









فوقف في القرية وأصعد الكلغريّة فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثم رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول: « إنّ بابك قد هرب في عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم. » وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه في الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا.
أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك
وكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم:
« هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟ » فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا:
« أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا. » فقال الأفشين:
« ويحكم، إنّه يفرح بهذا. » قالوا: « أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك. » قال: « فلا بدّ من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه. » فقام رجلان منهم فقالا:
« اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا. » فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال:
« أيّ شيء صنعتم؟ » قال: « أسر عيالاتنا ولم نعرف موضعك فنأتيك. » فقال للذي كان معه الكتاب:
« أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟ » - يعنى ابنه.
فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه.
ثم قال للآخر:
« اذهب أنت فقل لابني: يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لي بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه. » وردّ الرجل مع أدلّاء حتى دلّوه ورجعوا إلى بابك.
فناء زاد بابك
ثم إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا في الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم: [ أن ] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.
بابك والحراث وما فعل ابن سنباط
وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له في بعض الأودية. فقال لغلام له:
« انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه. » وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب المسلحة فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي.
فركب صاحب المسلحة وكان في جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال:
« ما هذا؟ » قال الحرّاث:
« هذا رجل مرّ بي فطلب خبزا فأعطيته. » فقال للغلام:
« أين مولاك؟ » قال: « هاهنا. » فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثم قال:
« يا سيّدي إلى أين؟ » قال: « أريد بلاد الروم - أو موضعا سمّاه. » فقال له:
« لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده مني. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل عليّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد. » وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره.
ثم قال له ابن سنباط:
« صر عندي في حصني فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. » وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له:
« ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكني أقيم عندك وتوجّه عبد الله أخي إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا. » فقال له ابن سنباط:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)