« إلى أين يا سهل؟ » فقلت: « يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك. » قال: فضحك ضحك صحيح، ثم قال:
« يا سهل، إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني لمن قوم كرام تزيدهم ** شماسا وصبرا شدّة الحدثان
وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب.
ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره

ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر:
« أوصياه. » فقال له يحيى: « وفّر واعمر. » وقال له جعفر: « أنصف وانتصف. » فقال له الرشيد: « اعدل واحمل. » وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:
« يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفّيتنى وصرت في لحدي، وتفرّق عني أهلى وولدي.
اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين. » وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته في الدخول إليه فقال:
« أدخله. » فلّما دخل قال له:
« عظني. » قال: « يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار. » فبكى هارون حتى اخضلّت لحيته.
فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال:
« سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله في عباده وفعله. » قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال:
« يا أمير المؤمنين إنّ هذا - يعنى الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك. » قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف.
واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك:
« على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله ، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟ » قال: « بنصف ملكي. » قال: « اشرب هنّأك الله. » فلمّا شربها قال:
« فأسألك بقرابتك من رسول الله لو منعت خروجها من بدنك بما ذا كنت تشتريها؟ » قال: « بجميع ملكي. » قال ابن السمّاك:
« إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه. »
فبكى هارون حتى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف.
وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال:
« يا هارون اتق الله. » فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك:
« خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. » فلمّا رجع دعا بغذائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاصّ طعامه.
فلمّا أكل وشرب دعا به فقال:
« يا هذا أنصفنى في المخاطبة والمسألة. » قال: « ذاك أقلّ ما تحبّ. » قال: « فأخبرني أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟ » قال: « بل فرعون. » قال، قال:
« أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. » وقال: « ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي. » قال: « صدقت. » قال: « فأخبرني، فمن خير، أنت أم موسى بن عمران؟ » قال: « موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه. »
قال: « صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا. فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو في عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله عليّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا. » فقال له الزاهد:
« أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله. » قال: « غفر الله لك. » وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال:
« لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح. » فقال هرثمة وزجره:
« تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟ » فقال الرشيد:
« أمسك عنه. » ثم قال له:
« لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت. » فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.
وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه:
« ليت للمأمون بعض لحمك هذا. » فقال: ببعض حظّه.
وقال يوما للقاسم قبل البيعة له:
« قد أوصيت بك الأمين والمأمون. » قال: « أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لي إلى غيرك. » ومات هارون وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف.
خلافة الأمين

وكتب حمّويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثم قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده.
ثم دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه سليمان بن أبي جعفر.