« لا بدّ من هذا المال. » قال:
« أما والله، إن أخذته لتأخذنّه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوّك وليضرّنّ ذلك بأهل خراسان في عدّتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن في ثغر نكابد فيه الأعداء لا تنقضي حربهم، وإنّ أحدنا ليلبس الحديد حتى يلتبس صدأه بجلده، وحتى إنّ الخادمة التي تخدمه لتصرف وجهها عن مولاها، أو عمّن تخدمه لسهوكة الحديد، وأنتم في بلادكم متفضّلون في الرّقاق وفي المعصفرات، والّذين قرفوا بهذه الأحوال وجوه أهل خراسان، وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي، وقبلنا قوم قدموا علينا، فجاؤوا على الحمرات، فولّوا الولايات، واقتطعوا الأموال، فهي عندهم موفّرة جمّة. » فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بأن يستخرج هذه الأموال ممّن ذكر الوفد أنّها عندهم، وكما ذكروا. فلمّا أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال فأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذّبهم، ففعل حتى استوفى منهم ما قرفوا به.
موت يزيد بن عبد الملك

وفي هذه السّنة مات يزيد بن عبد الملك، وكان بالبلقاء من أرض دمشق، وله ثمان وثلاثون سنة، وكانت خلافته في قول هشام بن محمّد وأبي معشر أربع سنين وشهرا، ويكنّى أبا خالد، وكان صاحب لهو وطرب، وكانت عنده حبابة، وهي الّتى تسمّى العالية، وسلامة، وهو الّذي طرب يوما فقال:
« أطير والله. » فقالت له حبابة:
« فعلى من تدع الأمّة! »
خلافة هشام بن عبد الملك

واستخلف هشام بن عبد الملك
أتت هشاما الخلافة وهو بالزّيتونة، في دويرة صغيرة كانت له. فجاءته الخلافة على البريد، وسلّم إليه العصا والخاتم، وسلّم عليه بالخلافة.
فركب هشام من الرّصافة حتى أتى دمشق.
قدوم بكير بن ماهان من السند

وفي هذه السّنة قدم بكير بن ماهان من السّند، وكان بها مع الجنيد بن عبد الرّحمن ترجمانا له. فلمّا عزل الجنيد قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضّة ولبنة من ذهب. فلقى أبا عكرمة الصّادق، وميسرة، ومحمّد بن خنيس، وسالما الأعين، وأبا يحيى مولى بنى سلمة. فذكروا له أمر دعوة بنى هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق عليهم ما معه، ودخل إلى محمّد بن عليّ، ومات ميسرة، فوجّه محمّد بن عليّ بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.
عزل عمر بن هبيرة

وفي هذه السّنة عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق، وما كان إليه من عمل المشرق، وولّى ذلك كلّه خالد بن عبد الله القسري.
ودخلت سنة ستّ ومائة

بب الوقعة بين المضرية واليمانية وربيعة ببلخ

وفيها ولد عبد الصّمد بن عليّ، وفيها كانت الوقعة بين المضريّة واليمانيّة وربيعة بالبروقان من أرض بلخ. وكان سبب ذلك أنّ مسلمة بن سعيد غزا، فقطع النّهر، وتباطأ عنه النّاس، وكان ممّن تباطأ عنه البختري بن درهم.
فلمّا أتى النّهر ردّ نصر بن سيّار وسليمان بن موسى بن عبد الله بن خازم وبلعاء بن مجاهد بن عبد الله العنبري وجماعة أمثالهم إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بن سيّار، وأمرهم أن يخرجوا النّاس إليه. فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم بن عمرو من دخول بلخ، وكان واليا عليها. فنزل نصر البروقان، وأتاه أهل صغانيان، وأتاه سلمة العقفانى من بنى تميم وحسّان بن خالد الأسدى، وكلّ واحد في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابى، وزرعة بن علقمة، سلمة بن أوس، والحجّاج بن هارون النّميرى في أهل بيته.
وتجمّعت بكر والأزد بالبروقان رأسهم البختري، وعسكر أيضا بالبروقان على نصف فرسخ منهم. فأرسل نصر إلى أهل بلخ:
« قد أخذتم أعطياتكم، فالحقوا بأميركم، فقد قطع النّهر. » فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو ثم تكلّم النّاس المكرهون، فقال قوم من ربيعة:
« إنّ مسلم بن سعد يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج. » واجتمع قوم من تغلب إلى عمرو بن مسلم:
« إنّك منّا. » وقال بعضهم شعرا ينسب فيه باهلة إلى تغلب. فقال عمرو بن مسلم حين عزاه التّغلبى إلى تغلب:
« أمّا القرابة فما أعرفها، وأمّا المنع فسأمنعكم. » فسفر الضحّاك بن مزاحم ويزيد بن المفضّل الحدّانى وكلّما نصرا في الانصراف.
فناشداه بالله، فانصرف. فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري، ونادوا:
« يال بكر. » فكرّ عليهم نصر، فكان أوّل قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن مسلم، وقتل بعده ثمانية عشر رجلا سوى من قتل في السّكك. وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر، وأرسل إلى نصر:
« ابعث إلى بلعاء بن مجاهد. » فأتاه بلعاء فقال:
« خذ لي أمانا. » فآمنه نصر، وقال:
« لولا أن أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك. » وقيل: بل أصابوا عمرو بن مسلم في طاحونة، وأخذ البختري في غيضة دخلها، وأخذ زياد بن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح.
ثم إنّ مسلما غزا في هذه السنّة، وكان خطب في ميدان يزيد، فقال:
« ما أخلّف بعدي شيئا أهمّ عندي من قوم يتخلّفون بعدي مخلّقى الرّقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهمّ افعل بهم وافعل، وقد أمرت نصرا ألّا يأخذ متخلّقا إلّا قتله، وما أرى لهم من عذاب ينزله الله بهم. » يعنى عمرو بن مسلم وأصحابه.
فلمّا صار ببخارى أتاه الخبر بولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق.
ثم أتاه كتاب خالد:
« أتمم غزاتك. »
فسار إلى فرغانة، وأتاه الخبر أنّ خاقان قد أقبل، ثم أتاه أنّ خاقان معسكر في موضع كذا. فأمر بالاستعداد للمسير. فلمّا أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في يوم. ثم سار من غد حتى قطع وادي السبّوح، وأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بن أبي عبد الله قوما من العرفاء والموالي، فأغار التّرك على ذلك الموضع، وعلى الّذين أنزلهم عبد الله، فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم، وقتل المسيّب بن بشر الرياحيّ، وقتل البراء، وكان من فرسان المهلّب، وقتل أخو غورك، وثار النّاس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن ماعز الحماني، ورحل هو بالنّاس. فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم.
فلمّا كان الليلة التاسعة، أراد النّزول. فشاور النّاس، فأشاروا عليه بالنّزول، وقال:
« إذا أصبحنا وردنا الماء والماء منّا غير بعيد، وإنّك إن نزلت المرج تفرّق النّاس في الثّمار وانتهب عسكرك. » فقال لسورة بن أبجر:
« ما ترى يا بالعلاء؟ » قال:
« أرى ما رأى النّاس. » ونزلوا ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق النّاس ما ثقل من الأبنية والامتعة، فحرّقوا قيمة ألف ألف وأصبح النّاس، فساروا ووردوا الماء، فإذا دون النّهر أهل فرغانة والشّاش.
- قال مسلم بن سعيد:
« أعزم على كلّ رجل إلّا اخترط سيفه. » ففعلوا، فسارت الدّنيا كلّها سيوفا. فتركوا الماء، وعبروا. فأقام يوما، ثم قطع من غد، واتّبعهم ابن لخاقان.
قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على السّاقة إلى مسلم:
« قف لي ساعة، فإنّ خلفي مائتي رجل من التّرك، حتى أقاتلهم. » وهو مثقل جراحة. فوقف النّاس، وعطف على التّرك، فأسر أهل السّغد وقائدهم وقائد التّرك في سبعة، وانصرف البقيّة، ورمى حميد بنشّابة في ركبته فمات.
وعطش النّاس بعد قطع النّهر، وكان عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى حمل عشرين قربة على إبله. فلمّا رأى جهد النّاس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر، أو حارثة بن كثير من فيه. فقال مسلم:
« دعوه، فما نازعنى شربتى إلّا من حرّ دخله. » فأتوا خجندة، وقد أصابتهم شدّة ومجاعة. فانتشر النّاس، وورد الخبر بولاية أسد بن عبد الله خراسان، ولّاه خالد القسريّ وعزل مسلم بن سعيد.
فبينا النّاس بخجندة إذا فارسان يركضان ويسألان عن عبد الرّحمن بن نعيم، فأتياه بعهده من أسد بن عبد الله فأقرأه عبد الرّحمن مسلما، فقال:
« سمعا وطاعة. »
فكان عبد الرّحمن أوّل من اتّخذ الحياض في مفازة آمل.
وقيل: إنّ أعظم النّاس غناء يوم العطش إسحاق بن محمّد الغدانى. وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان:
« ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنّه لسانك والمعبّر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمّال العذر. » قال: « ومن عمّال العذر؟ » قال:
« مر أهل كلّ بلد أن يختاروا لأنفسهم. فإذا اختاروا رجلا فولّه، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرّا كان لهم دونك وكنت معذورا. »