ثم إنّ الحجّاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى خاصّة، وكلّ ذي جزء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرحمن، فشقّ عليه، وقال:
« تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه! » وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مصاص بن صيفي على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسّان الفهري، وعلى ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري. وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس: هو في كتيبة، وسويد في كتيبة، وقعنب في كتيبة، وخلّف المحلّل في عسكره. فلما حمل سويد وهو في ميمنته، على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته، على ميمنة سفيان، وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليّا حتى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه.
قال يزيد السكسكيّ: والله لقد كرّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرّة كلّ ذلك لا نزول من صفّنا.
فقال لنا سفيان:
« لا تفرّقوا، ولكن ليزحف الرجال إليهم زحفا. » ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساء أشدّ قتال يكون لقوم قطّ. فما هو إلّا أن نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله قطّ، ولا ظننّاه يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال:
« ارشقوهم بالنبل. » وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفّهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أمير. فلما رشقوهم شدّوا عليهم.
فلما شدّوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثم كرّوا على أصحاب النبل كرّة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثم عطف علينا يطاعننا حتى اختلط الظلام. ثم انصرف عنّا.
فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه:
« أيها الناس، دعوهم، لا تتبعوهم حتى نصبّحهم. » قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحبّ إلينا من أن ينصرفوا عنّا.
قال فروة بن لقيط: فما هو إلّا أن انتهينا إلى الجسر، فقال:
« اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحوا باكرناهم إن شاء الله. » فعبرنا أمامه وتخلّف في آخرنا، فأقبل [ على ] فرس وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، وزلّ حافر فرس شبيب عن حرف السفينة، فسقط في الماء. فلما سقط قال:
« لِيَقْضِيَ الله أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا. » واغتمس في الماء. ثم ارتفع فقال:
« ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. » فهذا حديث أكثر الناس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنه كان معه رجال كثير ممّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلّف في أخريات الناس من أصحابه، قال بعضهم لبعض:
« هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة؟ » فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، ففزع الفرس ونفر ووقع في الماء فغرق. والحديث الأول أشهر.
فتحدّث جماعة من أصحاب سفيان، قالوا: لما سمعنا صوت القوم: « غرق أمير المؤمنين، » عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافر ولا آثر. فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا. فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت الناس يزعمون أنه شقّ عن بطنه وأخرج قلبه. فكان مجتمعا صلبا كأنّه صخرة وانّه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
فيحكى أن أمّ شبيب كانت لا تصدّق أحدا نعاه إليها. وكان قيل مرارا: « قتل » فلا تقبل. فلما قيل: إنّه غرق، قبلت وبكت. فقيل لها في ذلك، فقالت:
« إني رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من قبلي شهاب نار، فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء. »
ذكر ما كان من المهلب والأزارقة

كان المهلّب مقيما بسابور يقاتل قطريا في الأزارقة بعد ما صرف الحجّاج عتّاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة. ثم إنّه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدى الخوارج، وفارس في يد المهلّب.
وكان لا يأتيه من فارس مادّة، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلّب حتى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب حتى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالا شديدا حتى حازهم عن فارس كلّها. فلما صارت فارس كلّها في يد المهلّب، بعث الحجّاج عليها عمّاله وأخذها من المهلّب.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجّاج:
« أمّا بعد، فدع بيد المهلّب خراج فارس وحيالها، فإنّه لا بدّ للجيش من قوّة، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسّا ودار بجرد، وكورة إصطخر. » فتركها للمهلّب. فبعث المهلّب عليهما عمّاله وكانتا قوّة له، وأقام المهلّب على قتال الأزارقة.
ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم

فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطريّ عاملا له على ناحية كرمان يقال له المقعطر، فقتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج إلى قطريّ، فذكروا ذلك له وقالوا له:
« أمكنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا. » فقال لهم:
« ما أرى أن أفعل. رجل تأوّل فأخطأ في التأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوي الفضل والسابقة فيكم. » قالوا:
« بلى! » فقال لهم:
« لا! » فوقع الاختلاف بينهم. فولّوا عبد ربّ الكبير وخلعوا قطريّا، وبقي مع القطريّ عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجّاج فكتب إلى المهلّب:
« أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أشدّ. والسلام. » فكتب إليه:
« أمّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكلّ ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما دام بعضهم يقتل بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تمّوا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا، فأناهضهم على بقيّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكة إن شاء الله. » فكفّ عنه الحجّاج وتركهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا. ثم إنّه فلّهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلّا قليل وسباهم، لأنّهم كانوا يسبون المسلمين.
ذكر سبب هلاكهم

كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتّتهم بالاختلاف. ولما وهي أمر قطريّ توجّه مريدا طبرستان وبلغ أمره الحجّاج، فوجّه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأقبل سفيان حتى أتى الريّ، ثم اتبعهم. وكتب الحجّاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن:
« اسمع وأطع لسفيان. » فأقبل إلى سفيان، وسار معه في طلب قطريّ حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، ووقع عن دابّته في أسفل الشعب، فتدهدأ حتى خرّ إلى أسفله، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:
« اسقنى ماء. » وقد اشتدّ عطشه. فقال العلج له:
« أعطنى شيئا حتى أسقيك. » فقال:
« ويحك! ما معي والله إلّا ما ترى من سلاحي، وأنا مؤتيكه إذا أتيتنى بماء. » قال:
« لا، بل أعطنيه الآن » قال:
« لا، ولكن ائتني بماء قبل. » فانطلق العلج حتى أشرف على قطريّ، ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه، فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريّا، غير أنه يظنّ أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة، فقتلوه، وادّعى قتله جماعة.
وفي هذه المدّة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أمية بن عبد الله بكير بن وساج بخراسان
ذكر السبب في ذلك

حقد حقده عتّاب اللّقوة، وكان في صحبة بكير. وكنّا ذكرنا أمر بكير مع أميّة، وأنّ أميّة لمّا ولى خراسان سامح بكيرا، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملا، ولكنّه ولّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شرطته فأباها. فتجهّز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة. ثم وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميّة:
« إنّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه. » فراسله أميّة:
« أقم، لعلّى أغزو، فتكون معي. » فغضب بكير وقال:
« كأنّه يريد أن يضارّنى. » وكان عتّاب اللّقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلما أقام بكير أخذه غرماؤه فحبس حتى أدّى عنه بكير.
ثم إنّ أميّة أجمع بعد مدّة على الغزو ليغزو بخارى، ثم يأتى موسى بن خازم بالترمذ. فتجهّز الناس معه واستخلف ابنه زيادا على خراسان وسار معه بكير.
فقال له بحير:
« إني لا آمن إن أستخلف أحدا، أن يتخلّف عني الناس، فقل لبكير، فليكن في الساقة وليحشر الناس. » فأمره به، فكان على الساقة، حتى أتى النهر.
وقال أميّة لبكير:
« اقطع يا بكير. » فقال عتّاب اللّقوة:
« أصلح الله الأمير، اعبر أنت، ثم يعبر الناس بعدك. » فعبر، ثم عبر الناس. فقال أميّة لبكير:
« قد خفت ألّا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولّيتكها، فزيّن ابني وقم بأمره. » فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أميّة إلى بخارى. فقال عتّاب اللّقوة لبكير لمّا عبر وقد مضى أميّة:
« إنّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاء يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن. » قال:
« فما ترى؟ » قال:
« أحرق هذه السفن، وامض إلى مرو، فاخلع أميّة وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما. » فقال بكير:
« إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. » فقال:
« أيخاف عدم الرجال؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئت، إن هلك هؤلاء الذين معك. » قال:
« يهلك المسلمون. » قال:
« إنّما يكفيك مناد ينادى: « من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا من المسلمين أسمع من هؤلاء وأطوع منهم. » قال:
« فيهلك أميّة ومن معه. » قال:
« ولم يهلك والناس معه لهم عدّة وعدد ونجدة وسلاح كامل ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين. » فلم يزل عتّاب بهذا وأشباهه حتى [ حرق ] بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أميّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميّة، فأجابوه. وبلغ أميّة فصالح أهل بخارى على شيء يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتّخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم:
« ألا تعجبون من بكير؟ إني قدمت خراسان، فحذّرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كلّه ولم أفتّشه عن شيء، ولا أحدا من عمّاله، ثم عرضت عليه شرطتي، فأبى، فأعفيته، ثم ولّيته، فحذّرته، وأمرته بالمقام، وما كان ذلك إلّا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، وولّيته الأمر، فكفر ذلك، وكافأنى بما ترون. »
فقال له قوم:
« تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتّاب اللقوة. » ثم إنّ أميّة لمّا تهيأت له السفن عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم.