ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون:
« ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟ » ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك.
وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل يدور في العسكر حتى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال:
« إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه أن يقتله. » فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:
« لا أفسد هذه الغزاة. » فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس: « يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثيّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك. » فأبى عليه العباس وقال:
« أنتظر حتى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا. » وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثيّ في عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا.
ذكر سوء تحفظ في القول عاد بهلكة

كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد في خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال:
« إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي. » وقال: « لا يستقبلك أحد إلّا ضربته. » فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له:
« يا بنيّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ. » وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له في خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه في بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم.
واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
« امض إلى أبي جعفر. » وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له:
« رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له:
« اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأيّ شيء قصّتهما. » فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال:
« ما وقّفكما هاهنا؟ » قالا: « وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه. » فقال لهما محمد بن سعيد:
« وكّلا وكيلا يشترى لكما. »
فقالا: « لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه. » فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه:
« قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم - يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل - لا تدوروا ها هنا وها هنا. » فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا:
« نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا. » فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد في عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له:
« أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما. » فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال:
« هاتوا سياطا. » فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:
« احملوه وألبسوه قباطاق واحملوه على بغل في قبة. » وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال:
« احبسوا هذا معه. » فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة وأثقالهما وغلمانهما في العسكر لم يحرّك لهما شيء حتى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام في تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك.
فقال المعتصم لبغا:
« لا ترحل غدا حتى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به. » وكان هذا بالصفصاف. ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به.