خمسمائة، وكان صالح في مائة وعشرة، فقال عديّ:
« أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجال سمّوا لي، وإنّ الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. » فقال له:
« فإني أزيدك خمسمائة، فسر إليهم في ألف فارس. » فسار من حرّان في ألف رجل وكأنما يساق إلى الموت. وكان عديّ رجلا يتنسّك. فلما نزل ذوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرّح رجلا دسّه إليه.
فقال له:
« إنّ عديّا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوى بلدا آخر وتقاتل أهله، فإنّ عديّا للقائك كاره. » فقال صالح:
« ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمّة السوء، رأينا رأينا. فإمّا بدأنا بك، وإمّا رحلنا إلى غيرك. » فانصرف إليه الرسول، فأبلغه. فقال عديّ:
« ارجع إليه فقل له: إني والله لا أرى رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيري. »