قال: « أعظم الله أجرك في سيّدنا أمير المؤمنين. كان عبد الله دعاه فأجابه. » فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل والمجلس فأغلق وغلّقت الأبواب كلّها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيد عن رسالة المتوكّل.
فذكر عثعث أنّ المتوكّل بعد قيام المنتصر استدعى رطلا وكان بغا الصغير المعروف بالشرابى قائما عند الستر وبغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته موسى ابنه فدخل بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم. فقال له الفتح:
« ليس هذا وقت انصرافه. » فقال بغا:
« إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة أرطال ألّا أترك أحدا في المجلس، وقد جاوز العشرة. » فكره الفتح قيامهم. فقال له بغا:
« إنّ حرم أمير المؤمنين خلف الستارة وقد سكر، فقوموا فاخرجوا. » فقاموا ولم يبق إلّا عثعث والفتح وأربعة من خدم الخاصّة وغلق بغا الصغير الأبواب كلّها إلّا باب الشطّ ومنه دخل القوم الذين وقفوا على قتله فلمّا دخل القوم وسلّوا سيوفهم نظر إليهم عثعث فقال المتوكّل:
« قد فرغنا من الحيّات والعقارب والأسد وصرنا إلى السيوف. » وذلك أنّ المتوكّل كان ربّما أرسل هذه الأشياء على ندمائه ليفزّعهم ويضحك هو، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال:
« ويلك ما تقول أيّ سيوف؟ » فما استتمّ كلامه حتى دخلوا عليه، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفيه وأذنه فقدّه، فقام الفتح في وجهه ووجوه القوم وقال:
« وراءكم يا كلاب. » فقال له بغا:
« لا تسكت يا جلفى. » فرمى الفتح بنفسه على المتوكّل، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطّعوهما حتى اختلطت لحومهما. وهرب عثعث بعد ما أصابته ضربة ونجا الخدم وراء الستارة وتطايروا وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم وهو ينفّذ الأمور بالشموع.
وذكر أنّ بعض نساء الأتراك ألقت رقعة بما عزم عليه القوم فوصلت إلى عبيد الله بن يحيى وشاور الفتح فيها وعرف الخبر أيضا أبو نوح كاتب الفتح واتفق رأيهم على كتمان المتوكّل يومهم ذلك لما كانوا رأوا من سروره فكرهوا أن ينغّصوا يومه، وهان عليهم أمر القوم، وكانوا وثقوا بأنّ ذلك لا يجسر عليه ولا يتمّ. فبينا عبيد الله ينفّذ الأمور إذ طلع عليه بعض الخدم فقال:
« يا سيّدي أنت ما جلوسك؟ » قال: « وما ذاك؟ » قال: « الدار سيف واحد. » فأمر بعض خدمه بالخروج. فخرج ونظر، ثم عاد فأخبره أنّ المتوكّل والفتح قد قتلا. فخرج في من معه من خدمه وخاصّته. فأخبر أنّ الأبواب مغلّقة، فأخذ نحو الشطّ فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان يلي الشطّ فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشطّ ووجد زورقا، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد وغلام له. فصار إلى منزل المعتزّ فسأل عنه فلم يصادفه فقال:
« إنّا لله وإنا إليه راجعون قتلني وقتل نفسه. » وتلهّف عليه.
واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة غد من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل من الأعراب وغيرهم وقد اختلف في عدّتهم. فقال بعضهم كانوا عشرة آلاف، وزاد بعضهم ونقص بعض. فقالوا:
« إنّما كنت تصطنعنا لهذا اليوم فأمر بأمرك وأذن لنا نمل على القوم ميلة فنقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. » فأبى وقال:
« ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم ». - يعنى المعتزّ.
وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكان أسمر نحيفا حسن العينين خفيف العارضين.
خلافة محمد بن جعفر المنتصر
وبويع للمنتصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوّال وهو ابن خمس وعشرين سنة. واستوزر أحمد بن الخصيب وهو الذي قرأ على الناس كتابا، فخبّر عن أمير المؤمنين المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قتل أباه جعفر المتوكّل فقتله به وحضر عبيد الله بن الفتح بن خاقان فبايع وانصرف.
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
وفيها أغزى المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّه كان بين أحمد بن الخصيب وبين وصيف شحناء وتباغض، فأشار على المنتصر بإخراجه غازيا. فقال المنتصر:
« ائذن لمن حضر الدار؟ »
فأذن لهم، وفيهم وصيف. فأقبل عليه وقال:
« يا وصيف أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن أن يمسك عنه، فإمّا شخصت وإمّا شخصت. » فقال وصيف:
« بل أشخص يا أمير المؤمنين. » فقال لأحمد بن الخصيب:
« انظر ما تحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له. » قال: « نعم يا أمير المؤمنين. » قال: « ما معنى نعم، قم الساعة يا وصيف ومر كاتبك أن يواقفه على جميع ما يحتاج إليه حتى تزيح علّته. » فقام أحمد ووصيف حتى خرج فما أفلح.
وكتب المنتصر كتابا إلى محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان ببغداد منصرفا من الحجّ يعرّفه فيه إغزاءه وصيفا ويعلمه أنّه خارج إلى ثغر ملطية للنصف من حزيران ويأمره أن يكاتب عمّاله في نواحي عمله، ليقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلهم ويحثّهم على الجهاد ويستفزهم ويلحقهم به في الوقت المحدود.
ثم كتب عن المنتصر كتاب إلى وصيف يأمره بالمقام ببلد الثغر أربع سنين يغزو في أوقات إلى أن يأتيه رأى أمير المؤمنين.
خلع المعتز والمؤيد أنفسهما
وفي هذه السنة خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وأظهرا ذلك.
ذكر سبب خلعهما
لمّا استقامت الأمور للمنتصر بالله قال أحمد بن الخصيب لبغا:
« إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتزّ فلا يبقى منّا باقية. والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. » فجدّ الأتراك في ذلك وألحّوا على المنتصر بالله وقالوا:
« نخلع هذين ونبايع لابنك عبد الوهاب. » وكان مكرما للمؤيّد والمعتزّ. فلم يزالوا به حتى أحضرهما الدار، وذلك بعد أربعين يوما من ولايته. فلمّا حصلا في دار واحدة من الدار قال المعتزّ للمؤيّد:
« يا أخي لم أحضرنا؟ » قال: « يا شقيّ للخلع. » فقال: « لا أظنّه يفعل بنا ذلك. » فبينا هم في ذلك إذ جاءتهم الرسل بالخلع.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 10 (0 من الأعضاء و 10 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)