[ تتمة تجارب العصر العباسي ]
[ تتمة خلافة هارون الرشيد ]
والحمد لله واهب العقل
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة
وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته
وقد ذكرنا قبل هلاك ابن عليّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها عليّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له.
فلمّا شخص عليّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة وبلغ الرشيد الخبر فقال:
« خرج عليّ عن بلخ عن غير أمري وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إليّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع. » فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال عليّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.
وكان عليّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من عليّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، أنّ الفالج قد أصابه حتى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل عليّ بن عيسى الذي سامهم المكروه.
ولمّا عزم الرشيد على عزل عليّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال:
« إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب عليّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر عليّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه ولا تطلعنّ فيه حتى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله.
« وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى عليّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه أمر عليّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعليّ بن عيسى وعونا له. » ثم كتب إلى عليّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عشت في الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عز وجل وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، حتى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها. » وكتب عهد هرثمة بخطّه:
« هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه في دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده.
« وأمره أن يستوثق من الفاسق عليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذي حقّ، حتى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذي حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله.
« فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإني آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر في أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها في صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثم اعمل بما يرضى الله فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله.
« هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته. » ثم أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى عليّ بن عيسى في معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها
وكان ذلك في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى عليّ بن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين في ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه وكتب لهم أسماء ولد عليّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره.
ثم وجّه إلى عليّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير - أكرمه الله - أن يوجّه ثقاته لقبض ما معي من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ في عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة.
فوجّه عليّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه:
« اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم. » ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتى نؤامر أبا حاتم في دوابّ المال والبغال.
ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه عليّ بن عيسى في ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به عليّ:
« والله لئن نزلت لأنزلنّ. » فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعليّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعليّ:
« سر على بركة الله. » فقال عليّ:
« لا والله لا أفعل حتى تمضى أنت. »
فقال: « إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير. » فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصار إلى منزل عليّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة في ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا عليّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له عليّ:
« قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. » فقال له هرثمة:
« إنّ معي من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها. » ثم أومأ إلى رجاء وقال:
« ادفع الكتاب إليه. » فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر في أوّل حرف فيه، سقط في يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم - كما حكينا - قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق عليّ بن عيسى، وما أمرنى به وفي أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف ودعا بعليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال:
« اكفوني مؤنكم واعفونى من الإقدام بالمكروه عليكم. » ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعليّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى عليّ حتى صار إليه فأسرّ إليه وقال:
« لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. » فعجب عليّ منه وقال:
« لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فيّ السلطان ولا الشيطان أبدا. » ثم سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له:
« دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. » وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال عليّ بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حليّ نسائهم وحتى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته.
فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، في عنقه سلسلة وفي رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة عليّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال:
« اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول عليّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال:
فانصرف وعد إليه. فيبعث عليّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال:
« أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر أخذ مني درقة تبتية لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمي ولم يعطني حقّى، فخذ لي بحقّى من ماله وقذفه أمي. » فقال: « بيّنة؟ » قال: « جماعة حضروا كلامه. » فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« وجب عليك الحدّ. » قال: « ولم؟ » قال: « بقذفك أمّ هذا. » قال: « من فهّمك وعلّمك هذا؟ » قال: « هذا دين المسلمين. » قال: « فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟ » قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال:
« أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك. »
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام في السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد في أن يشخصه معه.
ذكر رأي سديد رءاه ذو الرئاستين
قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ ردء له. ] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له:
« عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى. » فأذن له.
ذكر منام عجيب رءاه الرشيد
قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه في كلّ غداة أتعرّف حاله في ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثني بما عمله في ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إليّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت:
« يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرني بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة. » قال: « ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري. » قلت: « فرّجت عني يا أمير المؤمنين. » فدنوت وقبّلت رجله وقلت:
« أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء. » قال: « فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفي الكفّ تربة حمراء. فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه:
« هذه التربة التي تدفن فيها. » فقلت: « وأين هي؟ » قال: « بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت. » فقلت: « يا سيّدي هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت في أمر خراسان وفي حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها. » قال: « قد كان ذاك. » قلت: « فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة. » قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد في ذلك اليوم في لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا.
ثم رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس.
قال: فأدخل إليه وهو على سرير في بستان وفي يده مرآة ينظر فيها وهو يقول:
« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثم رفع رأسه إلى أخي رافع وقال:
« أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو ألّا يفوتني خامل يريد رافعا كما لم تفتني. » فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بي، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت عليّ. » فغضب وقال:
« لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. » ثم دعا بقصّاب فقال له:
« لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه في جسمه. » ففصّله حتى جعله أشلاء فقال:
« عدّوا أعضائه. » فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال:
« اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه. »
ثم أغمى عليه وتفرّق من حضره.
قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول:
« يا سيّدي ما حالك وما دهاك؟ » وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال:
« يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة في طوس؟ هذه طوس، وأحسبها تلك التربة. » ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال:
« جئني من تربة هذا البستان. » فمضى مسرور فأتى بالتربة في كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال:
« هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت شيئا. » وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.
وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد في اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لي:
« أقعد يا سهل. » فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« إلى أين يا سهل؟ » فقلت: « يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك. » قال: فضحك ضحك صحيح، ثم قال:
« يا سهل، إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني لمن قوم كرام تزيدهم ** شماسا وصبرا شدّة الحدثان
وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب.
ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره
ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر:
« أوصياه. » فقال له يحيى: « وفّر واعمر. » وقال له جعفر: « أنصف وانتصف. » فقال له الرشيد: « اعدل واحمل. » وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:
« يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفّيتنى وصرت في لحدي، وتفرّق عني أهلى وولدي.
اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين. » وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته في الدخول إليه فقال:
« أدخله. » فلّما دخل قال له:
« عظني. » قال: « يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار. » فبكى هارون حتى اخضلّت لحيته.
فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال:
« سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله في عباده وفعله. » قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال:
« يا أمير المؤمنين إنّ هذا - يعنى الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك. » قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف.
واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك:
« على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله ، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟ » قال: « بنصف ملكي. » قال: « اشرب هنّأك الله. » فلمّا شربها قال:
« فأسألك بقرابتك من رسول الله لو منعت خروجها من بدنك بما ذا كنت تشتريها؟ » قال: « بجميع ملكي. » قال ابن السمّاك:
« إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه. »
فبكى هارون حتى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف.
وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال:
« يا هارون اتق الله. » فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك:
« خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. » فلمّا رجع دعا بغذائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاصّ طعامه.
فلمّا أكل وشرب دعا به فقال:
« يا هذا أنصفنى في المخاطبة والمسألة. » قال: « ذاك أقلّ ما تحبّ. » قال: « فأخبرني أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟ » قال: « بل فرعون. » قال، قال:
« أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. » وقال: « ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي. » قال: « صدقت. » قال: « فأخبرني، فمن خير، أنت أم موسى بن عمران؟ » قال: « موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه. »
قال: « صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو في عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله عليّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا. » فقال له الزاهد:
« أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله. » قال: « غفر الله لك. » وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال:
« لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح. » فقال هرثمة وزجره:
« تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟ » فقال الرشيد:
« أمسك عنه. » ثم قال له:
« لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت. » فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.
وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه:
« ليت للمأمون بعض لحمك هذا. » فقال: ببعض حظّه.
وقال يوما للقاسم قبل البيعة له:
« قد أوصيت بك الأمين والمأمون. » قال: « أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لي إلى غيرك. » ومات هارون وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف.
خلافة الأمين
وكتب حمّويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثم قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده.
ثم دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه سليمان بن أبي جعفر.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 8 (0 من الأعضاء و 8 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)