« هذا زهرة بن حويّة. أما والله، لئن كنت قتلت على ضلالة لربّ يوم من أيّام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولربّ خيل للمشركين هزمتها وسريّة له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. » وقتل وجوه العرب في المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال:
« ارفعوا عنهم السيف! » ودعا إلى البيعة. فبايعه الناس من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول:
« إلى ساعة يهربون. » فلما كان في الليل هربوا، واحتوى شبيب على ما في العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قرّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرحمن من مذحج في من معها، فشدّوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد منكم النصر، أخرجوا عنّا، فلا تشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلّا من كان عاملا لنا ومن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء. » ثم إنّ شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه:
« أيّكم يأتينى برأس عامل سورا؟ » فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مغذّين، حتى انتهوا إلى دار الخوارج والعمّال في سمّرجه، وكادوا الناس بأن قالوا:
« أجيبوا الأمير! » فقال الناس:
« أيّ الأمراء » فقالوا:
« أمير قد خرج من قبل الحجّاج يريد هذا الفاسق شبيبا. » فاعترّ بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكّموا حين وصلوا إليه، فضربوا عنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال:
« أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلمّ الحربة يا غلام! » فحزّت بها البدور، وأمر أن تنخس الدوابّ التي كانت عليها. فمرّت والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال:
« إن كان بقي شيء فاقذفوه في الماء. »
ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية

وإنّ أبا سفيان بن الأبرد أتى الحجّاج فقال:
« ابعثني إليه حتى أستقبله قبل أن يأتيك. » فقال:
« ما أحبّ أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم الكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. » وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمّام أعين، ودعا الحجّاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي، فوجّهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتّاب، ونحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في ألف رجل، فنزل زرارة. وبلغ ذلك شبيبا فتعجّل إليه. فلما انتهى إليه، حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه وجاءوا حتى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتى قطع ودنا من الكوفة، فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق. فوجّه الحجّاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين، فلم يقو عليهم. فبعث إلى شبيب، فأمدّه بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات، فلم يوجّه إليه الحجّاج أحدا. فمضى شبيب حتى نزل السبخة وأقام ثلاثا لا يوجّه إليه الحجّاج أحدا، فابتنى مسجدا في أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلّى في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتى وفت بنذرها في المسجد.
وأشير على الحجّاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجّاج لقتيبة بن مسلم:
« اخرج، فإني خارج، وارتد لي معسكرا. » فخرج ثم رجع إليه فقال:
« وجدت المدى سهلا، فسر على اسم الله والطائر الميمون. » فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات فقال:
« ألقوا لي هاهنا. » فقيل له:
« إنّ الموضع قذر. » فقال:
« ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيّبة والسماء فوقه طيّبة. » وأخرج الحجّاج مولى له يقال له أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجفّفة كثيرة وغلمانا له وقالوا:
« هذا الحجّاج! » فحمل عليه شبيب فقتله، ثم قال:
« إن كان الحجّاج، فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج أخرج اليه طهمان في مثل ذلك من العدّة والعدد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال:
« إن كان هذا الحجّاج فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتّاب بن ورقاء وهو في زهاء أربعة آلاف. فقيل له:
« أيها الأمير، لا تعرّفه موضعك. »
فتنكّر وأخفى مكانه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجّاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمّام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجّاج:
« عليّ بالبغلة! » فأتى ببغل محجّل، فقيل له:
« أصلح الله الأمير، إنّ الأعاجم تتطيّر أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل. » فقال:
« أدنوه مني، فإنّ اليوم يوم أغرّ محجّل. فركبه ودنا، ثم طرحت له عباءة فنزل وجلس، ودعا بكرسيّ له، ثم نادى:
« يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبنّ باطل هؤلاء الأرجاس حقّكم، غضّوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنّة. » فجثوا على الركب وكأنّهم حرّة سوداء. فأقبل إليه، شبيب حتى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس: كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلّل بن وائل.
فقال لسويد:
« احمل عليهم في خيلك. » فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما، حتى انصرف، وصاح الحجّاج:
« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ يا غلام. » وأمر شبيب المحلّل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد.
فناداهم الحجّاج:
« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ. » ثم إنّ شبيبا حمل عليهم في كتيبته، فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا. ثم إنّ أهل الشام طاعنوه قدما، حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى:
« يا سويد احمل في خيلك على هذه السكّة - يعنى سكّة لحّام بن حرير - لعلّك تزيل أهلها، فتأتى الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه. » فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السكّة، فرمى من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه، لئلّا يؤتى من ورائه.
ثم إنّ شبيبا قال لأصحابه:
« يا أهل الإسلام، إنّما شرينا للَّه، ومن شرى لله لم يكن عليه ما أصابه من أذى وألم، الصبر الصبر، شدّة كشدّاتكم في مواطنكم الكريمة. » ثم جمع أصحابه وقال:
« الأرض الأرض، دبّوا تحت تراسكم حتى إذا كانت أسنّتهم فوقها فأدلفوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله. » فأقبلوا يدبّون إليهم.
رأي جيد رءاه خالد بن عتاب

فقال خالد بن عتّاب بن ورقاء للحجّاج:
« ائذن لي في قتالهم، فإني موتور وأنا ممّن لا يتّهم في نصيحة. » قال:
« فقد أذنت لك. » قال:
« فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم. » فقال له:
« إفعل ما بدا لك. » فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريّته حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق في عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجّاج وشبيبا والتفتوا فرأوا النار في بيوتهم. فأما الحجّاج وأصحابه فكبّروا، وأما شبيب فوثب هو وكلّ راجل معه على خيولهم.
وقال الحجّاج لأصحابه:
« شدّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم. » فشدّوا عليهم فهزموهم. وتخلّف شبيب في حامية الناس حتى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجّاج.
قال: فجعل يخفق برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لمّا انهزم فقلت:
« يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك. » قال: فالتفت غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال: فدنوا منّا فقلت:
« يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك. » قال: فالتفت - والله - غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجّاج إلى خيله أن:
« دعوه في حرق الله. » قال: فتركوه ورجعوا.
ومضى شبيب ومن معه حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه، فهزموه نحوا من فرسخين فألقى خالد نفسه بفرسه، فمرّ به ولواؤه في يده.
قال شبيب: