فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.
فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبي دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق في الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال:
« يا أحمد ما تقول في القرآن؟ » قال: « كلام الله. » قال: « أفمخلوق هو؟ » قال: « [ هو ] كلام الله. » قال: « فما تقول في ربّك، أتراه يوم القيامة؟ » قال: « يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته. » وحدّثني سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:
« ويلك انظر ما تقول. » قال: « أنت أمرتنى بذلك. » فأشفق إسحاق من كلمته.
قال: « أنا أمرتك بذلك؟ » قال: « نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله . » فقال الواثق لمن حوله:
« ما تقولون فيه؟ » فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:
« يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. »
وقال آخر:
« اسقني دمه يا أمير المؤمنين. » فقال له الواثق:
« القتل يأتى على ما تريد. » وقال أحمد بن أبي دؤاد:
« كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه. » فقال الواثق:
« إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معي أحد، فإني أحتسب خطإي إليه. » ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان في الخزانة، فأتى به فمشى إليه في وسط الدار ودعا بنطع فصيّر في وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.
ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أيّاما ثم حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب في أذنه رقعة:
« هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه. » وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا في الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.
الفداء بين المسلمين وصاحب الروم
وفي هذه السنة تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.
وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم في طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف في الفداء قالوا:
« لا نأخذ في الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثم رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق في شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتى تمّت العدّة. » وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبي ترك في أيدى الروم.
وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.
ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.
قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.
فكلّم عمارة الواثق في بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم في الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.
فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثم سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم في ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.
فسار بغا حتى ورد بطن نخل ثم دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.
فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.
ذكر اتفاق حسن
وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة في ظهور بنى نمير. فنفخوا في صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.
وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثم أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا في الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثم جمعهم مع من لحق به ممّن طلب الأمان وحملهم إلى البصرة.
موت الواثق
وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد في إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر في محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثم حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبي دؤاد. فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفّة، [ فعلموا أنّه قد مات ] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.
فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.
خلافة جعفر المتوكل
وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة رصافيّة فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:
« أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة. » فتناظروا في من يولّونها، فذكر أحمد بن أبي دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:
« السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. » تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:
« بسم الله الرحمن الرحيم - أمر أبقاك الله - أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك في العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله. » وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.
ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك في العاقبة وتجهمه للمتوكل حتى أهلكه
كان السبب في غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثم أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:
« ما جاء بك؟ » قال: « جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى. » فقال لمن حوله:
« انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك. » فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبي دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:
« ما جاء بك جعلني الله فداءك؟ » قال: « جئت لتسترضى أمير المؤمنين. » قال: « أفعل ونعمة عين. » فكلّم أحمد بن أبي دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.
فأعاد أحمد الكلام بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبي دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.
وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زيّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:
« ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. » فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:
« يا غلام ادع لي حجّاما. » فدعى به. فقال:
« خذ من شعره فاجمعه. » فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.
فقال المتوكّل:
ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا في الرضا عنى فأخذ شعري عليه.
فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر في مكروه يناله به. ثم أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:
« اعدل إلى ها هنا. » فعدل وأوجس في نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثم أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:
« انصرفوا. » فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.
ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان في منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه في الهارونيّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:
« وكّل ببيع متاعك. » وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثم قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.
وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث أيّاما ثم سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثم أعيد الى المساهرة.
وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور في الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتى استخرج منه جميع ما كان عنده ثم ابتلى به فعذّب فيه حتى مات.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
هروب محمد بن البعيث
وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها والأخرى يكدر.
فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار في نحو ألفى رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر في طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن عليّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد.
فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار في عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها فرسخان في داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا في مواضع أبوابها. وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء.
فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل بن كال في جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا.
فوجّه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركيّ وشاكريّ ومغربيّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثم يرجعون.
فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان.
وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثم فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سراريّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل:
« ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ » قال: « الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لي فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو. » ثم اندفع بلا فصل:
أبي الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والعفو في الله أجمل
وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ** وعفوك من نور النّبوّة يجبل
فإنّك خير السابقين إلى العلى ** ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل
فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده:
« إنّ معه لأدبا. » فقال بعضهم وبادر:
« بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك. »
فقال المتوكّل:
« ارجع إلى منزلك. » ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له.
وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. وحجّ في هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر.
ذكر سبب ذلك
كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ.
فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال:
« أنت أبي وأنت ربّيتنى. » فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين
وفيها كان مقتل إيتاخ
ذكر سبب مقتله
لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم في تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثم يخرج إلى سرّ من رأى.
فكتب إليه إسحاق:
« إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. » قال: فخرجنا حتى إذا كنّا بالياسريّة وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج في خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم في الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتى قالوا:
« قد قرب منك. » فركب فاستقبله. فلمّا نظر إليه أهوى إسحاق لينزل. فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل. وكان إيتاخ في نحو ثلاثمائة من أصحابه وعليه قباء أبيض متقلّدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا حتى إذا صار عند الجسر تقدّمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم. فقال لإيتاخ:
« تدخل أعزّ الله الأمير. » وكان الموكّلون بالجسر كلّما مرّ بهم غلام من غلمانه قدّموه حتى بقي في خاصّة غلمانه، فدخل بين يديه قوم وقد فرشت له دار خزيمة بن خازم، وتأخّر إسحاق وأمر ألّا يدخل الدار من غلمانه إلّا ثلاثة أو أربعة وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشطّ وكسرت كلّ درجة في قصر خزيمة، فحين دخل أغلق الباب، خلفه فنظر فإذا ليس فيه إلّا ثلاثة غلمان.
فقال:
« قد فعلوها. » ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو صار إلى سرّ من رأى فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك.
ثم ركب إسحاق حرّاقة وأعدّ لإيتاخ أخرى. ثم أرسل إليه أن يصير إلى الأخرى وأمر بأخذ سيفه، فحدّروه إلى الحرّاقة وصيّر قوم معه بالسلاح، وصاعد إسحاق إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق فأدخل ناحية منها، ثم قيّد وثقّل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه:
منصور والمظفّر وبكاتبيه: سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان وقدامة على ضياع إيتاخ خاصّة فحبسوا ببغداد.
وذكر ترك مولى إسحاق قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال:
« يا ترك ».
قلت:
« ما تريد؟ » قال: « أقرأ على الأمير السلام وقل له قد علمت ما كان يأمرنى به المعتصم والواثق في أمرك فكنت أدفع عنك ما أمكننى فلينفعنى ذلك عندك، أمّا أنا فقد مرّ بي شدّة ورخاء فما أبالى ما أكلت وما شربت، وأمّا هذان الغلامان فإنّهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس فصيّر لهما لحما ومرقة وشيئا يأكلان منه. » قال ترك: فذهبت إلى مجلس إسحاق فوقفت، فقال لي:
« ما تريد؟ فأرى في وجهك كلاما. » قلت: « نعم. » قال لي:
« إيتاخ كذا وكذا. » وكانت وظيفة إيتاخ في كلّ يوم رغيفا وكوزا من ماء، ويؤمر لابنيه بخوان عليه سبعة أرغفة وخمسة ألوان فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق.
ثم هلك إيتاخ بالعطش فإنّه أطعم ومنع الماء حتى مات وأحضر إسحاق القضاة والفقهاء وعرضه عليهم لا ضرب به ولا أثر.
وأمّا ابناه فبقيا في الحبس حياة المتوكّل. فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما.
ما عامل به المتوكل أهل الذمة في ملابسهم ومنازلهم
وفي هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة بلبس العسليّ والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السرج، وبتغيير القلانس لمن لبس قلنسوة، وبتغيير زيّ النساء في أزرهن العسلية ليعرفن، وكذلك مماليكهم، ومنعهم لبس المناطق، وإن دخلوا الحمام كان معهم جلاجل ليعرفوا، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة وبأخذ العشر من منازلهم. فإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا وإن لم يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء. وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجرى فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلّم أولادهم في كتاتيب المسلمين وألّا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في أعيادهم صليبا وأن يشمعوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا يشبه قبورهم قبور المسلمين، وكتب إلى العمّال في الآفاق بذلك.
عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة
وفي هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسمّاه المنتصر، ولأبي عبد الله واسمه الزبير وسمّاه المعتزّ، ولإبراهيم وسمّاه المؤيد، بولاية العهد. وذكر ذلك للشعراء وكتبت بينهم كتب وفرّقت في الأمصار.
ودخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين
ومن حوادثها هدم قبر الحسين
وفيها توجّه الفتح بن خاقان عند المتوكّل وولّى أعمالا منها أخبار الخاصّة والعامّة بسرّ من رأى وما يليها.
وفيها أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين وما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويمنع الناس من إتيانه. وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف فجأة، وكان قد ولّى أذربيجان فعسكر بكرخ فيروز، وأراد الركوب فلبس أحد خفّيه ومدّ الآخر ليلبسه فسقط ميّتا، فولّى المتوكّل ابنه يوسف ما كان يتولّاه أبوه من الحرب وولّاه مع ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين
وفيها وثب أهل ارمينية بيوسف بن محمد بن يوسف فيها
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّه لمّا صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط وكان يقال له: بطريق البطارقة. فطلب الأمان فأخذه يوسف بن محمد وقيّده وبعث به إلى باب السلطان. فأسلم بقراط وابنه واجتمع على يوسف ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية فتحالفوا ونذروا دمه لمّا حمل بقراط فنهى أصحاب يوسف يوسف عن المقام وعرّفوه اجتماع القوم فلم يقبل، وأقام فحاصروه من كلّ وجه.
وسقطت الثلوج فخرج يوسف إلى ظاهر المدينة وكان أصحابه متفرّقين في الأعمال، فقاتلهم فقتلوه وقتلوا من معه. فأمّا من لم يقاتل فإنّه قالوا لهم:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)