المأمون واظهار القول بخلق القرآن وبفضل علي بن أبي طالب (ع)

وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب وتلقّاه العبّاس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر طبقات الناس وقدم معه بالمتغلّبين على الشام.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى:
« برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير. »
وأظهر القول بخلق القرآن وبفضل عليّ بن أبي طالب.
ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين

وفيها مات طلحة بن طاهر بن الحسين بخراسان.
وفيها ولّى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر وولّى ابنه العبّاس بن المأمون الجزيرة وأمر لكلّ واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. فقيل إنّه لم يفرّق في ساعة من يوم من المال مثل ذلك.
ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين

وفيها استفحل أمر بابك وقتل محمد بن حميد وفضّ عسكره وقتل أكثر من كان معه.
وفيها بعث المأمون إلى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيّرانه بين خراسان والجبال وإرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
فاختار خراسان وشخص إليها.
ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين

وفيها شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم في المحرّم. فافتتح بها حصونا وعاد إلى دمشق.
ودخلت سنة ستّ عشرة ومائتين

فكرّ المأمون إلى أرض الروم، وكان سبب ذلك ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصّيصة وكانوا نحو ألفى رجل، فشخص المأمون حتى دخل بلاد الروم. فما نزل على حصن إلّا خرج إليه أهله على صلح حتى افتتح ثلاثين حصنا، ثم أغار على طوانة وسبى وقتل وأحرق. ثم ارتحل إلى دمشق.
ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين

وعاد المأمون إلى أرض الروم. وكان سبب ذلك كتاب ورد عليه من ملك الروم يسأله الموادعة، وبدأ فيه بنفسه. فغزا المأمون هذه الغزوة بحنق، وأنزل ابنه بطوانه من أرض الروم، ووجّه معه الفعلة وابتدأ بها في بناء عظيم وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كلّ باب حصنا، وكتب إلى أخيه أبي إسحاق أن يفرض على جند دمشق وما والاها أربعة آلاف رجل وأنّه يجرى على الفارس مائة درهم وعلى الراجل أربعين درهما وفرض على مصر وغيرها من البلدان.
وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم وهو خليفته ببغداد، ففرض على أهل بغداد فرضا.
المأمون يختبر الآراء في التشبيه وخلق القرآن

وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين والفقهاء، فمن لم يقبل منهم بنفي التشبيه وبخلق القرآن يشخصهم إليه مقيّدين.
وكتب في ذلك كتابا بليغا فيه آيات منتزعة من القرآن وتهديد كثير مع رفق في مواقع، وطعن على أصحاب الحديث الذين لا يتفقّهون ولا يعقلون، فأشخص إليه جماعة فيهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ومستملى يزيد بن هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب وعدّه يجرون مجراهم، فامتحنهم وسألهم عن القرآن فأجابوا جميعا:
« إنّ القرآن مخلوق. » وامتحن إسحاق بن إبراهيم جماعة فيهم بشر بن الوليد وقال له:
« ما تقول في القرآن؟ » قال: « أقول إنّه كلام الله. » قال: « لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ » قال: « الله خالق كلّ شيء. » قال: « فالقرآن شيء؟ » [ قال: نعم، هو شيء. ] قال: « فهو مخلوق. » قال: « ليس بخالق؟ » قال: « فهو مخلوق. » قال: « ما أحسن غير هذا. » ثم كلّم جماعة من وجوه الفقهاء والقضاة فقالوا قريبا من قول بشر.
فكتب مقالات القوم رجل رجل إلى المأمون.
فكتب المأمون في الجواب يستجهل واحدا واحدا ويحاجّه ويشتم كلّ واحد بما يعرفه فيه ويأمر في آخر الكتاب بأنّ:
« من لم يرجع عن شركه يسفك دمه. أمّا بشر بن الوليد فابعث إليّ برأسه وكذلك إبراهيم بن الحسن، وأمّا الباقون فاحملهم في قيود وأغلال لينفذ فيهم أمري. » فأجاب القوم كلّهم:
« إنّ القرآن مخلوق. » إلّا نفسان: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدّا في الحديد ووجّها إلى طرسوس.
ثم بلغ المأمون أنّ بشر بن الوليد والجماعة تأوّلوا قوله - عز وجل -: « إلّا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان » فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أن:
« قد فهم أمير المؤمنين ما كتب به صاحب الخبر أنّ بشر تأول الآية التي ذكرت وقد أخطأ التأويل، إنّما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقدا الإيمان مظهرا الشرك، فأمّا من كان معتقدا الشرك مظهرا الإيمان فليس هذه له. » فأشخص القوم جميعا إلى طرسوس وأخذ عليهم الكفلاء، فأشخص نحوا من عشرين مع بشر بن الوليد من وجوه الفقهاء والقضاة وأصحاب الحديث. فلمّا بلغوا الرقّة أتاهم وفاة المأمون فردّوا إلى مدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم.
كتاب المأمون إلى عماله في البلدان

وفي هذه السنة نفذت الكتب من المأمون إلى عمّاله في البلدان:
« من عبد الله، عبد الله المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين إلى الرشيد. » وقيل: إنّ ذلك لم يكتبه المأمون وإنّما مرض بالبذندون وهو نهر بأرض الروم، فلمّا أفاق أمر بأن يكتب إلى العبّاس ابنه وعبد الله بن طاهر وإلى إسحاق أنّه إن حدث به حدث الموت في مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق ابن الرشيد. فكتب بذلك محمد بن يزداذ وختم الكتب وأنفذها.
فكتب أبو إسحاق إلى عمّاله:
« من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين، أمرهم بحسن السيرة وتخفيف المؤونة. وكتب إلى جمع من في أعماله من أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك.
فلمّا كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين صلّى إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: