« بسم الله الرحمن الرحيم، أرشدنا الله وإيّاكم وكان لنا ولكم وليّا وحافظا. فهمت كتابكم وسرّنى ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم وتولّى حياطتكم. فأمّا ما ذكرتم من خلّتكم وحاجتكم فعزيز عليّ ذلك فيكم، ووددت لو أنّ صلاحكم قد تهيّأ بألّا أطعم ولا أطعم ولدي وأهلى إلّا القوت الذي لا شبع دونه ولا ألبس أحدا من ولدي إلّا ما ستر العورة ولا والله حاطكم الله، ما صار إليّ منذ تقلّدت أمركم، لنفسي وأهلى وولدي ومتقدّمى غلماني وحشمى إلّا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد وكلّ ذلك مصروف إليكم غير مذخور عنكم.
« وأمّا ما ذكرتم ممّا بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهل ذلك، وأين تبعدون ممّا ذكرتم، وإنّما نحن نفس واحدة فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأماناتكم خيرا، وليس الأمر كما بلغكم فعلى هذا فليكن عملكم.
« وأمّا ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبّتكم إن شاء الله، والسلام عليكم. » فلمّا قرأوا الكتاب كثر الكلام وقالوا أشياء. فقال لهم أبو القاسم:
« اكتبوا بذلك كتابا ثانيا. » فكتبوا وقالوا:
« إنّ الذي تسألون أن تردّ الأمور إلى أمير المؤمنين، وألّا يعترض عليه معترض وأن تردّ رسومهم إلى ما كانت عليه وهو أن يكون على كلّ سبعة منهم عريف وعلى كلّ خمسين خليفة وعلى كلّ مائة قائدا وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون وألّا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها وأن يوضع لهم العطاء في كلّ شهرين على ما لم يزل وأن تبطل الإقطاعات وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من يشاء ويرفع من يشاء. » وذكروا أنّهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين، فمن خالف أمير المؤمنين في شيء أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا موسى بن بغا وياجور وغيرهما، ودعوا الله لأمير المؤمنين.
ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فأوصله وتحرّك الموالي واضطرب القوّاد جدّا وقعد المهتدي للمظالم فسبق أبو القاسم فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة وخلا بموسى ثم وقّع في كلّ باب بما أحبّوا. فقال أبو القاسم لموسى ومحمد ابني بغا وبايكباك: « وجّهوا معي إليهم رسولا تعتذرون إليهم ممّا بلغهم عنكم. » فوجّه كلّ واحد منهم رجلا وصار أبو القاسم [ إليهم ] وهم في زهاء أربعة آلاف رجل وثلاثة آلاف راجل فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام ودفع إليهم الكتاب فقرءوه وكتبوا كتابا آخر يلتمسون أن ينفذ إليهم خمس توقيعات:
توقيع بحطّ الزيادات وتوقيع بردّ الإقطاعات وتوقيع بإخراج الموالي البرّانيين من الخاصّة وتوقيع بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه وتوقيع بردّ التلاجيّ ثم يصيّر أمير المؤمنين الجيش إلى أحد أخوته أو غيرهم ممّن يرى ليسفر بينه وبينهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يؤمر أن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا على ما عندهما من الأموال ويعجّل لهم عطاء شهرين ويدرّ ذلك عليهم في كلّ شهر.
وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا ومحمد بن بغا وبايكباك ومفلح وياجور وغيرهم من القوّاد يقولون إنّهم قد كتبوا بما كتبوا وإنّ أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إن لم يعترضوا عليه وإنّهم إن فعلوا ذلك وخالفوه لم يصبروا عليهم وإنّ أمير المؤمنين إن شاكته شوكة وأخذ من رأسه شعرة أخذوا رؤوسهم جميعا وإنّه ليس يقنعهم إلّا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى فينظر أين مواضع الأموال، فإنّ صالحا وعدهم أن يعطيهم رزق ستّة أشهر.
ثم دفعوا الكتاب إلى رسول موسى ووجّهوا مع أبي القاسم عدّة منهم ليوصل كتاب أمير المؤمنين وليسمعوا كلامه. فانصرفوا إلى المهتدي فأمر بإنشاء التوقيعات الخمس وأنفذها في درج كتاب بخطّه إليهم.
وكتب القوّاد أيضا جواب كتابهم وأنفذوه إليهم بإجابتهم إلى ما سألوه.
وكتب أمان لصالح بن وصيف فيه: إنّ موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين ذلك وأكدّ ذلك غاية التأكيد وحمل إليهم.
وقال لهم أبو القاسم:
« علام اجتماعكم وقد أجبتم إلى كلّ ما سألتم؟ » فانصرف القوم وتفرّق القوّاد.
فلمّا كان يوم السبت ركب ولد وصيف وأصحابهم وتنادى الناس:
السلاح، واجتمعوا وعسكروا وركب أبو القاسم يريد دار المهتدي فمرّ بهم فتعلّقوا به وقالوا:
« قل لأمير المؤمنين إنّا نريد صالحا. » فمضى فأدّى ذلك فقال موسى:
« أراهم يطلبون صالحا مني كأنّى أخفيته أو هو عندي إن كان عندهم له خبر فينبغي أن يظهروه. » وصحّ عندهم أنّ القوم قد تواطئوا وأنّ الناس يتحلّبون إليهم، فتهايجوا من دار أمير المؤمنين فركبوا في السلاح واتصل [ الخبر ] بالأتراك فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوى فارس على راجل ولا كبير على صغير حتى لحقوا بمنازلهم وزحف [ موسى وأصحابه جميعا ] فلم يبق بسرّ من رأى قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلّا ركب معه وكان تقدير الجيش الذين ركبوا مع موسى في هذا اليوم أربعة آلاف فارس في السلاح والقسيّ الموتّرة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات يريدون محاربة من يريد صالحا وكان أكثرهم هواة مع صالح. فمضوا إلى الجوسق ونادوا بأنّ من لم يظهر من قوّاد صالح وأهله وأصحابه ويحضر دار أمير المؤمنين أسقط اسمه وخرّب منزله وفعل به وصنع.
ثم جدّ هؤلاء في طلب صالح فهجم بسببه على جماعة ممّن كان متصلا به قبل ذلك، إلى أن عثر به غلام من موالي وصيف. فحكى الغلام قال:
دخلت دارا في زقاق أطلب ماء لأشربه، فسمعت قائلا يقول بالفارسية:
« أيّها الأمير تنحّ فقد جاء غلام يطلب ماء. » فلمّا سمعت ذلك جمعت ثلاثة أنفس وهجمت عليه فإذا صالح بيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته. فلمّا رآني بادر فدخل بيتا فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح فتلوّمت ثم نظرت إلى البيت فإذا هو قد لجأ إلى زاوية فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا، فقلت له:
« ليس إلى تركك سبيل ولكني أمّرتك على أبواب إخوتك وقوّادك وصنائعك فإن اعترض عليّ منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. » قال: فأخرجته فما لقيت أحدا إلّا من أعان على مكروهه. وحمل إلى دار موسى فأتاه القوّاد ليذهبوا به إلى الجوسق وهو على بغل باكاف. فلمّا صاروا به إلى حدّ المنارة ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذّه ثم احتزّوا رأسه فوافوا به المهتدي وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما وقد قام لصلاة المغرب فلم يره فلمّا قضى صلاته وجاءوه برأسه لم يزدهم على أن قال:
« واروه. » وأخذ في تسبيحه.
فلمّا كان من الغد طيف به على قناة ونودى عليه: