« بل كان غاشّا، قد مضى لسبيله بذنبه، فاغدوا على قتال عدوّكم والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به. » فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحضّ أهل الرايات.
فكانت بين الناس مشاولة. ثم إنّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلمّا سار مرحلتين نقضوا، وكفروا، وقتلوا العامل وأصحابه وجدعوا آنفهم وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة، رجع إليهم وقد تحصّنوا، فقاتلهم شهرا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة، فعلّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلّقونه، فقتل أربعين رجلا من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان في من أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين. فقال لقتيبة:
« أنا أفدى نفسي. » فقال له سليم الناصح:
« ما تبدل؟ » قال:
« خمسة آلاف حريرة صينيّة قيمتها ألف ألف. » قال قتيبة:
« ما ترون؟ » قالوا:
« نرى أنّ فداءه زيادة في غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ » قال:
« لا والله، لا يروّع بك مسلم أبدا. » وأمر به فقتل. وأصاب في بيكند من آنية الذهب والفضّة ما لا يحصى. فولّى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان، وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا في بيكند شيئا كثيرا، فصار في أيدى المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.
ذكر اتفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين
كان السبب الذي سمّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنّ مسلما الباهليّ قال لو ألان:
« إنّ عندي مالا أحبّ أن أستودعكه. » فقال:
« أتريد أن يكون مكتوما أو لا؟ » فكره أن يعلمه الناس. قال:
« لا، بل أحبّ أن تكتمه. » قال:
« ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا. » وأمره إذا رأى رجلا جالسا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال:
« نعم. » فجعل المسلم المال في خرج وحمله على بغل وقال لمولى له:
« انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلا جالسا، فخلّ عن البغل وانصرف. » فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بنى تغلب، فجلس في ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرجل جالسا، فخلّى عن البغل ورجع. فقام التغلبيّ، فلما رأى البغل والمال ولم ير معه أحدا قاد البغل إلى منزله وقبض المال إليه.
وكان ظنّ مسلم أنّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه وقال:
« ما لي. » قال:
« ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال. »
فكان مسلم يشكوه ويتنقّصه. فأتى يوما مجلس بنى ضبيعة، فشكاه، والتغلبيّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج إليه، وقال:
« أتعرفه؟ » قال:
« نعم، » قال:
« والخاتم؟ » قال:
« نعم. » قال:
« فاقبض مالك. » وأخبره الخبر. فكان مسلم بعد ذلك يأتى القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخوّنه فيعذره ويخبرهم الخبر.
ذكر رأي للحجاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن
غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين، فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجّاج:
« صوّرها لي والطرق إليها. » فبعث إليه بصورتها. فكتب إليه الحجّاج أن:
« ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله عز وجل ممّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا. » فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك في سنة تسعين، من حيث أشار به الحجّاج، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلمّا جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد:
« اجعلونا على حدة وخلّوا بيننا وبين قتالهم. » فقال لهم قتيبة:
« شأنكم، تقدّموا. » فتقدّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا، ثم جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، وقاتلوهم حتى ردّوهم. فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة:
« من يزيلهم لنا عن هذا الموقف؟ » فلم يقدم عليهم أحد والأحياء كلّهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بنى تميم فقال:
« يا بنى تميم، أنتم بمنزلة الحطمة، فيوما كأيّامكم، فداؤكم أبي. » فأخذ اللواء وكيع بيده وقال:
« يا بنى تميم، أتسلمونى اليوم؟ » فقالوا:
« لا يا با المطرف. » وهريم بن طحفة المجاشعيّ على خيل بنى تميم ووكيع رأسهم. فأحجموا جميعا، فقال وكيع:
« يا هريم، قدّم! »
ودفع إليه الراية، وقال:
« قدّم خيلك. » فتقدّم هريم ودبّ وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدوّ، فوقف وقال له وكيع:
« أقحم يا هريم. » فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول وقال:
« أنا أورد وأقحم خيلى هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنّك لأحمق. » قال:
« يا بن اللخناء لا أراك تردّ أمري. » وحدفه بعمود كان معه. فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:
« ما بعد هذا أشدّ من هذا. » وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر وقال لأصحابه:
« من وطّن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه. » فما عبر معه إلّا ثمانمائة رجل، فدبّ حتى إذا أعيوا [ أقعدهم ] فأراحوا حتى إذا دنوا من العدوّ جعل الخيل مجنّبتين، وقال لهريم:
« إني مطاعن القوم فاشغلهم عنّا بالخيل وقل للناس: شدّوا. » فحملوا، فو الله ما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم [ فى ] خيله عليهم، فطاعنوهم بالرماح، فما كفّوا عنهم حتى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة:
« من جاء برأس فله مائة. » فزعم موسى بن المتوكل القريعيّ، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بنى قريع كلّ رجل يجيء برأس، فيقال:
« ممّن أنت؟ » فيقول:
« قريعيّ. » فجاء رجل من الأزد برأس، فقالوا له:
« من أنت؟ » فقال:
« قريعيّ. » قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال:
« كذب والله، أصلح الله الأمير، والله لابن عمّى. » فقال له قتيبة:
« ويحك! ما الذي دعاك إلى هذا؟ » قال:
« رأيت كلّ من جاء برأس قال: قريعيّ. فظننت أنّه ينبغي لكلّ من جاء برأس أن يقول ذلك. » فضحك قتيبة حتى استغرب.
وفتح الله على يديه بخارى، وفضّ أولئك الجمع. فلمّا تمّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلّمه، فأمر قتيبة رجلا، فدنا منه فسأل الصلح على فدية يؤدّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه وأخذ منه رهنا حتى بعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر غدر نيزك ونقضه عهد قتيبة وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إياه
أمّا طرخون فقد ذكرنا أنّه هاب قتيبة فصالحه، وأمّا نيزك فإنّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنّه لمّا فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصّته:
« إني قد هبت هذا العربيّ لما يتمّ على يده من الفتوح وأنا معه ولست آمنه، وذلك أنّ العربيّ بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص، وإن أنا غزوته ثم أرضيته شيئا نسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلمّا أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعت، كان الرأي. » قالوا:
« فافعل. » فاستأذنه في الرجوع إلى طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه:
« أحدّوا السير. » فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار. فنزل يصلّى فيه ويتبرّك به، وقال لأصحابه:
« إني لا أشك أنّ قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنّه لا يبلغ البروقان حتى يبلغ طخارستان. » فبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى نبلغ شعب خلم، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلمّا مرّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك في أصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة وهو بالبروقان في طلبه، فوجده قد دخل في شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطرّ إليه، أن يأتيه ويؤمنه في بلاده. فأجابه إلى ذلك، وضمّ ثقله.
وكان جبغويه ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلّا أنّه كان ضعيفا واسمه الشذّ، فأخذه نيزك وقيّده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه ويمنعه. فلمّا استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وكان محبّبا مصدّقا عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك في قبل الشتاء، وقد تفرّق عنه الجند، فلم يبق معه إلّا أهل مرو، فبعث أخاه عبد الرحمن إلى بلخ في اثنى عشر ألفا إلى البروقان وقال:
« أقم ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو طخارستان واعلم أنّى قريب منك. » فسار عبد الرحمن، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة، حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أهل أبر شهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأنّ ملكها طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة.
فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، وبلغ مرزبان مرو الروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الروذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقّاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا، وخرج صاحب الجوزجان هاربا، فترك أرضه ولحق بالجبال.
ثم مضى يتبع أخاه عبد الرحمن وكان خلّف نيزك على فم الشعب مقاتلة، وترك أيضا في قلعة من وراء الشعب مقاتلة، فأقام قتيبة أيّاما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يفضى إلى نيزك إلّا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو في ذاك متحيّر إذ قدم عليه [ الرؤب خان ] ملك الرؤب، فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلّوهم وهرب من كان في الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه، الشعب، وسار إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن، وبلغ خبره نيزك، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرّز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرّز، فتحرّز نيزك في الكرّز وليس إليه مسلك إلّا من وجه واحد وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدوابّ. فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدريّ وجدّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح فقال له:
« انطلق إلى نيزك، فاحتل أن يأتينى به بغير أمان، فإن أعياك وأبي فآمنه واعلم أنّى إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك. » قال:
« فإن كنت فاعلا فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني. » وكان بينهما فرسخان. قال:
« نعم. » فكتب له.
