انهزام الكوكبي
وفيها لقي موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبيّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم.
ذكر الخبر عن ذلك
كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم في وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ في الأرض على حشيش كان هناك. ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين.
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
وفيها كان مقتل بغا الشرابيّ.
ذكر مقتل بغا الشرابي
كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثم انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه في الانحراف عن بغا مستخفيا منه.
فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثم أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثم تنقّل إلى مواضع، ثم صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل.
ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج في خاصّته إلى تلّ عكبر، ثم مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم في شتاء. وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال:
« أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك. » فقال: « كلّهم يقولون مثل قولك؟ » قال: « نعم وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي. »
قال: « دعني حتى أنظر ويخرج إليكم أمري بالغداة. » فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ في غيبة بغا لا ينام إلّا في ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من في الزورق. ثم صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال:
« أنا بغا. » ولحقه وليد المغربيّ فقال له:
« ما لك جعلت فداك؟ » قال: « إمّا أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم. » فوكّل به وليد المغربي، ثم مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال:
« يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به. » قال: « ويلك جئني برأسه. » فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين:
« تنحّوا عني حتى أبلغه الرسالة. » وضربه ضربة على جبهته ثم على يده فقطعها. ثم ضربه حتى صرعه وذبحه وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه.
ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثم ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار.
وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم.
فأثارهم وحبس قوما في المطبق وقوما في قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ.
وفي هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلى بتوجيه والده عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبيّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم في طلب الحسن بن زيد.
وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس
وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثم كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس.
فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته. فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه عليّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان.
فصار من كرمان على مرحلة وبقي في معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق.
ثم أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له في حربه وترك عليه كرمان وعلى عليّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب في كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه في يوم واحد فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان.
فقال لأهل القرية:
« ما هذه الغبرة. » فقيل: « هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها. » ثم لم يكن إلّا كلّا ولا حتى وافاه يعقوب في أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم.
فقال يعقوب لأصحابه:
« أفرجوا عن القوم. » فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان عليّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق في بعضها أطوقة وأسورة وفي بعضها أموال وفي بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب.
فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه.
فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق:
« يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟ » قال: « حمّلنيها عليّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم. » فقال يعقوب: « يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها في رجل طوق وعنقه، والباقية في أرجل أصحابه وأعناقهم. » ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال: « يا طوق ما هذه؟ »
قال: « حمّلنيها عليّ لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان. » فقال: « يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا. » حتى فرّق تلك الأطواق كلّها ثم نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال:
« يا طوق ما هذا؟ » قال: « أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت. » فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال:
« يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى في خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس في الشرب والملاهي.
ذكر سبب خلعه
لمّا جرى في أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:
« وفّنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك. » فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:
« ما عندي مال. » فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا في بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.
فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثم بعثوا إليه:
« اخرج إلينا. » فبعث إليهم:
« إني أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إليّ بعضكم وليعلمني. » وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.
فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القوّاد، فجرّوا برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق في مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثم قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.
وقالوا له:
« اخلعها. » وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:
« ليس عندي مال. » ثم وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك في المستأنف.
وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.
ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.
ثم إنّ الأتراك أحضروا ابن أبي الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:
« اكتب عليه كتاب الخلع. » - يعنى المعتزّ.
فقال: « لا أحسنه. » وكان معه رجل إصبهاني فقال:
« أنا أكتب ويتخلّص الرجل. » فكتب وشهدوا عليه.
فقال ابن أبي الشوارب:
« إنّهم شهدوا على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان. »
فقال صالح بكفّه:
« أى نعم. » ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت في الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.
ثم عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثم جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.
فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.
خلافة المهتدي بالله ابن الواثق
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. » فوقّع المعتزّ في ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه.
وكتب محمد بن الواثق المهتدي بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان في داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثم وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه في حفظه وانصرفوا عنه.
ثم قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثم وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.
ذكر سبب ظهور قبيحة
كانت قبيحة قدّرت الفتك بصالح بن وصيف وواطأت على ذلك النفر من الكبار الذين أوقع بهم صالح. فلمّا حصلوا في يد صالح وعذّبوا، علمت أنهم لا يطوون عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم به من العذاب. فأيقنت بالهلاك وكانت قد أطلعت الكتّاب على ما تبذله في قتل أولئك الأتراك فعملت في التخلّص.
فبادرت إلى صالح بن وصيف ووسّطت بينها وبينه العطّارة وكانت تثق بها وكان لها مال ببغداد. فكتبت في حمله فاستخرج وحمل قدر خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ووقعوا على خزائن لها ببغداد، فحمل إلى السلطان منها متاع عظيم. ولم تزل خزائنها وأموالها متصلة والبيع منها دائما وحوالة الجند عليها ببغداد وسرّ من رأى عدّة شهور. ثم وقف صالح على خزانة قبيحة فأرسل إلى رجل جوهرى قال الرجل: فدخلت إليه فقال:
« إنّ لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليها هذا. فامض ومعك أحمد بن خاقان وصر إليّ معه. » قال: فمضينا إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع وجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة فدخلناها وفتّشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا. وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان ويتهدّد الرجل ويتوعّده ويشتمه. فأخذ الرجل فأسا وجعل ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد صيّر فيه المال. فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على موضع من الحائط استدلّ بصوته على أنّ فيه شيئا. فهدمه وإذا من ورائه باب ففتحناه ودخلنا فأدّانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها.
فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط ألف ألف دينار. فأخذ أحمد ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.
ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكّوك زمرّدا لم أر للمتوكّل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه نصف ملوك حبّا كبارا ما ظننت والله أنّ مثله يكون، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوتا أحمر لم أر مثله ولا ظننت أنّ مثله يوجد في الدنيا. فقوّمت الجميع على البيع ألفي ألف دينار، فحملناه كلّه إلى صالح. فلمّا رآه جعل لا يصدّق ولا يوقن حتى أحصى بحضرته ووقف عليه. فقال عند ذلك:
« فعل الله بها وصنع، عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها ». ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن حضر وقت الحجّ، فسيّرت إلى مكّة مع أصحاب المهتدي بالله. فحكى من سمعها في طريقها وهي تقول أتدعو الله على صالح بن وصيف بصوت:
« اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وأخذ مالي وغرّبنى عن بلدي وركب الفاحشة منى. » ولمّا انصرف الناس عن الموسم احتبست بمكّة.
وفي هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
ذكر السبب في قتلهما
إنّ صالح بن وصيف لمّا استصفى أموالهما وأموال الحسن بن مخلد عذّبهم وقرّب كوانين الفحم المشعلة منهم في شدّة الحرّ ومنعهم كلّ راحة، ولم يعارضه المهتدي، وكان عبد الله بن محمد بن يزداذ يقول لصالح:
« اقتلهم فإنّهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب فضلا عمّا وترهم. » فحكى الحسن بن مخلد قال: كان داود بن أبي العبّاس الطوسي يحضرنا عند صالح بجميل فيقول:
« وما هؤلاء - أعزّك الله - حتى يبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ، فنظنّه يرفقه علينا حتى يقول، على أنّى والله أعلم أنّهم إن تخلّصوا انتشر منهم شرّ كثير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف والله وقد أفتى بقتلنا وأشار عليه بإهلاكنا فيزداد علينا برأيه وكلامه غيظا. » ثم وكّل بأحمد بن إسرائيل وأبي نوح، عيسى أحمد بن محمد بن حمّاد دنقش فأسرف في تعذيبهما ثم أقام أحمد بن إسرائيل يضرب وابن دنقش يقول:
« أوجع. » فكان كلّ جلّاد يضربه سوطين يتنحّى، حتى وفّوه خمسمائة سوط. ثم أقاموا أبا نوح فضربوه كذلك أيضا ضرب التلف. ثم حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما منكّسة رؤوسهما ظاهرة ظهورهما للناس، فتلفا في الطريق.
وأمّا الحسن بن مخلد فتخلّص بخصلتين إحداهما أنّه صدقه عن جميع ما سأله عنه والآخر أنّ المهتدي كلّمه فيه وقال:
« لأهله حرمة وأنا أحبّ صلاح شأنه. » فنجا من بينهم.
انصراف مفلح من طبرستان
وفيها انصرف مفلح من طبرستان بعد أن كان دخلها، وأخرج الحسن بن زيد.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ قبيحة كتبت إلى موسى بن بغا - لمّا رأت من الأتراك اضطرابا وأنكرت أمرهم - تسأله القدوم إلى ما قبلها وأمّلت بوروده فرجا لها ولابنها. فعزم موسى على الانصراف إليها وكتب إلى مفلح وهو بطبرستان يأمره بالانصراف إليه وهو بالريّ. فورد عليه كتاب موسى وقد توجّه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد.
فلمّا ورد عليه الكتاب انصرف راجعا. فعظم ذلك على رؤساء طبرستان ومن كان هاربا قبل قدوم مفلح، وكانوا قد رجوا بقدومه الرجوع إلى منازلهم وأموالهم. وذلك أنّ مفلحا كان يعدهم اتّباع الحسن بن زيد حتى يظفر به أو يخترم دونه، فلمّا رأى الناس انصرافه من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم، سألوه عن السبب الذي صرفه وجعلوا يكلّمونه وهو كالمسبوت لا يجيبهم فلمّا أكثروا عليه قال لهم:
« ورد عليّ كتاب موسى بعزيمة منه أن لا أضع كتابه من يدي حتى أقبل إليه، وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. » ولم يتهيّأ لموسى الشخوص من الريّ إلى سرّ من رأى حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر. ففثاه ذلك عمّا عزم عليه من الشخوص، لفوت ما كان قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتّاب وأسباب المعتزّ والمتوكّل، فحسدوا المقيمين بسرّ من رأى.
فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سرّ من رأى. فأمر موسى أن يستخرج من أهل الري خراج سنة ستّ وخمسين ومائتين. فأصبح الخراج في شهر رمضان فجبى في يوم واحد خمسمائة ألف درهم فاجتمع أهل الريّ وقالوا:
« أصلح الله الأمير ما سبب انصرافك عن هذا الثغر؟ » فقال: « إنّ الجند والموالي أبوا أن يقيموا، وإذا انصرفوا فما أقلّ غنائى عنكم. » فقالوا: « أصلح الله الأمير. إنّ الموالي يرجعون لما يقدّرون هناك من كثرة العطاء وأنت وأصحابك ها هنا في أكثر وأوسع ممّا فيه أولئك هناك. فإن رأيت أن تقيم وتسدّ هذا الثغر وتحتسب في أهله الأجر والثواب وتلزمنا من خراجنا في خاصّ أموالنا لمن معك ما ترى أنّنا نحتمله فعلت. » فلم يجبهم إلى ما سألوا.
فقالوا: « أصلح الله الأمير فإذا كان الأمير على تركنا والانصراف عنّا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبدأ بعمارتها بعد، وأكثر غلّة سنة خمس وخمسين التي قد استوفى الأمير خراجها منا في الصحراء لا يمكننا الوصول إليها، إن خرج الأمير عنّا. » فلم يلتفت إلى كلامهم وخرج.
واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة فلم يؤثّر شيئا. فلمّا نظر المهتدي أنّ موسى يسير ويخلّ بموضعه وأنّ كتبه إليه لا تعنى شيئا، وجّه إليه رسولين من بنى هاشم وحمّلهما رسائل إلى موسى ووجوه قوّاده وإلى سائر عسكره يصدّهم فيها عن الحركة ويصدّقهم عن الحال بالحضرة وعن ضيق الأموال بها وما يحاذر من ذهاب ما يخلّفونه وراءهم وغلبة الطالبيّ وأتباعه من الديلم عليه. فشخص الهاشميّان مع جماعة من الوجوه والموالي وأقبل موسى يسير وصالح بن وصيف يعظّم ذلك على المهتدي وينسبه إلى العصيان والخلاف.
وكان المهتدي قد هجر الشرب وكسر آلات الشراب، وكان ينسك ويجلس على اللبود ويجلس للمظالم ويشتغل بالصوم والصلاة ودرس القرآن. فذكر أنّ كتاب صاحب البريد بهمذان ورد عليه بفصول موسى عنها. فرفع المهتدي يده إلى السماء وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
« اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدوّ وقد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تولّ من كاد المسلمين.
وانصر جيوش المسلمين حيث كانوا. اللهم إني شاخص نفسي إلى حيث نكب فيه المسلمون ناصرا لهم ودافعا عنهم، فاجزني اللهم بنيّتى إذ فقدت صالح الأعوان وعدمت الناصرين. » ثم تحدّرت دموعه يبكى.
فذكر عمّن حضر مجلس المهتدي، أنّه رأى سليمان بن وهب في ذلك اليوم يقول:
« يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكتب إلى موسى بما أسمع منك؟ » فقال: « نعم أكتب بما تسمع مني وإن أمكنك أن تنقشه في الصخر فافعل. » ولمّا تلقّاه الهاشميّان والرسل لم يغنيا، وضجّ الموالي وكادوا يثبون بالرسل وردّ موسى في جواب الرسالة يعتذر بما عاين الرسل الموجّهون إليه، وأنّه ليس يرضى القوم إلّا بورود باب أمير المؤمنين، وإن رام التخلّف عنهم لم يأمنهم على نفسه.
وأوفد موسى مع الرسل وفدا من عسكره.
وكان كنجور نفى أيّام المعتزّ إلى فارس ثم لحق بأبي دلف وأثّر بالأهواز آثارا قبيحة. فلمّا أقبل موسى انضمّ إليه فبلغ ذلك صالحا فكتب عن المهتدي في حمل كنجور مقيّدا، فأبى ذلك الموالي. ووجّه المهتدي أخاه إبراهيم لامه في كنجور يعلمه أنّ الموالي لا يقارّون كنجور ويأمره بتقييده وحمله إلى بغداد. فكان جوابهم أن قالوا:
« إذا دخلنا سرّ من رأى امتثلنا رأى أمير المؤمنين في كنجور وغيره. » وفي شوّال من هذه السنة ظهر في فرات البصرة رجل علويّ فجمع زنج البصرة الذين [ كانوا ] يكسحون السّباخ ثم عبر إلى دجلة.
ذكر خبر العلوي صاحب الزنج ومبدأ أمره وسبب خروجه
هذا الرجل مولده قرية من قرى الريّ يقال لها ورزنين وقد شكّ قوم في نسبه وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب. وهو عليّ بن محمد بن أحمد بن عليّ بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
واتصل بقوم من حاشية المنتصر وغيرهم من كتّاب السلطان فكان يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثم شخص إلى البحرين ودعا قوما إلى طاعته، فاتبعه جماعة من أهلها ووقعت بسببه عصبيّة قتل فيها جماعة. فانتقل إلى الأحساء. فحدث مثل ذلك بها فانتقل إلى البادية وادّعى النبوّة ومعجزات ذكرها عن نفسه. أحدها أنّه زعم أن سحابة أظلّته بالبادية، فبرقت ورعدت، فاتصل صوت الرعد بسمعه قال: فخوطبت فقيل: « اقصد البصرة. » فقلت لأصحابي وهم مطيفون بي: « أمرت بكذا. وكان سبب خروجي إلى البصرة. » فتبعه قوم بالبصرة منهم عليّ بن أبان المهلّبي وأخوه محمد بن الخليل وغيرهم وعامل البصرة يومئذ محمد بن رجاء الحضارى من قبل السلطان ووافق [ ذلك ] فتنة البلاليّة والسعديّة. فطمع في أحد الفريقين ووافى برنجل قصرا فعرف بقصر القرشيّ. وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأقام أيّاما.
فذكر عن ريحان وهو أحد غلمان الشورجيّين وهو أوّل من صحبه أنّه قال: كنت موكّلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة وأفرّقه فيهم.
فحملت إليهم يوما الرسم فمررت به وهو مقيم ببرنجل في قصر القرشيّ.
فأخذنى أصحابه فصاروا بي إليه، وأمرونى بالتسليم عليه بالإمرة. ففعلت فسألنى عن الموضع الذي جئت منه، فقلت:
« من البصرة. » قال: « هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ » فقلت: « لا. » قال: « فما خبر البلاليّة والسعديّة؟ » قلت: « لا أعرف خبرهم. »
فسألنى عن أخبار الشورجيّين وما يجرى لكلّ غلام منهم من الدقيق والتمر، وعمّن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك.
فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته. فقال لي:
« احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إليّ. » ووعدني أن يقوّدنى على من آتيه به منهم وأن يحسن إليّ، واستحلفني ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، فخلّى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى الموضع الذي كنت قصدته، وأقمت فيه يومي، ثم رجعت إليه من غد فوافيته وقد قدم عليه غلمان كان وجّههم إلى البصرة في حوائج له وفيما حمل له حريرة يتّخذها لواء فأمر أن يكتب عليها بحمرة وخضرة: « إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ. » إلى آخر الآية. وكتب اسمه واسم أبيه وعلّقها في رأس مرديّ وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان.
فلمّا صار في مؤخّر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيّين متوجّهين إلى أعمالهم. فأمر بأخذهم فأخذوا وكتف وكيلهم وأخذه معهم، وكانوا خمسين غلاما، وكان أهل البصرة في ذلك الزمان يشترون الزنوج ويخرجونهم إلى السباخ فيكسحونها حتى يصلوا إلى التربة الطيّبة فيعمرونها، وكسوح الزنج بالبصرة معروفة تشاهد فيها تلال كالجبال وكان في أنهار البصرة منهم عشرات ألوف يعذّبون بهذه الخدمة، وتجرى عليهم أقواتهم من الدقيق والتمر.
ثم إنّ هذا الرجل العلويّ سار من موضعه الذي ذكرنا، فصار إلى الموضع الذي يعمل فيه البستاني، فأخذ منه خمسمائة غلام وأخذ وكيلهم فكتفه، ثم إلى موضع السيرافيّ فأخذ منه خمسمائة غلام، ولم يزل يومه يفعل ذلك حتى اجتمع له خلق من غلمان الشورجيّين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا.
فمنّاهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم الأموال. وحلف لهم بالأيمان الغلاظ ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع ممكنا من الإحسان إلّا أتى إليهم.
ثم دعا مواليهم فقال:
« أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم وحمّلتموهم ما لا يطيقون فكلّمنى أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم. » فقالوا: « إنّ هؤلاء الغلمان أبّاق وهم يهربون منك، فلا يبقون عليك ولا علينا. فخذ منّا مالا وأطلقهم لنا. » فأمر غلمانه فأحضروا شطبا، ثم بطح كلّ قوم مولاهم، فضرب كلّ رجل خمسمائة شطب، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألّا يعلموا أحدا بموضعه ولا بعدد أصحابه. فأطلقهم.
ثم سار حتى عبر دجيلا وصار إلى نهر ميمون في سفن سماد وجدها، وأقام بجمع السودان إلى يوم الفطر. فلمّا أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا وركّز المرديّ الذي عليه لواءه وصلّى وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأنّ الله قد استنقذهم من ذلك وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك.
فلمّا فرغ من صلاته وخطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهّموه من لم يفهم من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك ودخل القصر.
ثم إنّ الحميري قصد جماعة من أصحابه فأخرجوهم إلى الصحراء.
فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه فأوقع بالحميرى وأصحابه فانهزموا، واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنّى بأبي صالح في ثلاثمائة من الزنج، فمنّاهم ووعدهم خيرا.
وكان ابن أبي عون قد قلّد الأبلّة وكور دجلة، وانتهى إليه أنّ عقيلا والحميري مع خليفة ابن أبي عون قد أقبلوا نحوه ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الزريقية فوصلوا إليها مع صلاة الظهر فصلّوا بها ثم استعدّوا للقتال وليس في عسكره يومئذ إلّا ثلاثة أسياف ونهض راجعا نحو المحمدية فوافاها، وتلاحق إليه أصحابه وكان جعل عليّ بن أبان في آخر أصحابه وأمره أن يتعرّف خبر من يأتيه من ورائه. فأتاه وقال له:
« كنّا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حسّا لقوم يتبعوننا فلسنا ندري أرجعوا عنّا أم هم قاصدون إلينا. » فلم يستتمّ كلامه حتى لحق القوم وتنادى الزنج:
« السلاح. » فيبدر مفرّج النوبى وريحان وفتح الحجّام - وكان فتح يأكل - فلمّا نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدّم أصحابه فلقيه رجل فحمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، وذهب ليكبّ عليه فرمى الرجل بسلاحه وولّى وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف، رجل فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأتى منهم بأسرى فأمر بضرب أعناقهم وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيّين كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسيّة وقت المغرب. فخرج رجل من موالي الهاشميّين فقتل رجلا من السودان وأتاه الخبر فقال له أصحابه:
« ايذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا. » فقال: « لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل كان ذلك عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلّا ساغ لنا قتالهم. » وأعجلهم المسير حتى مضى إلى نهر ميمون إلى المسجد الذي كان فيه، في بدأته، وأمر بالرؤوس التي حملت معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبى، فأذّن وسلّم عليه بالإمرة فقام وصلّى بأصحابه العشاء الآخرة وبات بها.
ثم مضى إلى الكرخ فطواها. ثم عبر دجيلا بجبّى في مخاضة دلّ عليها ولم يدخل القرية وأقام خارجا منها وأرسل إلى من فيها فأتاه رؤساؤهم ورؤساء الكرخ فأمرهم بإقامة الأتراك له ولأصحابه فأقيم لهم ما أراد وبات ليلته.
فلمّا أصبح أهدى له رجل من أهل جبّى فرسا كميتا فلم يجد له سرجا ولا لجاما. فركبه بحبل وشنقه بليف وسار حتى انتهى إلى العباس فأخذ منه دليلا إلى السيب وهرب أهل القرية فدخلها ونزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق وتفرّق أصحابه في القرية، فأتوه برجل فسأله عن وكلاء الهاشميّين فأخبره أنّهم في الأجمة فوجّه وأحضر رئيسهم فسألهم وإيّاه عن المال فقال:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)