ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها
وكان ذلك في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى عليّ بن عيسى في الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين في ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه وكتب لهم أسماء ولد عليّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا إذا ظهر أمره.
ثم وجّه إلى عليّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير - أكرمه الله - أن يوجّه ثقاته لقبض ما معي من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ في عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإني لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة.
فوجّه عليّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه:
« اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم. » ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتى نؤامر أبا حاتم في دوابّ المال والبغال.
ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه عليّ بن عيسى في ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به عليّ:
« والله لئن نزلت لأنزلنّ. » فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعليّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعليّ:
« سر على بركة الله. » فقال عليّ:
« لا والله لا أفعل حتى تمضى أنت. »
فقال: « إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير. » فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصار إلى منزل عليّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة في ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا عليّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له عليّ:
« قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. » فقال له هرثمة:
« إنّ معي من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها. » ثم أومأ إلى رجاء وقال:
« ادفع الكتاب إليه. » فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر في أوّل حرف فيه، سقط في يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثم أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم - كما حكينا - قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق عليّ بن عيسى، وما أمرنى به وفي أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انصرف ودعا بعليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال:
« اكفوني مؤنكم واعفونى من الإقدام بالمكروه عليكم. » ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعليّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى عليّ حتى صار إليه فأسرّ إليه وقال:
« لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. » فعجب عليّ منه وقال:
« لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فيّ السلطان ولا الشيطان أبدا. » ثم سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له:
« دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. » وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال عليّ بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حليّ نسائهم وحتى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته.
فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، في عنقه سلسلة وفي رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة عليّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال:
« اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول عليّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال:
فانصرف وعد إليه. فيبعث عليّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عني من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره.
وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال:
« أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر أخذ مني درقة تبتية لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمي ولم يعطني حقّى، فخذ لي بحقّى من ماله وقذفه أمي. » فقال: « بيّنة؟ » قال: « جماعة حضروا كلامه. » فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة: