ابتداء دعوة بنى هاشم

وفي هذه السنة، وهي سنة مائة، وجّه محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس من أرض السراة ميسرة إلى العراق، ووجّه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السرّاج وحيّان العطّار رجال إبراهيم بن سلمة إلى خراسان دعاة، وعلى خراسان يومئذ الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فدعوا إليه وكتبوا بأسماء من استجاب، وبعثوا بالكتاب إلى ميسرة، وبعث به ميسرة إلى محمد بن عليّ. فكان ذلك ابتداء دعوة بنى هاشم.
فاختار أبو محمّد الصادق وهو أبو عكرمة السرّاج لمحمّد بن عليّ، اثنى عشر نقيبا منهم:
سليمان بن كثير الخزاعيّ، ولاهز بن قريط التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائيّ، وموسى بن كعب التميميّ، وخالد بن إبراهيم، والقاسم بن مجاشع، وعمران بن إسماعيل، ومالك بن هيثم الخزاعيّ، وطلحة بن زريق، وأبو حمزة عمرو بن أبي أعين، وشبل بن طهمان وهو أبو على الهرويّ، وعيسى بن أعين.
ثم اختار سبعين رجلا كتب إليهم محمّد بن عليّ كتابا كالسيرة والمثال يسيرون بها.
خلافة يزيد بن عبد الملك

ودخلت سنة احدى ومائة

وفيها ولى يزيد بن عبد الملك الخلافة، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمّد.
وفيها قتل شوذب الخارجي.
ذكر ذلك

قد كنّا ذكرنا خروج من خرج من قبل شوذب لمناظرة عمر. فلمّا مات عمر أحبّ عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يتحظّى عند يزيد بن عبد الملك. فبعث بمحمّد بن جرير في ألفين إلى محاربة شوذب، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر. فلمّا طلع عليهم محمّد بن جرير مستعدّا للحرب، قالوا:
« ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة بيننا وبينكم، أليس قد توادعنا إلى أن يرجع الرسولان؟ » فأرسل إليه محمّد:
« إنّه لا يسعنا ترككم. »
فقالت الخوارج:
« ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح. » فبرز لهم شوذب، فأكثروا القتل في أهل الكوفة وولّوا منهزمين والخوارج في أكنافهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة وجرح محمّد بن جرير في استه.
ورجع شوذب إلى موضعه ينتظر صاحبيه. فجاءا فأخبراه بما جرى وبموت عمر. فأقرّ يزيد بن عبد الملك عبد الحميد على الكوفة، ووجّه من قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أنّ يزيد لا يقارّهم على ما فارقهم عليه عمر. فلعنوه، ولعنوا يزيد. ثم حاربوه وقتلوه وهزموا أصحابه. فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد. ووجّه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في خلق كثير، فقتلوه وهزموا أصحابه. ووجّه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين من أهل البأس والنجدة، فقتلوه وقتل منهم نفرا منهم هدبة اليشكري ابن عمّ شوذب وكان عابدا، وفيهم أبو شبيل مقاتل بن شيبان، وكان فاضلا فيهم سيّدا.
دخول مسلمة الكوفة ومقتل شوذب الخارجي

فلمّا دخل مسلمة الكوفة في ما روى هشام شكا إليه أهلها مكان شوذب وخوفهم منه، وما قد قتل منهم. فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي وكان فارسا شجاعا، فعقد له على عشرة آلاف، ووجّهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه:
« من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنّما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنّما البقاء في الدار الآخرة. »
فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا، فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا حتى خاف الفضيحة، فذمر أصحابه وقال:
« أمن هذه الشرذمة - لا أبا لكم - تفرّون؟ يا أهل الشام يوما كأيّامكم! » فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا ولم يبقّوا منهم أحدا وقتلوا شوذبا - وهو بسطام - وفرسانه، والريّان بن عبد الله اليشكري. فرثاهم الشعراء وأكثروا، إلّا أنّا لا نكتب في هذا الكتاب ما يجرى هذا المجرى، وقد ذكرنا كثيرا منه في اختيارنا من أشعار العرب.
دخول يزيد بن المهلب البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك

وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلّب بالبصرة، فغلب عليها وقد كنّا حكينا هربه من محبس عمر.
ولمّا مات عمر وبويع ليزيد بن عبد الملك بلغه هرب يزيد بن المهلّب. فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله. وكتب إلى عديّ بن أرطاة يعلمه هربه ويأمره أن يطلبه ويستقبله.
فأمّا عديّ بن أرطاة فإنّه أخذ من أولاد المهلّب وعشيرته من وجدهم، فحبسهم. وفيهم: المفضّل، وحبيب ومروان بنو المهلّب، وأفلت محمّد بن المهلّب فلم يقدر عليه.
وأقبل يزيد حتى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام بن مساحق القرشيّ في ناس من أهل الكوفة ذوي بأس، ووجوه الناس وأهل القوّة. فقال:
« انطلق حتى نستقبله، فإنّه اليوم يمرّ بجانب العذيب. »
فمشى هشام قليلا، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال:
« أجيئك به أسيرا، أم آتيك برأسه؟ » فقال:
« أيّ ذلك شئت. » فكان من سمع ذلك منه تعجّب له.
فلمّا خرج هشام مضى إلى العذيب حتى نزله. ومرّ به يزيد بن المهلّب غير بعيد، فلم يتجاسر أحد منهما الإقدام عليه حتى عبروا. ومضى نحو البصرة، وانصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد.
فجمع عديّ بن أرطاة أهل البصرة، وخندق عليها.
فقال عبد الملك بن المهلّب لعديّ بن أرطاة:
« خذ ابني رهينة، واحبسه مكاني وأنا أضمن لك أن أردّ يزيد أخي عن البصرة حتى يأتى فارس وكرمان ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك. » فأبى عليه.
وجاء يزيد مع أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمّد بن المهلّب - ولم يكن ممّن حبس - رجالا من قومه وأهل بيته وناس من مواليه. فخرج حتى استقبله في كتيبة تهول من رءاها، وكان عديّ قد بعث على كلّ خمسين من أخماس البصرة رجلا مرضيّا، وأقبل يزيد بن المهلّب لا يمرّ بخيل من خيولهم ولا قبيلة من قبائلهم إلّا تنحّوا له عن السبيل تهيّبا وإعظاما.
حتى انتهى إلى المغيرة بن عبد الله الثقفيّ وهو على الخيل فاستقبله ليردّه. فحمل عليه محمّد بن المهلّب، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه. وأخذ يبعث إلى عديّ بن أرطاة أن:
« ادفع إليّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإيّاها حتى آخذ لنفسي ما أحبّ من يزيد بن عبد الملك. » فلم يجبه إلى ذلك.
وكان خرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلّب يصلح أمر عمّه يزيد. فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسريّ وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلّب وأهل بيته. وأخذ يزيد بن المهلّب، قبل أن يوافيه حميد، يعطى كلّ من أتاه العطايا العظيمة ويقطع لهم قطع الذهب والفضّة. فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن مسمع ساخطا على عديّ. وذلك أنّه نزع منه راية بكر بن وائل وأعطاها ابن عمّه. ومالت إلى يزيد ربيعة كلّها وبقيّة تميم وقيس، وناس بعد ناس فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع وناس من أهل الشام.
وكان عديّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين ويقول:
« لا يحلّ لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلّا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذا حتى يأتى الأمر في ذلك. » وله يقول الفرزدق:
أظنّ رجال الدرهمين يقودهم ** إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان في قعر بيته ** وأيقن أنّ الأمر لا بدّ واقع
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عديّ، فنزلوا المربد. فبعث إليهم يزيد بن المهلّب مولى له يقال له دارس. فحمل عليهم فهزمتهم. فقال الفرزدق:
تفرّقت الجعراء أن صاح دارس ** ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عديّ ملامة ** ألا صبروا حتى تكون تلاحم
وخرج يزيد بن المهلّب حتى اجتمع له الناس، حتى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف في ما بينه وبين القصر. وجاءته تميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمّد بن المهلّب، فضرب مسور بن عباد الحبطيّ بالسيوف، فقطع أنف البيضة، وأسرع السيف في وجهه، وحمل على هريم بن أبي طحمة، فأخذ بمنطقته فجذبه عن فرسه وتماسك في السرج حتى انقطعت المنطقة، وقال:
« هيهات! عمّك أرزن من هذا. » فانهزم القوم وأقبل يزيد في أثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر. وخرج إليه عديّ بنفسه في أصحابه، فقاتلوا ساعة وقتل من أصحابه خلق فيهم: الحارث بن مصرّف الأودى، وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجّاج، وقتل موسى بن الوجيه الحميري وقتل جماعة أمثالهم.
ثم انهزم أصحاب عديّ، وسمع أخوه يزيد - وهم في محبس عديّ - الأصوات تدنو والنشّاب تقع في القصر والصحن، فقال لهم عبد الملك:
« إني لا أرى يزيد إلّا قد ظهر، ولست آمن من مع عديّ من مضر ومن أهل الشام أن يأتوا فيقتلونا قبل أن يصل يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم أسندوه.
بالثياب والرحل. » ففعلوا، فلم يلبثوا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى بنى عامر وكان على حرس بنى عديّ. فجاء يشتدّ إلى الباب هو وأصحاب له وقد صنع بنو المهلّب ما قال لهم عبد الملك، ووضعوا متاعا كثيرا على الباب، ثم اتّكأوا عليه.
وأخذ القوم يعالجون الباب فلا يستطيعون الدخول، وأعجلهم الناس فخلّوا عنهم، وجاء يزيد بن المهلّب حتى نزل دار سليم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث سفيان أن فتح القصر. وأتى بعديّ بن أرطاة، فجيء به، وخاطبه بما يجرى مجرى التبكيت. ثم أمر بحبسه وقال له:
« أما إنّ حبسي إيّاك ليس إلّا لحبسك بنى المهلّب وتضييقك علينا في ما كنّا نسألك التسهيل عليهم. »