ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء:
« هذا الرجل يدور بنا. » فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ:
« صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم. » فقال له:
« ويحك فأنزلنا في الجبل حتى نستريح. » فقال: « رأيك. » فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال:
« وجّهوا رجلين يصعدان هذا الجبل فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه. » فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: « أين باتوا. » فسمّيا الموضع. فقال الشيخ:
« خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتى دلّونا. » فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا في الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا:
« كنّا مع الملك في وقعة الأفشين. » فقالوا لهم:
« فحدّثونا بالقصّة. » فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام في موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر - يعنى عسكر الأفشين.
فقال أميرهم:
« نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا في طلبهم. فلمّا كان الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثم رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا.
فلمّا كان الغد فإذا الملك في جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ ممن انصرف ] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها. »
لحوق أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين بأنقرة

فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبيّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا في طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثم لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
ثم ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثم ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثم توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم.
وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن.
فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان.
فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه في ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا فوق الخشب البراذع.
فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور.
فكتب ياطس والخصيّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما:
« من أنتما؟ » لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب. فقرئ وإذا فيه:
« إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي في الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتى يصير إلى الملك. » فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما حول عمّوريّة فقالا:
« ياطس يكون في هذا القصر. » - يعنون البرج. » فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثم نحّوهما.
ثم أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على دوابّهم في السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتى انهدم ما بين برجين في الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا.
تدبير حربي فاشل