فلمّا قدم على عبد الرحمن، قال:
« ابعث رجالا، فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا، فليحولوا بيننا وبين الشعب. » قال: فبعث عبد الرحمن خيلا، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة التي تبقى أيّاما أوقارا حتى أتى نيزك، فقال له نيزك:
« خذلتني يا سليم! » قال:
« ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأت إلى نفسك، خلعت وغدرت. » قال:
« دعني من العتاب، ما لرأى؟ » قال:
« الرأي أن تأتيه، فقد أمحكته وليس ببارح موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم. » قال:
« يا سليم آتيه من غير أمان. » قال:
« ما أظنّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضبا، ولكني أرى ألّا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذلك أن يستحى منك ويعفو عنك. » قال:
« أترى ذاك؟ » قال:
« نعم. » قال:
« إنّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رءانى قتلني. » قال سليم:
« ما أتيتك إلّا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وتعود حالك عنده إلى ما كانت. فأمّا إذا أبيت فأنا منصرف. » قال:
« فتغذّ الآن. » قال:
« لأظنّكم في شغل عن تهيئة الطعام ومعنا طعام كثير. » ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزك وتبيّن ذاك في وجهه. فقال له سليم:
« يا با الهيّاج، إني لك من الناصحين، إني أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معي حتى تأتى قتيبة. » قال:
« ما كنت لآتيه على غير أمان وإنّ ظنّى به أنّه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ
[ الأمان ] أعذر لي وأرجى أن يؤمنني. » قال:
« فقد آمنك، أفتتّهمني؟ » قال:
« لا. » قال:
« فانطلق معي. » فقال له أصحابه:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلّا حقا. » فدعا بدوابّه وخرج مع سليم فلمّا انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال:
« يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت. أموت ساعة أعاين قتيبة. » قال:
« كلّا! » فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجدريّ. فلمّا خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلّفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم:
« هذا أوّل الشرّ. » قال:
« لا تفعل، تخلّف هؤلاء عنك خير لك. » وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم.
فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرحمن أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسّام الليثي وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك. فجعل ابن بسّام نيزك في قبّته وحفر حول القبّة خندقا، فوضع عليه حرسا، ووجّه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرّز من المتاع ومن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له:
« هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ » قال:
« لي عند سليم. » قال:
« كذبت. » وقام ودخل وردّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيّام ولا يظهر للناس. وتكلّم الناس في أمر نيزك، فقال بعضهم:
« لا يحلّ قتله. » وقال بعضهم:
« لا يحلّ له تركه. » وخرج قتيبة في اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال:
« ما ترون في قتل نيزك؟ » فاختلفوا: فقال قائل:
« اقتله. » وقال قائل:
« قد أعطيته عهدا، فلا تقتله. » وقال قائل:
« لا تأمنه على المسلمين. » فدخل ضرار بن الحصين الصبّى. فقال:
« ما تقول يا ضرار؟ » قال:
« أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله لئن مكّننى منه لأقتلنّه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه. » فأطرق قتيبة طويلا ثم قال:
« والله، لئن لم يبق من أجلى إلّا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه، » وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقتلوا وهم سبعمائة.
وفي رواية أخرى: إنّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة:
« هل بك قوّة؟ » قال:
« نعم، وأزيد. » وكانت في بكر أعرابيّة، قال:
« دونك هؤلاء الدهاقين. » فقتل يومئذ اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تدعى:
وخش خاشان.
ثم أذن قتيبة للسيل والشذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
وكان الحجّاج يقول:
« بعثت قتيبة فتى غرّا. فما زدته ذراعا إلّا زادني كراعا. »
فتح شومان وكس ونسف
ثم غزا قتيبة شومان وكسّ ونسف، ففتحها عنوة، وسرّح أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، فسار حتى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون:
« إنّك قد رضيت بالذلّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ! » فقال:
« إنّ عدوّنا قويّ، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع لشملنا. » فقالوا:
« لا حاجة لنا فيك. » قال:
« فولّوا من أحببتم. » فولّوا غورك وحبسوا طرخون. فقال طرخون:
« ليس بعد سلب الملك والحبس إلّا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبّ إليّ من أن يليه مني غيري. » واتّكأ على سيفه حتى خرج من ظهره.
فتح خوارزم
وغزا قتيبة خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السغد، وذلك في سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان خرّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك، جارية أو دابّة أو متاعا فاخرا، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أنّ عند أحد منهم بنتا أو أختا جميلة أرسل فغصبه إيّاها، فإذا شكا إلى الملك. قال:
« لا أقوى عليه. » وقد ملأه مع هذا غيظا. فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من كان يضادّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث في ذلك رسلا ولم يطلع أحدا من مرازبته على ما كتب به. فقدم رسله على قتيبة في آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيّأ للغزو، فأظهر قتيبة أنّه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أحبّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم:
« إنّ قتيبة يريد السغد وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم في ربيعنا. » فأقبلوا على الشرب والتنعّم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار دشت، فقال خوارزم شاه لأصحابه:
« ما ترون؟ » فقالوا:
« نرى أن نقاتله. » قال:
« لكني لا أرى ذلك، لأنّه عجز عنه من هو أقوى منّا وأشدّ شوكة، ولكنّا نؤدّى إليه شيئا نصرفه به عامنا ونرى رأينا. » قالوا:
« فرأينا رأيك. » فأقبل خوارزم شاه حتى نزل في مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهنّ، وقتيبة في هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر، فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يعينه على ملك خام جرد وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له، وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادى خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلمّا جاء بهم عبد الرحمن أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه.
