خلافة جعفر المتوكل

وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة رصافيّة فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:
« أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة. » فتناظروا في من يولّونها، فذكر أحمد بن أبي دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:
« السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. » تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:
« بسم الله الرحمن الرحيم - أمر أبقاك الله - أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك في العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله. » وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.
ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك في العاقبة وتجهمه للمتوكل حتى أهلكه

كان السبب في غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثم أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:
« ما جاء بك؟ » قال: « جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى. » فقال لمن حوله:
« انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك. » فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبي دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:
« ما جاء بك جعلني الله فداءك؟ » قال: « جئت لتسترضى أمير المؤمنين. » قال: « أفعل ونعمة عين. » فكلّم أحمد بن أبي دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.
فأعاد أحمد الكلام بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبي دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.
وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زيّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:
« ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. » فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:
« يا غلام ادع لي حجّاما. » فدعى به. فقال:
« خذ من شعره فاجمعه. » فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.
فقال المتوكّل:
ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا في الرضا عنى فأخذ شعري عليه.
فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر في مكروه يناله به. ثم أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:
« اعدل إلى ها هنا. » فعدل وأوجس في نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثم أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:
« انصرفوا. » فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.
ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان في منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه في الهارونيّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:
« وكّل ببيع متاعك. » وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثم قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.
وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث أيّاما ثم سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثم أعيد الى المساهرة.
وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور في الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتى استخرج منه جميع ما كان عنده ثم ابتلى به فعذّب فيه حتى مات.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين