« وجب عليك الحدّ. » قال: « ولم؟ » قال: « بقذفك أمّ هذا. » قال: « من فهّمك وعلّمك هذا؟ » قال: « هذا دين المسلمين. » قال: « فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟ » قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال:
« أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك. »
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام في السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد في أن يشخصه معه.
ذكر رأي سديد رءاه ذو الرئاستين

قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ ردء له. ] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له:
« عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى. » فأذن له.
ذكر منام عجيب رءاه الرشيد

قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه في كلّ غداة أتعرّف حاله في ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثني بما عمله في ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إليّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت:
« يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرني بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة. » قال: « ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري. » قلت: « فرّجت عني يا أمير المؤمنين. » فدنوت وقبّلت رجله وقلت:
« أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء. » قال: « فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفي الكفّ تربة حمراء. فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه:
« هذه التربة التي تدفن فيها. » فقلت: « وأين هي؟ » قال: « بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت. » فقلت: « يا سيّدي هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت في أمر خراسان وفي حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها. » قال: « قد كان ذاك. » قلت: « فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة. » قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد في ذلك اليوم في لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا.
ثم رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس.
قال: فأدخل إليه وهو على سرير في بستان وفي يده مرآة ينظر فيها وهو يقول:
« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثم رفع رأسه إلى أخي رافع وقال:
« أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو ألّا يفوتني خامل يريد رافعا كما لم تفتني. » فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بي، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت عليّ. » فغضب وقال:
« لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. » ثم دعا بقصّاب فقال له:
« لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه في جسمه. » ففصّله حتى جعله أشلاء فقال:
« عدّوا أعضائه. » فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال:
« اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه. »
ثم أغمى عليه وتفرّق من حضره.
قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول:
« يا سيّدي ما حالك وما دهاك؟ » وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال:
« يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة في طوس؟ هذه طوس، وأحسبها تلك التربة. » ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال:
« جئني من تربة هذا البستان. » فمضى مسرور فأتى بالتربة في كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال:
« هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت شيئا. » وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.
وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد في اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لي:
« أقعد يا سهل. » فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال: