محمد وتركني بمرو وحيدا وأسلمنى وأفسد عليّ أخي حتى كان من أمره ما كان. أتدرى ما صنع بي عيسى بن أبي خالد؟ طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجى وفيئى وأخرب عليّ دياري وأقعد إبراهيم خليفة بإزائى ودعاه باسمى. » قال: قلت: « يا أمير المؤمنين تأذن لي في الكلام فأتكلّم؟ » قال: « تكلّم. » قال: قلت:
« الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم يرجع إليه بضروب كلّها تردّك إليه وعيسى بن أبي خالد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم، وهذا رجل لم تكن له يد قطّ فتحتمل عليها ولا لمن مضى من سلفه، إنّما كانوا جند بني أمية. » قال: « إنّ ذلك لكما تقول، فكيف بالحنق والغيظ. لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي. » قال: « فأتيت نصرا فأخبرته بذلك. قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت عليه ثم قال:
« ويلي عليه هو؟ لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعنى الزطّ - يقوى على حلبة العرب؟ » فذكر أنّ عبد الله بن طاهر لمّا جادّه القتال بلغ منه حتى طلب الأمان فأعطاه وبعث به إلى المأمون.
ودخلت سنة عشرة ومائتين

وفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وهو متنقّب بين امرأتين في زيّ امرأة أخذه حارس أسود ليلا فقال:
« من أنتنّ وأين تردن في هذا الوقت؟ » فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في إصبعه له قدر عظيم، وقال:
« خلّنا ولا عليك أن تعلم من نحن. » فلمّا نظر الحارس إلى الخاتم استراب وقال في نفسه: هذا خاتم رجل له شأن فرفعن إلى صاحب المسلحة، فأمرهنّ أن يسفرن. فتمنّع إبراهيم فجبذه فبدت لحيته. فرفعه إلى صاحب الجسر، فرفعه فذهب به إلى باب المأمون فأعلم به فأمر بالاحتفاظ به في الدار. فلمّا كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقوّاد والجند وصيّروا المقنعة التي كان متنقّبا بها في عنقه والملحفة في صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ، فلمّا كان يوم الخميس حوّل إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبس عنده.
بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل

وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في شهر رمضان. وكان الحسن بالصّلح، فشخص المأمون إلى الصّلح، وأمر بحمل إبراهيم بن المهدي خلفه. وكان العبّاس بن المأمون قد تقدّم أباه على الظهر ووافى المأمون وقت العشاء فأفطر هو والحسن والعبّاس ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من الإفطار، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب فصبّ فيه وشرب ومدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن فغمزه دينار بن عبد الله، فقال الحسن:
« يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك. » فقال له:
« لو لا أمري لم أمدّ يدي إليك بها. » فأخذ الجام فشربه فلمّا كان في الليلة دخل على بوران. فلمّا جلس المأمون معها نثرت عليها جدّتها ألف درّة كانت في صينيّة ذهب وكان تحتها حصير ذهب معمول على السامان. فقال المأمون:
« قاتل الله أبا نواس كأنّه حاضر هذا المنظر في قوله:
« حصباء درّ على أرض من الذهب. » ثم أمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدرّ كم كان فقالت:
« ألف حبّة. » فأمر بعدّها فنقصت عشرا فقال:
« من أخذها فليردّها. »
فقال حسين رخلة:
« يا أمير المؤمنين إنّما نثر لنأخذه وإلّا فالعقد أولى به. » قال: « ردّها فإني أخلفها عليك. » فردّت. فجمعها المأمون في الآنية كما كانت، ووضع في حجرها، وقال:
« هذه نحلتك وسلى حوائجك. » فأمسكت، فقالت جدّتها:
« كلّمى سيّدك وسليه حوائجك، فقد أمرك. » فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي. فقال:
« قد فعلت. » وسألته الإذن لأمّ جعفر في الحجّ، فأذن لها. وألبستها أمّ جعفر البدنة الأموية. وابتنى بها من ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا في تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال:
« هذا سرف. » فلمّا كان من الغد دعا إبراهيم بن المهدي، فجاء يمشى من شاطئ دجلة.
فلمّا دخل على المأمون قال:
« هيه يا إبراهيم. » فقال: « يا أمير المؤمنين، وليّ الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب كما جعل كلّ ذي ذنب. دونك فإن تعاقب فبحقّك وإن تعف فبفضلك. »
قال: « بل أعفو يا إبراهيم. » فكبّر وسجد وقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خير من حملت يمانية به ** بعد الرّسول لآيس ولطامع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصّاب يمزج بالسّمام النّاقع
ملئت قلوب النّاس منك مخافة ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فدية وبنيهما ** من كلّ معضلة وذنب واقع
ما ألين الكنف الّذى بوّأتنى ** وطنا وأمرع ريعه للرّائع
نفسي فداؤك إذ تضلّ معاذرى ** وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملا لفضلك والفواضل شيمة ** رفعت بناءك بالمحلّ اليافع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ** عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلّا العلوّ عن العقوبة بعد ما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ** وعويل عانسة كقوس النّازع
الله يعلم ما أقول فإنّها ** جهد الأليّة من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تمدّنى ** أسبابها إلّا بنيّة طائع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أنّ لجرم مثلي غافرا ** فوقفت أنظر أيّ حتف صارعى
ردّ الحيوة عليّ بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولّاك أطول مدّة ** ورمى عدوّك في الوتين بقاطع
إنّ الّذى قسم الخلافة حازها ** في صلب آدم للإمام السّابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كلّ خير جامع