« ولدك كثير. » قال: « ليس فيهم خير. »
ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك

وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده في حصنه. فكتب إليه:
« إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أعزّه الله - الذي تحبّ. » وكتب يجزّيه خيرا.
ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل:
« ليس يمكنك أن تراه إلّا في الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك. » ففعل به ذلك في وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال:
« من هذا الرجل؟ » فقال له ابن سنباط:
« هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني. » فقال له بابك:
« منذ كم أنت هاهنا؟ »
قال: « منذ كذا وكذا سنة. » قال: « وكيف أقمت ها هنا؟ » قال: « تزوّجت ها هنا. » فقال له:
« صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى. » ثم رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك:
ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما.
ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين في الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد فقال له:
« ها هنا واد طيّب وأنت مغموم في جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد. » فقال له بابك:
« إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء. » وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول:
« هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله. » فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم.
فقالا له:
« انزل. » فقال: « ومن أنتما؟ » قال أحدهما:
« أنا أبو سعيد. » وقال الآخر:
« أنا بو زبازه. » فقال: « نعم. » وثنّى رجله فنزل - وكان ابن سنباط ينظر إليه - فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه وقال:
« إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال مني وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء. »
بابك يحمل إلى الأفشين

ثم أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند في خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية.
وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم في حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم.
فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين في درّاعته وعمامته وخفّيه حتى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثم قال:
« انزلوا به إلى العسكر. » فنزلوا به راكبا.
فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا أفردهم الأفشين في حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم.
فوجّه الأفشين إليهم:
« أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله. » قالوا: « إنّه كان محسنا إلينا. » فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين.
فلمّا صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه.
فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك:
« أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان. » قال: « أشتهى أن أنظر إلى مدينتي. » فوجّهه مع قوم في ليلة مقمرة إلى البذّ حتى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثم ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به

فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد.