« قاتله الله فارسا وفرسه. هذا أشدّ الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض. » فقيل له:
« هذا خالد بن عتّاب. » فقال:
« معرق له في الشجاعة، والله، لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. » وإنّ الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال:
« والله ما قوتل شبيب قطّ قبلها [ مثلها ]. ولّى هاربا، وترك امرأته يكسّر في استها القصب. » ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجّاج:
« احذر بياته، وحيث ما لقيته فنازله، فإن الله قد فلّ حدّه وقصم نابه. » فخرج حبيب في أثر شبيب حتى نزل الأنبار.
وبعث الحجّاج إلى العمّال أن:
« دسّوا إلى أصحاب شبيب: أنّ من جاءنا منكم فهو آمن. » فكان كلّ من ليست له بصيرة ممّن هدّه القتال يجيء فيؤمن. وقبل ذلك ما كان الحجّاج نادى فيهم يوم هربوا أنّ:
« من جاء منكم فهو آمن. » فتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه.
وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى دنا من عسكرهم ونزل، فصلّى بهم المغرب.
قال أبو زيد السكسكي: أنا والله في أهل الشام ليلة جاء شبيب، فبيّتنا. قال:
فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعا وعلى كلّ ربع أمير، وقال لكلّ ربع منّا:
« ليجزئ كلّ ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم هذا الربع الآخر.
فإنّه بلغني أنّ الخوارج منّا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مبيّتون ومقاتلون. » فمازلنا على تعبئتنا حتى جاءنا شبيب، فبيّتنا، فشدّ على ربع منّا، فضاربهم طويلا. فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل إلى الربع الآخر، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء. قال: ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألزّ بنا حتى قلنا: لا يفارقنا. ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدى والأرجل، وفقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منّا نحوا من مائة، وو الله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملّونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيت الرجل ما يضرب الرجل منهم فما يضرّه شيئا من الإعياء والضعف. ولقد رأيت الرجل منّا يقاتل جالسا ينفح بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء.
فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه:
« اركبوا! » وتوجّه منصرفا عنّا.
قال فروة بن لقيط - وكان شهد معه مواطنه كلّها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة:
« ما أشدّ هذا الذي بنا، لو كنّا إنّما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه. » فقال أصحابه:
« صدقت يا أمير المؤمنين. » قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم، ولا مقالته له:
« يا سويد! قتلت أمس منهم رجلين: أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيّة أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه، وخرجت معه، فقال لي:
« كأنّك لم تشتر علفا. » فقلت:
« إنّ لي رفقاء قد كفونى ذلك. » فقلت له:
« أين ترى عدوّنا هذا؟ » فقال:
« بلغني أنه نزل قريبا منّا، وأيم الله، لوددت أنّى قد لقيت شبيبهم هذا. » قلت:
« فتحبّ ذاك؟ » قال:
« نعم. » قلت:
« فخذ حذرك، فأنا والله شبيب. » وانتضيت سيفي، فخرّ والله ميّتا. فقلت له:
« ارتفع ويحك! » وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات. فانصرفت راجعا، فاستقبل الآخر راجعا من القرية، فقال:
« أين تذهب هذه الساعة، وإنّما يرجع الناس إلى عسكرهم. » فلم أكلّمه، ومضيت يقرّب بي فرسي، واتبعني حتى لحقني، فعطفت عليه، وقلت له:
« ما لك؟ » قال:
« أنت والله من عدوّنا. » فقلت:
« أجل والله. » فقال:
« إذا لا تبرح والله حتى أقتلك أو قتلتني. » وحملت عليه، فحمل عليّ، فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته في شدّة نفس ولا إقدام، إلّا أنّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته.
ذكر مكيدة لشبيب

بلغ شبيبا أنّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا ألّا يفرّون من شبيب حتى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط في أذنابها ترسه في ذنب كلّ فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يقال له: حيّان، كان بئيسا شجاعا، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتى ناحية من العسكر، فأمر أصحابه
أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كلّ رجلين فرسا، ثم يمسّوها الحديد حتى يجد حرّه ويخلّوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال:
« من نجا منكم فإنّ موعده هذه التلعة. » وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به. فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم به. ثم وغلبت في العسكر، ودخل هو يتلوها محكّما، فضرب الناس بعضهم ببعض وماجوا.
فقام حبيب بن عبد الرحمن فنادى:
« أيها الناس إنّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يبين لكم الأمر. » ففعلوا، وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رءاهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنه. فلما هذأ الناس، ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيّان، فقال:
« أفرغ على رأسى من الماء يا حيّان. » فلما مدّ رأسه ليصبّ عليه من الماء، همّ حيّان بضرب عنقه وقال لنفسه:
« لا أجد مكرمة لي ولا ذكرا أرفع من قتل هذا في هذه الخلوة، وهو أمانى عند الحجّاج. » فأخذته الرعدة حيث همّ بما همّ به. فلما أبطأ بحلّ الإداوة، قال:
« ما يبطئك بحلّها. » وتناول السكين من موزجه، فخرقها به، ثم ناوله إيّاها، فأفرغ عليه من الماء.
قال حيّان: منعني والله الجبن وما أخذنى من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به، وما كنت أعهد نفسي جبانا.
ثم خلا شبيب بأصحابه وعسكره.
ذكر هلاك شبيب في هذه السنة باتفاق سيء