« أمّا أنا فواثق بك وابن عمّك أعلم بك مني، فانظر ما يقول لك. » فقال يزيد لظهير:
« أبيت يا با سعيد إلّا حسدا. ما يكفيك ما ترى من الذلّ، تشرّدت عن العراق عن أهلى، وصرت بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرحم؟ » فقال له ظهير:
« أما والله، لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا ابنيك قدامة والضحّاك. » فدفعهما، فكانا في يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلا يجدها حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلا إلى زياد ليعزّيه ومعه ظهير وطائفة من أصحابه وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدّم ظهير في أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه في نهر الصغانيان، فنجا سباحة، وحمل ثابت إلى منزله.
فلمّا أصبح طرخون أرسل إلى ظهير:
« ائتني بابني يزيد. » فأتاه بهما فقتلهما. وكان يزيد بن هذيل سخيّا شجاعا شاعرا، وعاش ثابت سبعة أيّام، ثم مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياما ضعيفا وانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال:
« موسى يعجز أن يدخل متوضّأه، فكيف يبيّتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلة أحد العسكر. » فلمّا ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثلاثمائة، وأخوه في ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل في ثلاثمائة، ورقبة بن الحرّ في ثلاثمائة، وقال لهم:
« تفرّقوا أرباعا حتى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرّ أحد منكم بشيء إلّا ضربه. » فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرّون بدابّة ولا رجل ولا خباء، ولا جوالق إلّا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن خازم على سرادق طرخون.
فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح في خاصرته فشبّ ودلّى بنوح حتى سقط في نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسى:
« كفّ أصحابك، فإنّا نرتحل إذا أصبحنا. » فرجع موسى إلى عسكره، وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كلّ قوم بلادهم.
فكان أهل خراسان يقولون:
« ما رأينا قطّ مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان، حتى أتى ملكا، فغلبه على مدينته، ثم سار إليه الجنود من العرب والعجم والترك. » فكان يقاتل العرب في أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يعازّه فيه أحد.
فلمّا ولى المفضّل خراسان أخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال:
« إني أريد أن أوجّهك إلى موسى بن عبد الله. » قال:
« والله، لقد وترني، وإني لثائر بابن عمّى ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستمونى، وشرّدتم بنى عمّى، واصطفيتم أموالهم. » فقال له المفضّل:
« دع عنك هذا، وسر، فأدرك بثأرك. »
فوجّهه في ثلاثة آلاف، وقال له:
« مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان. » فنادى بذلك في السوق، فتسارع الناس، وكتب المفضّل إلى أخيه مدرك وهو ببلخ أن يسير معه. فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يعرف اليوم بجزيرة عثمان، في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّيل وطرخون، فقدموا عليه، وحصروا موسى، فضيّقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرّة، فقال يوما لأصحابه:
« حتى متى؟ أخرجوا بنا، فاجعلوه يومكم، إمّا ظفرتم وإمّا قتلتم. » وقال لهم:
« اقصدوا للصّغد والترك. » وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة وقال له:
« إن قتلت فلا تسلمنّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مدرك بن المهلّب. » وخرج، وصيّر بإزاء عثمان قوما من أصحابه وقال:
« لا تهايجوه حتى يقاتلكم. » وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرّت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصين، فقاتلهم، فعقر به، فسقط، فنادى مولى له:
« احملنى ويحك. » فقال:
« الموت كريه، ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا معا، وإن هلكنا هلكنا معا. »
فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب، فقال:
« وثبة موسى وربّ الكعبة. » فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة في يد النضر، فدفعها إلى مدرك وآمنه، وكتب المفضّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك في سنة خمس وثمانين.
ثم دخلت سنة ست وثمانين

وفيها مات عبد الملك بن مروان. فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر.
أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب قبيصة بن ذؤيب
كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذؤيب الخزاعيّ، ويكنّى أبا إسحق، وكان خاصّا به، وكان يتولّى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محلّه منه أنّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثم يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها.
وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز بعد عبد الملك، فهمّ عبد الملك، لمّا تمكّن واستقام أمره، بخلعه والعقد لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال:
« انتظر، فلعلّ الموت يأتى عليه فيكفيكه. » وكان قلّده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثم دخل على عبد الملك فعزّاه بأخيه، وعقد لابنيه الوليد وسليمان العهد بعده، وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه.
أبو الزعيزعة

وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيحكى أنّه حضر زفر بن الحارث يوما عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث:
« كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟ » فقال زفر:
« الحمد لله الذي نصرك على كره من كره. » فقال أبو الزعيزعة:
« ما كره ذلك إلّا كافر. » فقال له زفر:
« كذبت! قال الله عز وجل لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ من بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، أمؤمنين سمّاهم أم كفّارا؟ » فغضب عبد الملك، فقال زفر:
« يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قلت: الحمد لله الذي نصرك، فقد كنت مسرورا بذلك، أما كنت تمقتني ويمقتني الله وأنا أقاتلك تسع سنين؟ » فقال له: