ذكر سبب خلعه

لمّا جرى في أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:
« وفّنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك. » فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:
« ما عندي مال. » فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا في بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.
فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثم بعثوا إليه:
« اخرج إلينا. » فبعث إليهم:
« إني أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إليّ بعضكم وليعلمني. » وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.
فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القوّاد، فجرّوا برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق في مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثم قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.
وقالوا له:
« اخلعها. » وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:
« ليس عندي مال. » ثم وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك في المستأنف.
وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.
ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.
ثم إنّ الأتراك أحضروا ابن أبي الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:
« اكتب عليه كتاب الخلع. » - يعنى المعتزّ.
فقال: « لا أحسنه. » وكان معه رجل إصبهاني فقال:
« أنا أكتب ويتخلّص الرجل. » فكتب وشهدوا عليه.
فقال ابن أبي الشوارب:
« إنّهم شهدوا على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان. »
فقال صالح بكفّه:
« أى نعم. » ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت في الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.
ثم عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثم جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.
فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.
خلافة المهتدي بالله ابن الواثق

وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. » فوقّع المعتزّ في ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه.
وكتب محمد بن الواثق المهتدي بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان في داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثم وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه في حفظه وانصرفوا عنه.
ثم قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثم وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.