يزيد بن المهلب يفتح جرجان الفتح الآخر

ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.
فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه في الأيّام ويقاتلونه ثم يرجعون إلى حصنهم.
فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا في الطريق يرقى في الجبل فاتّبعه وقال لمن معه:
« قفوا مكانكم. » ووقل في الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتى ظفر بأصحابه ينتظرون. ثم رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.
فلمّا رءاه يزيد قال:
« ما عندك؟ » فقال:
« أتريد أن تدخل وجاة بغير قتال؟ » قال:
« نعم. » قال:
« جعالتي؟ » قال:
« احتكم. » قال:
« أربعة آلاف. » قال:
« بل أضعافها. » قال:
« عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الأحساب. » فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال:
« الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض. »
فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه:
« إن غلبت على الحياة، فلا تغلبن علي الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما. » وقال للناس:
« إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتى إذا كان في السحر فكبّروا، ثم توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها. » فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلّا قتله.
وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم إلّا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون.
غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتى قتلوهم.
يزيد بن المهلب يدخل باب جرجان ويبر يمينه في أهلها

وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا إلى اندر هرز وادي جرجان وقال:
« من طلبهم بثأر فليقتل. »
فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة في الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة.
وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم ذلك قال:
« إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله. » وكتب في الكتاب أن:
« قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذي حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. »
ذكر رأي أشير به على يزيد بن المهلب فلم يقبله فعاد وبالا عليه

فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرّة:
« لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته في دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثم تشافهه بما أحببت وتقصّر في الكتاب. فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر. »
فأبى يزيد وأمضى الكتاب.
ودخلت سنة تسع وتسعين

وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر.
فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس.
خلافة عمر بن عبد العزيز

واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.
قال رجاء بن حبوة: فقلت:
« ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. » فقال سليمان:
« أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه. » قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرّقه ودعاني، فقال:
« ما ترى في داود بن سليمان؟ » يعنى ابنه. قلت:
« هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ هو أم ميّت. » فقال لي:
« فمن ترى؟ » قلت:
« رأيك يا أمير المؤمنين. » « وأنا أريد أن أنظر من يذكر. » قال:
« كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ » فقلت:
« أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. » فقال:
« هو والله على ذلك. » ثم قال:
« والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده. » ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال:
« فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به. » قلت:
« رأيك. » فكتب:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إني ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك.
فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم. » وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء:
« اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه. » ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: « ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين. » قال:
« نعم. »
فدخلوا. فقال لهم سليمان: