وقدم محمد بن خالد بن يزيد بلد ينتظر من يصير إليه وكان بالجزيرة.
فلمّا كان اضطراب الأتراك ودخول المستعين بغداد لم يمكنه المصير إلى بغداد إلّا من طريق الرقّة، فصار إليها بمن معه من خاصّته. ثم انحدر منها إلى بغداد، فصار إلى محمد بن عبد الله فخلع عليه خمس خلع: ديبقي وملحم وخزّ ووشى وسواد، ثم وجّه به في جيش كثيف لمحاربة أيّوب بن أحمد، فأخذ على طريق الفرات فحاربه أيّوب في نفر يسير فهزمه. فلمّا انتهى خبر هزيمته إلى محمد بن عبد الله قال:
« ليس يفلح أحد من العرب إلّا أن يكون معه نبي ينصره الله به. » وكان للأتراك وقعات بباب الشمّاسية كثيرة يكون مرّة لهم ومرّة عليهم.
وإنّما تركنا ذكرها لأنّها لم تجر بحيلة ولا مكيدة ولا تدبير صائب، وإنّما كانت كالفتن التي تجرى على ما يتفق. وكان الغوغاء اجتمعوا بسرّ من رأى بعد هزيمة الأتراك الأولى لما رأوا ضعف المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والصيارف، فأخذوا جميع ما وجدوا فيها. فاجتمع التجّار إلى إبراهيم المؤيّد أخي المعتزّ فشكوا ذلك وأعلموه أنّهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. فقال لهم المؤيّد:
« كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم ولم تكن عنده لذلك نكيرة. »
وورد من البصرة سفن بحريّة تسمّى البوارج وهي عشرة، فيها نفّاطون وفي كلّ واحدة نجّار وخبّاز ومقاتلة. فكانوا يرمون الأتراك وعساكرهم بالنيران فانتقلوا من معسكرهم.
ظفر سليمان بعسكر الحسن بن زيد

وفي هذه السنة ظفر سليمان بن عبد الله بعسكر الحسن بن زيد فتنحّى الحسن عن طبرستان ولحق بالديلم. ووردت الكتب على السلطان بالفتح، وكتب نسخة كتاب الفتح على يد محمد بن طاهر. وكان سبب ذلك أنّ أهل آمل لقوا من عسكر الحسن بن زيد عبئا فأتوا سليمان بن عبد الله مظهرين توبة وإنابة، وتاب إليهم خلق كثير من جيشه فنهض إلى الحسن بن زيد بتعبئة وعدّة فهزمه واستولى على بلاد طبرستان وانقطعت أسباب الفتنة عنه.
وظفر محمد بن طاهر أيضا بالطالبيّ الذي كان بالري وأخذه أسيرا وكتب بالفتح.
وفرّق محمد بن عبد الله في الكافر كوبات واستعمل منها شاكرا فرّقه فيهم.
فأثّروا في الأتراك أثرا كبيرا وأحضر ينتويه رئيس العيّارين وسوّر ووصل بخمسمائة درهم وقدم من ناحية الرقّة مزاحم بن خاقان فتلقاه بنو هاشم وكان قدم معه من الخراسانية والأتراك والمغاربة ألف رجل معهم عتاد الحرب من كل صنف. فدخل بغداد ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله ولمّا وصل خلع عليه سبع خلع وقلّد سيفا وخلع على كلّ واحد من ابنيه خمس خلع.
ثم كثرت الوقعات أيضا من أصحاب محمد بن عبد الله وأصحاب أبي أحمد وضرى العيّارون وأصحاب السواري عليهم، فكانوا ينتصفون منهم فرئي غلام لم يبلغ الحلم معه مخلاة فيها حجارة ومقلاع يرمى عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابّهم واجتمع عليه أربعة من الفرسان الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه وجعل يرميهم فلا يخطئ وتتقطّر بهم دوابّهم من رميه. فمضوا وحملوا معهم أربعة من رجّالة المغاربة بالرماح، فداخله اثنان منهم فرمى بنفسه في الماء ودخلا خلفه فلم يلحقاه وعبر إلى الجانب الشرقي وصيّح بهما وكبّر الناس فرجع جميعهم ولم يصلوا إليه.
قدوم أبي الساج

وفي هذه السنة قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال فدخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر فخلع عليه خمس خلع وانصرف إلى منزله.
وقدم أيضا بغداد حبشون ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى بن بغا من الشاكرية وانضمّ إليه عامّة الشاكرية المقيمون بالرقّة وهم ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع وعلى جماعة من الوجوه وانصرفوا إلى منازلهم.
وخلع على أبي الساج ديوداذ وعلى ابن فراشه، وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء وأعطى بغالا من بغال السلطان حمل عليها الرجّالة وأمر بالخروج إلى المدائن لضبطها. فحكى أنّ أبا الساج لمّا أمره محمد بن عبد الله بالشخوص إلى المدائن قال له:
« أيّها الأمير عندي مشورة أشير بها. » قال: « قل يا أبا جعفر فإنك غير متّهم. » قال: « إن كنت تريد أن تجادّ هؤلاء القوم فالرأي لك ألّا تفارق قوّاده ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفضّ هذا العسكر الذي بازائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك. » فقال: « لي تدبير والله الكافي. » فقال له أبو الساج:
« السمع والطاعة. » ومضى لما أمره به.
فلمّا صار إلى المدائن ثم إلى الصيّادة ابتدأ في حفر خندق كسرى وكتب يستمدّ فوجّه إليه خمسمائة رجل. وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل ثم استمدّ حتى حصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
ووجّه محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس في الأعراب وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، فأثبت نحوا من ألفى رجل وأقام بالأنبار وضبطها فبلغه أنّ قوما من الأتراك قصدوه فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار وفاض من الصحارى إلى ناحية السيلحين. فصار ما يلي الأنبار بطيحة، وقطع القناطر وكتب يستمدّ فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين في ألف رجل وأمدّه ابن طاهر بثلاثمائة رجل انتخبهم من القادمين من الثغور. فرحل، وأخرج المعتزّ أبا نصر بن بغا من سرّ من رأى على طريق الإسحاقى فسار يومه وليلته، وصبّح الأنبار ساعة وصل رشيد فنزل رشيد خارج المدينة وكان نجوبة نازلا المدينة.
فلمّا وافى أبو نصر عاجل رشيدا وهم غارّون على غير تعبئة فوضع فيهم السيف وثار أصحاب رشيد إلى سلاحهم فقاتلوا الأتراك والمغاربة أشدّ قتال وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا منه وبلغ نجوبة ما لقي رشيد وأصحابه، فعبر إلى الجانب الغربي وقطع جسر الأنبار وصار رشيد إلى المحوّل وسار نجوبة في الجانب الغربي حتى وافى بغداد ودخل رشيد في هذه العشية إلى دار ابن طاهر وأعلم نجوبة محمد بن عبد الله أنّه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجّه إلى رشيد يسأله أن يوجّه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتّبهم قدّام أصحابه فأبى ذلك، ثم سأل أن يضمّ إليه ناشبة ليصير إلى بنى عمّه فإنّهم مقيمون على الطاعة في الجانب الغربي وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضمّ إليه ثلاثمائة رجل من الناشبة والفرسان مع رجّالة منهم.