وخرج بهم إلى نفّر، ثم خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنّ شبيبا قد أخذ نحو نفّر، ظنّ أنّه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجّاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، وسرّحه إلى المدائن وولّاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجّاج ابن أبي عصيفر، وكان بها الجزل مقيما يداوى جراحاته، وكان ابن أبي عصيفر يعوده ويكرمه ويلطفه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء.
فكان الجزل يقول:
« اللهمّ زد ابن أبي عصيفر جودا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا. » ثم إنّ الحجّاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال له:
« انتخب الناس. » وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس ستة آلاف، واستحثّه الحجّاج، فعسكر بدير عبد الرحمن. فلما أراد الحجّاج إشخاصهم كتب إليهم كتابا قرئ عليهم. « أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلّاء وولّيتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين. وإني قد صفحت عنكم مرّة بعد مرّة، وتارة بعد أخرى. وإني أقسم لكم باللَّه قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعنّ بكم إيقاعا أكون به أشدّ عليكم من هذا العدوّ الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر، والسلام. » وارتحل عبد الرحمن في الناس حتى مرّ بالمدائن، فنزل بها يوما حتى تشرّى به أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا. ثم أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل، فسأله عن جراحته. وحدّثه ساعة. فقال له الجزل:
« يا ابن عمّ، إنّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل والله لكأنّما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشدّ من مائة، إن لم يبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم. وإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني وكان لهم الفضل عليّ وإذا خندقت عليّ أو قاتلتهم في مضيق نلت منهم ما أحبّ، وكان لي عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع، إلّا في تعبئة أو خندق. » ثم ودّعه، وقال له الجزل:
« هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنّها لا تجارى. » فأخذها. ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على التخوم، أقام، وقال:
« إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا. » فكتب إليه الحجّاج:
« أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك، حتى تدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنّما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام. »
فخرج عبد الرحمن حتى قرأ الكتاب في طلب شبيب. فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه يبيّته فيجده قد خندق، وحذر، فيمضى ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغه أنه قد تحمّل، وأنه يسير، أقبل في الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيل والرجّالة المرامية، فلا تصيب له غرّة ولا غفلة، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرّته، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلّما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا منه، ثم يقيم في أرض غليظة خشنة، فيجيء عبد الرحمن في خيله وثقله، حتى إذا دنا من شبيب ارتحل عنه شبيب، فسار خمسة عشر فرسخا أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا. ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. فكان شبيب قد عذّب ذلك العسكر، وشقّ عليهم، وأحفى دوابّهم، ولقوا منه كلّ بلاء. فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين، ثم جلولاء، ثم تامرّا، ثم أقبل إلى البتّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا. وجاء عبد الرحمن حتى نزل شرقيّ حولايا وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل في عواقير من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمن:
« هذه الأيام أيّام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضى هذه الأيام فعلتم. » فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ولم يكن شيء أحبّ إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.
فكتب عثمان بن قطن إلى الحجّاج:
« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وخلّى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها. والسلام. » وكتب إليه الحجّاج:
« قد فهمت ما ذكرت، وقد - لعمري - فعل عبد الرحمن غير مرضيّ، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم. » وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البتّ وذلك يوم التروية عشاء. فنادى الناس وهو على بغله:
« أيها الناس، أخرجوا إلى عدوّكم. » فوثب إليه الناس فقالوا:
« ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطّنوا أنفسهم على القتال.
فبت الليلة، ثم اخرج على تعبئة. » فجعل يقول:
« لأناجزنّهم، فلتكوننّ الفرصة لي أولهم. » فأتاه عبد الرحمن، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شدّاد السلولي:
« إنّ الذي تريد من مناجزتهم الساعة، أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس.
إنّ هذه ساعة ريح وغبرة وقد أمسيت، فانزل، ثم ابكر بنا غدوة. » فنزل، فسفت عليه الريح، وشقّ عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج، فبنوا له قبّة وبات فيه. ثم أصبح وخرج بالناس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة.
فصاح الناس إليهم وقالوا:
« ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإنّ الريح علينا. » فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رءاهم لم يخرجوا إليه أقام.
فلما كان من الغد خرج عثمان يعبّئ الناس على أرباعهم، وسألهم:
« من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟ » قالوا:
« كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شدّاد السلولي كان على ميمنتنا. » فقال لهما:
« قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد ولّيتكما المجنّبتين، فاثبتا ولا تفرّا، فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها. » فقالا:
« فنحن والله الذي لا إله إلّا هو، لا نفرّ حتى نظفر أو نقتل. » فقال لهما:
« جزاكما الله خيرا. » ثم أقام حتى صلّى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، ونزل يمشى في الرجال.