توبة بن أبي أسيد وما كان منه

وكان مسلم بن سعيد كتب إلى ابن هبيرة واستدعى منه توبة بن أبي أسيد مولى بنى العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة:
« احمل إليّ توبة بن أبي أسيد. » فحمله، فقدم، وكان جميلا وسيما جهيرا له سمت. فلمّا دخل على ابن هبيرة قال: « مثل هذا فليولّ. » ووجّه به إلى مسلم. فلمّا ورد عليه، قال له مسلم:
« هذا خاتمي، فاعمل برأيك. » فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم. فقال له أسد:
« أقم معي، فأنا أحوج إليك من مسلم. » فأقام معه، فأحسن إلى النّاس، وألان جانبه، وأجمل مع الجند وأعطاهم أرزاقهم. فقال له أسد يوما:
« أحلفهم بالطّلاق، لا يتخلّف أحد عن مغزاه، ولا يدحل بديلا سواه. » فأبى ذلك توبة ولم يره صوابا وأحلفهم بأيمان أخر. فلمّا قدم عاصم بن عبد الله، أراد أن يحلّف النّاس بالطّلاق، وقالوا:
« نحلف بأيمان توبة. » فهم يعرفون ذلك له.
حج هشام بن عبد الملك وما استحسن له في هذا الحج

وحجّ بالنّاس في هذه السّنة هشام بن عبد الملك. فممّا استحسن له ما تحدّث به ابن أبي الزّناد عن أبيه، قال: كتب إليّ هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن أكتب لي سنن الحجّ. فكتبتها له.
قال أبو الزّناد: فتلقّيته، فإني لفى موكبه أسير خلفه، إذ لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفّان. فنزل له، وسلّم عليه، ثم سار إلى جنبه.
فصاح هشام:
« أبو الزّناد! » فتقدّمت، فسرت إلى جانبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول:
« يا أمير المؤمنين، إنّ الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون أبا تراب في هذه المواطن الصّالحة.
فأمير المؤمنين ينبغي أن يلعنه في هذه المواطن الفاضلة. » قال: فشقّ على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال:
« إنّا ما قدمنا لشتم أحد ولا لعنه، إنّما قدمنا حجّاجا. » ثم قطع كلامه، وأقبل عليّ، فقال:
« يا عبد الله بن ذكوان، فرغت ممّا كتبت إليك؟ » قلت:
« نعم. » قال: أبو الزّناد: وثقل على سعيد، ما حضرته يتكلّم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلّما رآنى.
هشام بن عبد الملك وظلامة إبراهيم وألسنة قريش

وفي هذه السّنة أيضا كلّم إبراهيم بن محمّد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهشام قد صلّى في الحجر، فقال له:
« أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الّذى خرجت معظّما له ولحقّه لمّا رددت عليّ ظلامتي. » قال:
« أيّ ظلامة؟ » قال:
« دارى. » قال:
« فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ » قال:
« ظلمني. » قال:
« فعن الوليد بن عبد الملك؟ » قال:
« ظلمني. » قال:
« فعن سليمان بن عبد الملك؟ » قال:
« ظلمني. » قال:
« فعن عمر بن عبد العزيز؟ » قال:
« رحمة الله عليه، لقد ردّها. » قال:
« فعن يزيد بن عبد الملك؟ » قال:
« هو قبضها مني وظلمني بعد قبضي لها وهي اليوم في يديك. » قال هشام:
« أما والله، لو كان فيك ضرب لضربتك. » قال إبراهيم:
« فيّ والله ضرب بالسّيف وبالسّوط. » فانصرف هشام، والأبرش خلفه. فقال:
« أبا مجاشح، كيف سمعت هذا اللسان؟ » قال:
« ما أجود لسانه! » قال:
« هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في النّاس بقايا، ما رأيت مثل هذا. »
قدوم أسد خراسان

وكنّا حكينا قدوم خالد بن عبد الله العراق أميرا، وأنّه ولّى أخاه أسد بن عبد الله خراسان. فقدمها ومسلم غاز بفرغانة. فذكر عن أسد أنّه لمّا أتى النّهر ليقطعه، منعه الأشهب بن عبد الله بن تميم أحد بنى غالب، وكان على السّفن بآموية. فقال أسد:
« أقطعنى. » قال:
« لا سبيل إلى إقطاعك، لأنّى نهيت عن ذلك. » فقال:
« لاطفوه وأطمعوه. » فأبى. فقال له:
« فإني الأمير. » « ففعل حينئذ فقال له أسد:
« اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا. » فقطع النّهر وأتى السّغد، فنزل مرج السّغد، وعلى خراج سمرقند هانئ بن أبي هانئ. فخرج في النّاس يتلقّى أسدا. فلقوه بالمرج وهو جالس على حجر. فتطيّر النّاس وقالوا:
« أسد على حجر، ما عند هذا خير. » فقال له هانئ:
« أقدمت أميرا؟ » قال:
« نعم، وما معي إلّا ثلاثة عشر درهما هي في كمّى، وإنّما أنا رجل منكم. » ودخل سمرقند، وبعث رجلين معهما عهد عبد الرّحمن بن نعيم على الجند، وكان عبد الرّحمن يومئذ على السّاقة، فدفعا إليه العهد والكتاب بالقفول والإذن لهم. فقرأ الكتاب، وأتى به مسلم بن سعيد وبعهده. فقال مسلم:
« سمعا وطاعة. » فقام عمرو بن هلال السّدوسى، فقنعه سوطين لما كان منه إلى بكر بن وائل بالبروقان، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفر. فغضب عبد الرّحمن بن نعيم، وزجرهما، وأغلظ لهما، ثم أمر بهما فدفعها، وقفل بالنّاس، وشخص معه مسلم. فلمّا قدموا على أسد، وهو بسمرقند، شخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبي العمرّطة من ولد آكل المرار.
فقدمت على الحسن امرأته وهي الجنوب بنت القعقاع بن الأعلم سيّد الأزد ويعقوب بن القعقاع قاضى خراسان. فخرج يتلقّاها، وغزاهم التّرك، فقيل له:
« هؤلاء التّرك قد أتوك. » وكانوا سبعة آلاف. فقال:
« ما أتونا، ولكن أتيناهم، وغلبناهم على بلادهم، واستعبدناهم. وأيم الله، مع هذا، لأدنيّن بعضكم من بعض، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم. ثم خرج، فتباطأ حتى أغار التّرك وانصرفوا. فقال النّاس:
« خرج إلى امرأته فتلقّاها مسرعا. وخرج إلى العدوّ متباطئا. » فبلغه ذلك، فلم يحتملها فخرج إليهم، وخطبهم وقال:
« تقولون وتعيبون. اللهم اقطع آثارهم، وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم الضرّاء، وارفع عنهم السرّاء. » فشتم النّاس جهرا وشتموه سرّا.
خطيب يحصر

وكان استخلف حين خرج إلى التّرك ثابت قطنة، وكان خطيبا شاعرا. فلمّا خطب الناس حصر فقال:
« من يطع الله ورسوله فقد ضلّ! » وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة. فلمّا نزل عن المنبر قال:
فإلّا أكن فيكم خطيبا فإنّنى ** بسيفي، إذا جدّ الوغى لخطيب
فقيل له:
« لو قلت هذا على المنبر كنت خطيبا. » فهجاه حاجب الفيل، وكان يهاجيه، فقال:
أبا العلاء، لقد لاقيت معضلة ** يوم العروبة من كرب وتخنيق
لمّا رمتك عيون النّاس ضاحية ** أنشأت تجرض، لمّا قمت، بالرّيق
تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ** كما هوى زلق من شاهق النّيق
وقال أيضا:
تقضى الأمور، وبكر غير شاهدة ** بين المجاذيف والسّكان مشغول
ما يعرف النّاس منه غير قطنته ** وما سواها من الآباء مجهول
ثم دخلت سنة سبع ومائة

بكير بن ماهان يوجه أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمار دعاة إلى خراسان

وفيها وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة، وأبا محمّد الصادق، ومحمّد بن خنيس، وعمّار العبادي في عدّة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق، دعاة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمه ومحمّد بن خنيس وعامّة أصحابه، ونجا عمّار. فقطع أسد أيدى من ظفر به وأرجلهم وصلبهم. وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب إلى محمّد بن عليّ بذلك.
فأجابه:
« الحمد لله الّذى صدّق مقالتكم ودعوتكم. أما إنّه قتلى ستقتل. »
غزو جبال تمرون

وفي هذه السّنة غزا أسد جبال تمرون ملك الغرشستان ممّا يلي جبال الطّالقان. فصالحه تمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولّون اليمن.
غزو الغور

وفيها غزا أسد الغور، وهي جبال هراة. فعمد أهلها إلى أثقالهم، فصيّروها في كهف ليس إليه طريق. فأمر أسد باتّخاذ توابيت، ووضع فيها الرّجال ودلّاها بالسّلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه. فقال ثابت قطنة: