فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي العصيفر، وهو أمير على المدائن، فرماهم الناس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثم سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس بينهم فقالوا:
« هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيّت أهل المدائن. » فارتحل عامّة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإنّ شبيبا لبتكريت. ولما أتى الحجّاج خبره قال:
« قبّح الله سورة، ضيّع العسكر، وخرج يبيّت الخوارج. والله لأسوءنّه. » ثم دعا الحجّاج الجزل وهو عثمان بن سعيد، فقال له:
« تيسّر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم، فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق. هل فهمت؟ » قال:
« نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت ما قال. » قال:
« فاخرج، فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس. » فقال:
« أصلح الله الأمير، لا تبعثنّ معي أحدا من الجند المفلول المهزوم، فإنّ الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد. » قال:
« ذلك لك ولا أراك إلّا وقد أحسنت الرأي ووفّقت. » ثم دعا أصحاب الدواوين، فقال:
« اضربوا على الناس بالبعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجّلوا. » فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث [ وأخرجوا أربعة ] آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثم نودى فيهم بالرحيل. ثم ارتحلوا ونادى منادى الحجّاج أن:
« برئت الذمّة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلّفا. » فمضى الجزل بهم حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفر بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس من ذلك ما شاءوا.
ثم إنّ الجزل خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسّوج إلى طسوج يريد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه، ويتعجّل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة.
فجعل الجزل إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، فجعل على كلّ أربعين منهم رجلا، فهو في أربعين، ومصاد أخوه في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلّل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه أنّ الجزل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم:
« إني أريد أن أبيّت الليلة هذا العسكر، فائتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتهم أنت يا محلّل من قبل المغرب، وليلحّ كلّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري. » قال فروة بن لقيط: وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا:
« تيسّروا، وليسر كلّ امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمر به أميره فليتّبعه. » فلمّا قضمت دوابّنا، وذلك أوّل ما هدأت العيون، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرّارة، فإذا للقوم مسلحة عليهم عياض بن أبي لينة فما هو إلّا أن رءاهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره. فلما لقي هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنّا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلّا نحو ميل. فقال لنا شبيب:
« اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم. » فاتّبعناهم ملظّين بهم، ملحّين عليهم، ما نرفّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همّة إلّا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجزل قد خندق عليه وتحرّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه:
« سيروا ودعوهم. » فلما سار عنهم أخذ الطريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه:
« انزلوا، فأقضموا دوابّكم وقيلوا وتروّحوا، وصلّوا ركعتين، ثم اركبوا. » ففعلوا. ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة، وقال:
« سيروا على تعبئتكم التي عبّأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم. » فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كلّ ناحية، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كلّ جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد:
« خلّ لهم سبيل الكوفة. » وكان يقاتلهم من ذلك الوجه. فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفلّ منهم أحدا. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجزل مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الحجّاج، فطال ذلك على الحجّاج.
ذكر عجلة للحجاج وسوء رأي له حتى أهلك ذلك العسكر
فكتب الحجّاج إلى الجزل كتابا قرئ على الناس، نسخته:
« أما بعد، فإني قد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتّباع هذه المارقة وأن لا تقلع عنها حتى تقتلها أو تفنيها. فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضيّ لمناهضتهم ومناجزتهم. » فشقّ ذلك على الجزل.
قال: فأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. فما لبثنا أن بعث الحجّاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أنه، إذا لقي المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه.
وجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا. فقام فيهم خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم في طلب هذه الأعاريب العقف منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون في جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلّا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم. أخرجوا على اسم الله إليهم. » فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل:
« ما تريد أن تصنع؟ » قال:
« أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل. » فقال له الجزل:
« أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنّ ذلك شرّ لهم وخير لك. » فقال له:
« قف أنت في الصفّ. » فقال:
« يا سعيد بن مجالد، ليس في ما صنعت رأى، أنا بريء من رأيك هذا. سمع الله ومن حضر من المسلمين. » فقال:
« هو رأى إن أصبت فالله وفّقنى، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء. » قال: فوقف الجزل في صفّ أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي. ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطا، وأمر دهقانها أن يشترى لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء.
ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ [ من الغداء ] حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل العسكر. فصعد الدهقان ثم نزل قد تغيّر لونه، فقال:
« ما لك؟ » قال:
« قد والله جاءك جمع عظيم. » فقال:
« بلغ شواؤك؟ » قال:
« لا. » قال:
« دعه. »
قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال:
« قد أحاطوا بالجوسق. » قال:
« هات شواءك. » فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لمّا فرغ:
« قوموا إلى الصلاة. » وقام وتوضّأ وصلّى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلّد سيفه وأخذ عمود حديد، ثم قال:
« أسرجوا لي البغلة. » فقال أخوه مصاد:
« أخي هذا اليوم تسرج بغلة؟ » قال:
« نعم، أسرجوها. » فركبها، ثم قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)