فحكى المهلّب بن إياس أنّه أخذت سيوف الأشراف يضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يضرب به شيء إلّا أبانه. فحسدنى بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه.
قال: فرأيت السيف وكان أبو الذيّال يقول: هو عندي بعينه.
فتح السغد
ولمّا أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المجسّر بن مزاحم السلمى فقال:
« إنّ لي حاجة فأخلنى. » فأخلاه، فقال:
« إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن. فإنّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنّما بينك وبينهم عشرة أيّام. » فقال له قتيبة:
« أشار عليك أحد بهذا؟ » قال:
« لا. » قال:
« فأعلمته أحدا؟ » قال:
« لا. » قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« فو الله، لئن تكلّم به أحد لأضربن عنقك. » فأقام يومه ذلك. فلمّا أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال:
« سر في الفرسان والمرامية وقدّم الأثقال إلى مرو. » فوجّهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو يومه كلّه. فلمّا أمسى كتب إليه:
« إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد واكتم الأخبار فإني بالأثر. » فلمّا أتى عبد الرحمن الخبر أمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال:
« إنّ الله، عز وجل، قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم. وقال الله، عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. فسيروا على بركة الله فإني أرجو أن تكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة. » فأتى السغد وقد سبقه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال:
« إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. » فحصرهم شهرا، فقاتلوه في حصارهم من وجه واحد، وخاف أهل السغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وإخشيذ فرغانة:
« إنّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم. » فأرسلوا إليهم أن:
« أرسلوا إليهم من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. » وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشدّاء الأبطال، فوجّهوهم وأمروهم أن يبيّتوا عسكرهم. وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب قتيبة ثلاثمائة أو ستمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
وكان ملك الشاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمّا أتاهم كتاب غورك قالوا:
« إنّ صاحب السغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كنّا أضعف وأذلّ، فإنّا والله ما نؤتى إلّا من سفلتنا وإنّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيّون بهذا الأمر. » فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم:
« أخرجوا حتى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنّه مشغول بحصار السغد. » وولّوا عليهم ابنا لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكيناه من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم: شعبة بن ظهير، وزهير بن حيّان، وعدّة من أمثالهم، فقال لهم:
« إنّ عدوّكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غرّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضّلكم [ الله ] بدينه، فأبلوا الله بلاءا حسنا تستوجبون به الثواب مع الذبّ عن أحسابكم. » ووضع قتيبة عيونا على العدوّ، حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم.
وفرّق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يساره ويمينه، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله. فلمّا رأوه شدّوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح شدّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم ير قوم كانوا أشدّ منهم.
فتحدّث شعبة قال: إنّا لنختلف عليهم بالضرب والطعن إذ تبيّنت قتيبة، فضربت ضربة أعجبتنى وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت:
« كيف ترى بأبي أنت وأمي؟ » فقال:
« اسكت دقّ الله فاك. » فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب، ونحتزّ الرؤوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر. فلم أر قطّ جماعة جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منّا رجل إلّا معلّقا رأسا معروفا باسمه، وسلبا من جيّد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال:
« جزاكم الله خيرا عن الدين والأحساب. » ثم أكرمنى من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيّان العدوى وحليسا الشيبانى. فظننت أنّه رأى منهما مثل الذي رأى مني.
وكسر ذلك أهل السغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبى قتيبة وقال:
« أنا ثائر بدم طرخون - يعنى صاحبهم - كان مولاي، وفي ذمّتى. » ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو في ذلك لا يقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم.
فأرسل إليهم غورك:
« إنّك إنّما تقاتلني بإخوتى وأهل بيتي من العجم فأخرج إلى العرب. » فغضب قتيبة ودعا الجدليّ وقال:
« اعرض الناس وميّز أهل البأس. » فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء، فجعل يدعو برجل رجل فيقول:
« ما عندك؟ » فيقول العريف:
« شجاع. » ويقول:
« ما هذا؟ » فيقول:
« محتضر. » ويقول:
« ما هذا؟ » فيقول:
« جبان. » فسمّى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعاء والمحتضرين، فترك لهم رثّ السلاح، ثم زحف بهم فقاتل بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدّوها بغرائر الدخن وجاء رجل حتى قام على الثلمة، فشتم قتيبة شتما قبيحا فضيحا بالعربيّة. وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم:
« اختاروا منكم رجلين. » فاختاروا. فقال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 14 (0 من الأعضاء و 14 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)