الرجل وأطمعه في ما قبلك أمران: أحدهما صدق طاعتك والآخر شدّة بأسك. وقد أمرنى بإزاحة علّتك وبسط يدك في ما أحببت، غير أنّ الإقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك وعجّل المبادرة إلى عدوّك، فإني أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح ويلمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة. » فقلت: « أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزّه الله - وطاعتك مقدم، وعلى كلّ ما دخل به الوهن والذلّ على عدوّكما حريص، غير أنّ المحارب لا يعمل بالغرور ولا يفتتح أمره بالتقصير، وإنّما ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال وقد ملأ أمير المؤمنين أيدى من شهده من العسكر، وتابع لهم الأرزاق والصلات، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم، لم انتفع بهم في لقاء من أمامى، وقد فضّل أهل السلام على أهل الحرب وجاز بأهل الدعة والحفض منازل أهل النصب والمشقّة، والذي أسأل، أن يؤمر لي بما يقيمنى ويقيم أصحابي الذين تخرجونهم معي بما لا يتطلّعون معه إلى ما خلفهم. » قال: « وما هو؟ » قلت: « رزق سنة يطلق لأصحابي ويحمل معهم رزق سنة ويخصّ من لا خاصّة له من أهل الغناء والبلاء، واحمل ألف رجل من أصحابي الذين معي على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. » فقال: « قد اشتططت ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين. » ثم ركب وركبت معه ودخل قبلي، ثم أذن لي فدخلت فما دار بيني وبين محمد إلّا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي. فذكر بعض خاصّة محمد أنّ أسدا اقترح على محمد أن يسلّم إليه ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي، فإن أعطاني الطاعة وألقى بيده وإلّا عملت فيهما بحكمي فقال محمد:
« أنت أعرابيّ مجنون تدعو إلى الخرق والتخليط وتقترح فوق قدرك. » وأمر به فحبس.
ثم قال محمد:
« هل في بيت هذا من يقوم مقامه؟ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدّم من طاعتهم ونصيحتهم. » قالوا: « نعم فيهم أحمد بن مزيد عمّه وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نيّة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة الجنود ومباشرة الحروب. » فأنفذ إليه محمد يزيدا فأقدمه عليه. قال أحمد: فلمّا دخلت بغداد بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت أسلّم عليه وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد.
فلمّا أذن لي دخلت وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على الشخوص إلى طاهر وعبد الله يشتطّ عليه في طلب المال والسلاح والإكثار من الرجال. فلمّا رآني رحّب بي وأخذ بيدي فرفعني حتى صيّرنى معه على صدر المجلس، ثم أقبل على عبد الله يمازحه ويداعبه، فتبسّم في وجهه ثم قال:
إنّا وجدنا لكم إذ رثّ حبلكم ** من آل شيبان أمّا دونكم وأبا
الأكثرون إذا عدّ الحصى عددا ** والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله:
« إنّهم لكذاك وإنّ فيهم لسدّ الخلل ونكء العدوّ. » ثم أقبل عليّ الفضل فقال:
« إنّ أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدّة على أهل المعصية، فأحبّ اصطناعك والتنويه بك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. » ثم التفت إلى خادمه وقال:
« مر بإسراج دوابّى. » فلم ألبث أن أسرجت له ومضى ومضيت معه حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره على سرير ساج، فلم يزل يدنيني حتى كدت ألاصقه، فقال:
« إنّه قد كثر عليّ تخليط ابن أخيك وطال خلافه عليّ حتى أوحشنى ذلك منه، وولّد في قلبي التهمة له وصيّرنى بسوء مذهبه وحنث طاعته إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أكن أحبّ تناوله به، وقد ووصفت لي بخير ونسبت إلى جميل، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك وأقدّمك على أهل بيتك وأولّيك جهاد هذه الفئة الباغية وأعرّضك الأجر والثواب في قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحّح نيّتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وتشريفك. » فقلت: « سأبذل في طاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - مهجتي وأبلغ في جهاد عدوّه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائى وكفايتي، إن شاء الله. » فقال: « يا فضل، ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب. » وقال لي:
« اكمش على أمرك وعجّل المسير إلى عدوّك. » فخرجت، فانتخبت الرجال، فبلغت عدّة من صحّحت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجّهت بهم إلى حلوان.
وكان محمد وصّاه فقال:
« إيّاك والبغي، فإنّه عقال النصر ولا تقدّم رجلا إلّا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار، وأحسن صحابة من معك وطالعنى بأخبارك في كلّ يوم ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي ولا تستبقها في ما تتخوّف رجوعها عليّ، وكن لعبد الله بن حميد أخا مصافيا، أحسن صحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة. » ثم قال:
« سل حوائجك وعجّل السراح إلى عدوّك. » فدعا له أحمد وقال:
« يا أمير المؤمنين تكثّر الدعاء لي ولا تقبل فيّ قول باغ ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي، ولا تنقض عليّ ما استجمع من رأى، ومن عليّ بالصفح عن ابن أخي. » قال: « ذلك لك. » ثم بعث إلى أسد فحلّ قيوده وخلّى سبيله.
فخرج أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل [ من العرب، وعبد الله بن حميد في عشرين ألف رجل ] من الأبناء وقد وصّيا بالتوادّ والتحابّ، فتوجّها حتى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له: خانقين، وأقام طاهر بموضعه وخندق عليه.
ذكر ما احتال به طاهر عليهما حتى اختلفا
ثم إنّ طاهرا دسّ إليهما قوما، فكانوا يأتون العسكرين جميعا بالأخبار الباطلة والأراجيف الكاذبة بأنّ محمدا قد وضع العطاء لأصحابه وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا.
وتقدّم طاهر حتى نزل حلوان، فلم يلبث طاهر بعد دخوله حلوان إلّا يسيرا حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجّه إلى الأهواز وفتحها. فسلّم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها. وتوجّه طاهر إلى الأهواز.
المأمون يتسمى أمير المؤمنين
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)