ذكر مكيدة صالح على عدي

فقال صالح لأصحابه: اركبوا. فركبوا. وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى أتى عديّا في سوق ذوغان وهو قائم يصلّى الضحى، فلم يشعر إلّا والخيل طالعة عليهم. فلما دنا صالح منهم رءاهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضهم يجول في بعض. فأمر شبيبا، فحمل عليهم في كتيبة، ثم أمر سويدا، فحمل في كتيبة، وكانت هزيمتهم. وأتى عديّ بدابّته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فلّ عديّ حتى لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال لهما:
« أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. » فخرجا، وأغذّا السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما:
« توجّه نحو آمد. » فاتّبعاه حتى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا وخندقا وهما يتساندان كلّ واحد منهما على حدته. فوجّه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه، وتوجّه هو نحو خالد السلمى، فاقتتلوا أشدّ قتال اقتتله قوم، حتى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض.
فتحدّث بعض أصحاب صالح قال: كنّا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجّالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلمّا رجعنا وصلّينا وتروّحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال:
« يا أخلّائي ماذا ترون؟ » فقال شبيب:
« أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا. والرأي أن نرحل عنهم. » فقال صالح:
« أنا أرى ذلك. » فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جلولا وخانقين، واتّبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها: الريح وصالح يومئذ في تسعين رجلا. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثة، فهو في كردوس وشبيب في ميمنته في كردوس، وسويد بن سليم في كردوس من ميسرته، وفي كلّ كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شدّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح، فقتل، وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه، فوقع في رجاله، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا، فنادى:
« يا معشر المسلمين. » فلاذوا به، وقال لأصحابه:
« ليجعل كلّ رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا. » ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه:
« أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنّهم لا يقدرون على خروجهم حتى نصبّحهم فنقتلهم. » ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه:
« ما تنظرون يا هؤلاء؟ فو الله، لئن صبّحوكم إنه لهلاككم. » فقالوا:
« مرنا بأمرك. » فقال لهم:
« بايعوني إن شئتم، أو من شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشدّ عليهم في عسكرهم فإنّهم آمنون منكم، فإني أرجو أن ينصركم الله. » قالوا:
« فابسط يدك. » فبايعوه. فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا، فأتوا باللبود، فبلّوها بالماء، ثم ألقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عميرة إلّا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلّوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
فأما صالح بن مسرّح فإنّه أصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثم ارتفع في أدانى أرض الموصل، ثم ارتفع نحو آذربيجان يجبى الخراج.
وكان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يدخل في خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول، فصالح صاحب طبرستان، وأقبل في نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجّاج:
« أما بعد، فأقم بالدسكرة في من معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة من ذي الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرّح، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه. » ففعل سفيان ذلك ونزل الدسكرة، ونودى في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن:
« برئت الذمّة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة. » قال: فخرجوا حتى أتوه، وارتحل سفيان في طلب شبيب، ثم ارتفع عنهم كأنه يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصادا في خمسين رجلا في هزم من الأرض. فلمّا رأوه جمع أصحابه، ثم مضى في سفح من الجبل مشرقا. فقالوا:
« هرب عدوّ الله. » واتّبعوه.
ذكر رأي رءاه عدي بن عميرة في تلك الحال فلم يقبل حتى هلك الجيش

فقال لهم عديّ بن عميرة الشيبانى:
« أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمنا حذرناه، وإلّا كان طلبهم بأيدينا، لن يفوتنا. » فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من وراءهم.
فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبي العالية في نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب، فقال سويد بن سليم:
« أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ » فقال شبيب:
« أنا من أعرف الناس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية، فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلا. » ثم قال:
« يا قعنب، اخرج في عشرين، ثم ائتهم من وراءهم. » فخرج قعنب في عشرين، فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينقصون ويتسلّلون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية، فطاعنه، فلم يصنع رمحاهما شيئا، ثم اضطربا بسيفيهما، ثم اعتنق كلّ أحد منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثم تحاجزا، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلام لسفيان، يقال له غزوان [ نزل ] عن برذونه، وقال لسفيان:
« اركب يا مولاي. » فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتى قتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية منهزما حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج، وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال: انتظرني. فلم يفعل، وعجّل نحو الخوارج. فلما عرف الحجّاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للناس:
« من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى، فقد أحسن. » ثم كتب إليه يعذره ويقول له:
« إذا خفّ عليك الوجع، فأقبل مأجورا إلى أهلك. » وكتب إلى سورة:
« أما بعد، يا بن أمّ سورة، فما كنت خليقا أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة، وأخبرني في أمرك، وكد عدوّك، فإنّ أفضل أمر الحرب المكيدة. والسلام. »
فلما أتى سورة كتاب الحجّاج، بعث عديّ بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ. فخرج في طلب شبيب، وخرج شبيب يجول في جوخى، وسورة في طلبه. فجاء شبيب إلى المدائن وتحصّن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن وأصاب دوابّ من دوابّ الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتى فقيل:
« هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. » فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضّأ هو وأصحابه، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرّأوا من عليّ وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم عبروا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه، فخبّرته بمنزل شبيب بالنهروان.
ذكر سوء رأي سورة في الإقدام حتى هزم وفل

فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم:
« إنّهم قلّ ما يلقون مصحرين أو على ظهيرة إلّا انتصفوا، وقد حدّثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم وأسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيّتهم، فإنّهم آمنون لبياتكم. فإني والله أرجو أن يصرعهم الله مصرع إخوانهم بالنهروان من قبل. » فقالوا:
« اصنع ما أحببت. » فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس ثم بيّتهم. فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نيّاكا ** [ جندلتان اصطكّتا اصطكاكا ]
ورجع سورة إلى أصحابه مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوّة من أصحابه.