« مالك لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا. » والمعتصم يسمع ذلك كلّه، ثم دخل داره.
فلم ير راكبا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم.
فلمّا كان العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلّى بالناس العيد، ثم لم يرجع إلى داره ببغداد. ولكنّه صرف وجه دابّته إلى القاطول.
وحكى أنّه قام أيضا إلى المعتصم يوما رجل من العامّة فقال:
« يا با إسحاق، اخرج عن مدينتنا وإلّا حاربناك بما لا تقوم له. » فتقدّم بأخذ الرجل وحمله إليه. فلمّا صار بين يديه قال:
« ويلك بمن تحاربنى وما هذا الذي لا أقوم له؟ » قال: « نحاربك بأصابعنا إذا هدأت الأصوات بالليل» - يعنى الدعاء.
فسكت عن الرجل ولم يعرض له.
ثم خرج فبنى سرّ من رأى.
وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه.
ذكر الخبر عن غضبه عليه وحبسه له وسبب اتصاله به ونفاقه عليه

كان الفضل هذا رجلا من أهل البردان حسن الحظّ، فاتصل بكاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى. فمات يحيى وصار الفضل في موضعه وذلك قبل خلافة المعتصم، ثم خرج معه إلى عسكر المأمون وصار معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر وكثرت ذخائره وكنوزه. ثم قدم الفضل قبل المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب عنه وعلى لسانه ما أحبّ، حتى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة والدواوين كلّها تحت يديه فتضاعفت كنوزه.
فكان المعتصم يأمر بإطلاق الشيء لندمائه ومغنّيه، فلا ينفذ الفضل، وربّما رادّه في الشيء إدلالا عليه وأنسا به، وكان قد نزل منه وحلّ من قلبه المحلّ الذي لا يحدّث أحد نفسه بملاحظته فضلا عن منازعته ولا في الاعتراض عليه إذا أراد شيئا أو حلم به، فكانت هذه المنزلة تحمله على الدالّة حتى كان يخالفه ويمنعه بعض أمره وبعض المال الذي يصرفه في مهمّه.
فحكى عن أحمد بن أبي دؤاد أنّه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان:
« احمل إليّ كذا من الدراهم. » فيقول: « ما عندي. » فيقول: « فاحتلها من وجه، فليس منها بدّ. » فيقول: « ومن أين أحتالها ومن أين وجهها ومن يعطيني هذا القدر؟ » فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه فلمّا كثر هذا من فعله ركبت يوما إليه فقلت له مستخليا به:
« يا أبا العبّاس إني أعرف أخلاقك، وعلى ذاك ما أدع نصيحتك وأداء ما يجب عليّ من حقّك. وقد أراك كثيرا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه وتقدح في قلبه والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيّما إذا كثر ذلك وغلظ. » قال: « وما ذاك يا با عبد الله؟ » قلت: « أسمعه كثيرا، كثيرا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول من يعطيني هذا وهذا ما لا تحتمله الملوك. » قال: « فما أصنع إذا طلب مني ما ليس عندي؟ » قلت: « تصنع أن تقول: أحتال يا أمير المؤمنين في ذلك فتدفع عنك أيّاما ثم تحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه الباقي. » قال: « نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. » قال: فو الله لكأنّى كنت أغريه بالمنع. فكان إذا عاود مثل ذلك القول عاد إلى مثل ما يكره من الجواب.
وكان مع المعتصم رجل مضحك يستخفّ روحه وكان قديم الصحبة له يقال له: إبراهيم الهفتيّ، فأمر له بمال وتقدّم إلى الفضل بن مروان في إعطائه فلم يعطه الفضل شيئا. فبينا الهفتيّ يوما يتمشّى مع المعتصم في بستان داره التي بنيت له ببغداد، وقد نقل إليه أنواع من الرياحين والغروس، وكان الهفتيّ يصحب المعتصم قبل أن تفضى إليه الخلافة، فيقول له فيما يداعبه: