ففعل ذلك بغا وسارت القافلة حتى نزلت النهر وانصرف جواسيس بابك إليه يعلمونه أنّ المال قد حمل وعاينوه محمولا. ورجع بغا بالمال إلى أردبيل وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا من برزند، فوافى خشّ مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبي سعيد. فلمّا أصبح ركب في سرّ لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن تلفّ الأعلام وأمر الناس بالسكوت. وجدّ في السير ورحلت القافلة التي كانت توجّهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي.
ورحل الأفشين من خشّ يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبّأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر وهو يظنّ أنّ المال موافيه، وخرج صاحب النهر يبذرق من عنده وهو علّوية الذي قلنا إنّه كان هناك، فأخذ يسير نحو الهيثم على رسمه.
فخرجت عليه خيل بابك وهم لا يشكّون أنّ المال معه فقاتلهم صاحب النهر علّوية وأصحابه فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وعلموا أنّ المال قد فاتهم، فأخذوا علمه ولباس أهل النهر ودراريعهم وخفاتينهم ولبسوها وتنكّروا ليأخذوا أيضا الهيثم ومن معه ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنّهم أصحاب النهر. فلمّا جاءوا ولم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر وقفوا في غير موضعه، وجاء الهيثم فوقف في موقفه فأنكر ما رأى فوجّه ابن عمّ له وقال:
« اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: أيّ شيء وقوفك؟ »
فجاء ابن عمّ هيثم. فلمّا رأى القوم ودنا منهم أنكرهم، فرجع إلى الهيثم.
فقال له:
« إنّ هؤلاء القوم لست أعرفهم. » فقال له الهيثم:
« أخزاك الله ما أجبنك. » ووجّه خمسة من الفرسان، فلمّا قربوا من القوم خرج من الخرّمية رجلان فتلقّوهم فأنكروهما وأعلموهما أنّهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا فقالوا:
« إنّ الكافر قد قتل علّوية وأصحابه وأخذوا أعلامهم ولباسهم. » فانصرف الهيثم وأتى القافلة التي كانت معه، فأمرهم أن يركضوا ويرجعوا لئلّا يؤخذوا، ووقف هو في أصحابه يسير بهم قليلا قليلا ويقف قليلا ليشتغل الخرّمية عن القافلة وصار شبيها بالحامية لهم، حتى وصلت القافلة إلى حصنه الذي كان فيه يكون الهيثم وهو أرشق، وقال لأصحابه:
« من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه إن نفق؟ » فتوجّه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن وخرج بابك فيمن معه ونزل بالحصن، ووضع له كرسيّ وجلس على شرف بحيال الحصن وأرسل إلى الهيثم من يحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن ستمائة راجل وأربعمائة فارس وله خندق حصين. فقاتله وقعد بابك فيمن معه ووضع بين يديه الخمر مع أصحاب له يسربونها والحرب مشتبكة.
ولقي الفارسان الأفشين على أقلّ من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدّمته:
« اضربوا بالطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحو هذين الفارسين اللذين يركضان إلينا وصيحوا بهما: لبّيك، لبّيك. » فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين يكسّر بعضهم بعضا حتى لحقوا بابك وهو جالس. فلم يتدارك أن يتحرّك ويركب حتى وافته الخيل والناس واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجّالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير ودخل موقان وقد تقطّع عنه أصحابه. وأقام الأفشين في ذلك الموضع وبات ليلته ثم رجع إلى معسكره ببرزند.
وأقام بابك بموقان [ أيّاما ] ثم بعث إلى البذّ، فجاءه في الليل عسكر فيهم رجّالة فرحل من موقان حتى دخل البذّ، فلمّا كانت بعد أيّام مرّت قافلة من خشّ إلى برزند من قبل أبي سعيد ومعها صاحب لهم ومعهم ميرة ومتاع يحمل إلى معسكر الأفشين، فخرج عليهم إصبهبذ بابك فأخذ القافلة وقتل من كان فيها من أهل القافلة وانتهب جميع ما فيها فقحط عسكر الأفشين.
فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه فإنّ الناس قد قحطوا وأضاقوا. فوجّه إليه صاحب المراغة بقافلة فيها قريب من ألف ثور سوى الحمير والدوابّ تحمل الميرة ومعها جند يبذرقونها. فخرجت عليهم أيضا سريّة لبابك فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها وأصاب الناس ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب الشيروار أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس في تلك السنة وقدم بغا على الأفشين بمال ورجال.
خروج المعتصم إلى القاطول وابتداؤه ببناء سر من رأى

وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول وابتدأ ببناء سرّ من رأى وذلك في ذي القعدة منها.
ذكر السبب في ذلك

كان سبب خروجه إلى القاطول أنّ غلمانه الأتراك كانوا عجما قد اصطنعهم ورأى فيهم نجابة، وكان لا يزال يجد الواحد بعد الواحد قتيلا في الأرباض. وذلك أنهم كانوا يركبون الدوابّ فيتراكضون في طرق بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبيّ، فيأخذهم الأبناء فينكّسونهم عن دوابّهم ويجرحون بعضهم فربّما هلك. فتأذّى الأتراك بهم وتأذّت العامّة بالأتراك حتى شكت الأتراك إلى المعتصم.
فحكى أنّ المعتصم كان ركب يوم عيد إلى المصلّى، فلمّا انصرف وصار في مربعة الحرشي، قام إليه شيخ فقال:
« يا با إسحاق. » فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم بالكفّ عنه فقال الشيخ: