فلعلّ الله أن يكشفه عنّا. » فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في شذاءات ومعهم جماعة، ففعلوا ذلك وألبسوا الجماعة الجواشن والخوذ والسلاح وصاروا إلى دار المخرّم. فلمّا قربوا منها ورآهم من كان فيها على شاطئ دجلة قالوا:
« شذاءات مصعدة من دار السلطان. » ووقع الرعب في قلوبهم فتطايروا على وجوههم قبل أن تجرى بينهم حرب وقبل وصول الشذاآت إلى الدار. وخرج عبد الله بن المعتزّ ومعه وزيره محمّد بن داود وحاجبه يمن وقد شهر يمن سيفه وهو ينادى:
« معشر العامّة ادعوا الله لخليفتكم. » وأخذوا طريق الصحراء تقديرا منهم أن يتبعهم الجيش ويصيروا إلى سرّ من رأى فيثبت أمرهم فلم يتبعهم أحد، فلمّا رأى محمّد بن داود نزل عن دابّته لمّا حاذى داره ودخلها واستتر ونزل عبد الله بن المعتزّ في موضع آخر ومشى إلى دجلة وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص ودخلها واستجار به، ففرّ الناس على وجوههم ووقعت الفتنة والنهب والغارة والقتل ببغداد.
وكان محمّد بن عمرويه صاحب الشرطة فركب وقاتله العامّة لأنّه كان من أكبر أعوان عبد الله بن المعتزّ فهزموه، وقلّد المقتدر مكانه من يومه مونسا الخازن.
وكان خرج في الوقت الذي خرج فيه ابن المعتزّ من داره أبو الحسن عليّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون مع من خرج من دار عبد الله بن المعتزّ، واستتروا في منزل رجل يبيع البقل، ونذر بهما العامّة، فكبسوهما وأخرجوهما وسلّموهما إلى بعض خدم المقتدر المجتازين في الطرق، فأركبهما جميعا على بغل أكاف كان معه، ولحقهما في الطريق من العامّة أذى شديد حتى حصلا في الدار ووكّل بهما.
وقبض في ذلك اليوم على وصيف بن صوراتكين وخرطامش ويمن وفاتك وجماعة ممّن كان حاضرا دار ابن المعتزّ وفيهم القاضي أبو عمر محمّد بن يوسف والقاضي أبو المثنّى أحمد بن يعقوب والقاضي محمّد بن خلف بن وكيع واعتقل الكلّ في دار الخلافة وسلّموا إلى مونس الخازن. ثم أمر بقتلهم أجمعين. فقتلهم تلك الليلة سوى عليّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون والقاضي أبو عمر والقاضي محمّد بن خلف فإنّ هؤلاء سلموا.
وزارة أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات
وأنفذ المقتدر مونسا الخازن إلى دار أبي الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات التي كان ينزلها بسوق العطش بعد أن أعطاه خاتمه وأعلمه أنّه يريد أن يستوزره. وكان ابن الفرات مستترا بالقرب من داره. فلم يظهر له فأعيد إليه مرّة أخرى، فرفق بالجيران وأعلمهم أنّه يستوزر فظهر له وقت العصر من ذلك اليوم وصار به إلى دار السلطان ووصل إلى المقتدر وقلّده وزارته ودواوينه وعاد إلى داره بسوق العطش. وبكّر يوم الاثنين وهو غد ذلك اليوم، فخلع عليه خلع الوزارة وسار بين يديه القوّاد بأسرهم، وخلع في ذلك اليوم على مونس الخازن بسبب تقلّده الشرطة، وأطلق ابن الفرات للجند مالا لصلة ثانية وجدّد البيعة للمقتدر.
ذكر الخبر عن الظفر بعبد الله بن المعتز
صار خادم لأبي عبد الله بن الجصّاص يعرف بسوسن إلى صافى الحرمي يسعى بأنّ عبد الله بن المعتزّ مستتر في دار مولاه فأنفذ المقتدر بالله صافيا الحرمي في جماعة حتى كبس منزل ابن الجصّاص واستخرج منه عبد الله بن المعتزّ، فحمله وحمل معه أبا عبد الله بن الجصّاص إلى دار السلطان. ثم صودر ابن الجصّاص على مال بذله وأطلقه إلى منزله بعد أن تكفّل به الوزير أبو الحسن ابن الفرات.
وسلّم عليّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون إلى أبي الحسن ابن الفرات وناظرهما بمراسلة وصادرهما، وخفّف عن عليّ بن عيسى ونقلها على محمّد بن عبدون لعداوة كانت بينهما وقال للمقتدر:
« لم يكن لهذين في أمر ابن المعتزّ صنع وتكفّل بهما وبالقاضي محمّد بن خلف بن وكيع وخلّصهم. » ثم نفى محمّد بن عبدون إلى الأهواز وأمر بتسليمه إلى محمّد بن جعفر العبرتاى ونفى عليّ بن عيسى إلى واسط بعد أن افتداه من ماله بخمسة آلاف دينار دفعها إلى سوسن الحاجب واستكفّه بها عنه فإنّه كان يغرى به ويقول: كان مطابقا لعمّه.
موت عبد الله بن المعتز وثبات أمر المقتدر
وظهر موت عبد الله بن المعتزّ في دار السلطان ودفع إلى أهله ملفوفا في زليّ برذون وتمّ ما كان في سابق علم الله عز وجل وحكم به من ثبات أمر المقتدر وبطل اجتهاد المخلوقين وحيلهم في إزالته.
قتل محمد بن داود
فأمّا محمّد بن داود فحكى أبو عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة قال: كنّا بحضرة الوزير أبي الحسن في يوم هو فيه متخلّ، ودخل إليه بعض غلمانه فسارّه فظهر منه غمّ شديد وإذا هو قد أبلغ قتل محمّد بن داود وقال:
« كان مع عداوته لي رجلا عاقلا كثير المحاسن يجمع إلى صناعته كتابة الخراج والجيش والبلاغة والفقه والأدب والشعر، وكان كريما سخيّا وقد جرى عليه من القتل أمر عظيم. »
ثم لعن عليّ بن الحسين القنّاي النصراني وقال:
« هو غرّ هذا الرجل، فإنّ ما كان بينه وبينه من المودّة مشهور، فخلّص نفسه وقتل صديقه. »
ذكر ما عمله القناى في أمر محمد بن داود
كان سوسن عدوّا لمحمّد بن داود وكذلك صافى الحرمي. فأغريا المقتدر بالله وقالا له: « إنّ عليّ بن الحسين القنّاى يعرف موضعه. » فقبض عليه وهدّد بالقتل فحلف أنّه لا يعرف الموضع الذي استتر فيه محمّد بن داود وإنّما تأتيه رقاعه يد امرأة تجيء إلى امرأة نصرانية تجيئه بها، وضمن أنّه يحتال في إثارته فأطلق.
وكاتب محمّد بن داود وأعلمه أنّه قد سفر له مع سوسن في أمر يكون به خلاصه، وأنّ ما جرى في ذلك لا تحتمله المكاتبة، وأنّ الوجه أن يأذن له في المصير إليه في الموضع الذي هو فيه مستتر. فإن لم يأذن في ذلك صاحب داره خرج متنكّرا وصار إليه.
فكتب إليه محمّد بن داود أنّه يصير إليه في ليلة ذكرها. فمضى عليّ بن الحسين برقعته إلى سوسن وصاف، فأقرأهما إيّاها، فترصّدا تلك الليلة وأمرا صاحب الشرطة أن يتقدّم إلى أصحاب الأرباع وأصحاب المسالح بترصّده.
فلمّا خرج تلك الليلة ظفر به وسلّم إلى مونس الخازن، فقتله ثم طرحه على الطريق، حتى أخذه أهله فدفنوه.
وحكى أبو عليّ ابن مقلة وأبو عبد الله زنجي الكاتب: أنّ محمّد بن داود كتب إلى ابن الفرات رقعة وصلت إليه، فلم يقدر أن يكتب الجواب بخطّه وقال لموصلها وكان ثقة عنده:
« تقرأوتقول له: ليس جرمك يسيرا والعهد به قريب والاستتار صناعة، فينبغي أن تصبر على استتارك أربعة أشهر حتى تنسى قصّتك، ثم دعني والتدبير في أمرك، فإني بإذن الله أسفر بعد هذه المدّة في صلاحك وآخذ لك أمان الخليفة بخطّه وأقول: إنّه دخل فيما دخل فيه القوّاد وكتّابهم، وقد دعت الضرورة إلى الصفح عنهم، ولهذا بهم أسوة، وأشير عليه بما يصلح أمرك. » فلم يصبر محمّد بن داود فجرى ما حكيته.
وحكى أيضا ابن زنجي: أنّه كان بحضرة أبي الحسن ابن الفرات إذ كتب إليه صاحب الخبر، بأنّ متنصّحا حضر وذكر أنّ عنده نصيحة لا يذكرها إلّا للوزير، فتقدّم الوزير إلى حاجبه أن يخرج إليه ويسأله عنها. فخرج وسأله فأبى أن يخبره بها وقال:
« أريد أن أشافه بها الوزير. » قال: وكنّا بين يديه جماعة فأومأ إلينا، فقمنا وخلا به. ثم دعا بحاجبه العبّاس الفرغاني وقال له:
« اجمع الرجال الذين برسم الدار. » ثم دعا أبا بشر ابن فرحويه وقال له سرّا:
« إنّ هذا الرجل تنصّح إليّ في أمر محمّد بن داود، وذكر أنّه يعرف موضعه وأنّه بات البارحة عنده والتمس أن أنفذ معه من يسلّمه إليه، وقد بذلت على ذلك ألف دينار إن كان صحيحا، أو نيله بالعقوبة إن كان باطلا.
فصر على ذلك فاكتب إليه الساعة أن ينتقل عن موضعه، فإني أبعث إلى مكانه من يكبسه ويلتمسه. » ولم يزل يستعجل الحاجب في جمع الرجال فيقول:
« قد فرّقت النقباء في طلبهم فإنّهم في أطراف البلد منهم من ينزل في قصر عيسى ومنهم من ينزل بباب الشمّاسية. » ولم يزل يدافع بالأمر إلى أن عاد الجواب إلى أبي بشر بشكره، وأنّه قد انتقل من موضعه إلى غيره. فتقدّم حينئذ إلى المتنصّح أن يمضى إلى الموضع مع القوم، وتقدّم بالاحتياط عليه وعلى ما يليه. وكبسه بعد ذلك وحمله، فإن لم تجده فتّش الدور التي تلى الموضع، وأن يستظهر بحفظ أفواه الدروب حتى لا تفوته الحرم ويأخذ معه السلاليم.
فمضى العبّاس الحاجب والمتنصّح والرجال ووكّل بأفواه الدروب والدور المجاورة للموضع، ودخل الدار التي ذكرها المتنصّح فلم يجده. فقال المتنصّح:
« في هذا الموضع والله العظيم خلّفته وهاهنا كان بائتا. » وأقبل يسير إلى موضع موضع وما عمله فيه. ثم التمسه في الدار المجاورة فلم يجده. وعاد به إلى حضرة الوزير فأنكر على المتنصّح سعايته بالباطل، وأمر بحمله إلى باب العامّة وضربه مائتي مقرعة وأن يشهر على جمل وينادى عليه:
« هذا جزاء من يسعى بالباطل. » وكتب إلى المقتدر وعرّفه الصورة، وأنّه كبس على محمّد بن داود عدّة دور فلم يجده، فأوقع العقوبة بالساعى حتى لا يقدم نظراؤه على السعاية بالباطل.
فلمّا عاد الساعي إلى داره، تقدّم بأن يحمل إليه مائتي دينار وأن يحدر إلى البصرة، وقال لنا:
« قد صدق الرجل فيما حكاه وقد عاقبناه ولو لم أفعل ما فعلته، لم آمن أن يمضى إلى دار السلطان. » وكان أبو بشر يعرف موضع محمّد بن داود بن الجرّاح وعرف الوزير موضعه فكتمه الوزير ولم يظهره. وهذا ممّا لا ينكر من أبي الحسن ابن الفرات مع كرمه وجلالة قدره ونبل أفعاله.
وفيها قبض على محمّد بن عبدون وسوسن الحاجب وقتلا
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أن سوسن الحاجب كان مع ابن المعتزّ في تدبيره، وظنّ أنّه يقرّره على الحجبة، فلمّا عدل عنه إلى يمن استوحش وصار إلى دار السلطان. وكان سوسن يدخل مع العبّاس بن الحسن في التدبير بحضرة المقتدر بالله. فلمّا تقلّد أبو الحسن ابن الفرات الوزارة تفرّد بالتدبير دون سوسن فظهرت الوحشة بين سوسن وبين أبي الحسن ابن الفرات لأجل ذلك. وذاع الخبر بصحة عزم سوسن على الفتك بابن الفرات بمواطأة عدّة من الغلمان الحجريّة على ذلك، ودبّر أن يكون الوزير محمّد بن عبدون، وأشار بذلك على المقتدر بالله، وبذل على ذلك مالا عظيما، وأنفذ بنيّ بن نفيس إلى الأهواز لإحضار محمّد بن عبدون بغير مواقفة ابن الفرات وأظهر بنيّ أنّه إنّما أنفذ لأخذ أموال كانت مودعة للعبّاس بن الحسن بالبصرة.
ولم يصل محمّد بن عبدون إلى واسط حتى ظهر الخبر لابن الفرات. فقرّر ابن الفرات في نفس المقتدر أنّ سوسنا عمل على الإيقاع به أوّلا ثم به، وأنّه كان من أكبر أعضاد عبد الله بن المعتزّ، وإنّما خالفه أخيرا لما علم أنّه قد استحجب غيره. وواقف المقتدر على القبض عليه فقبض عليه وقتله من يومه. وكان المتولّى لذلك تكين الخاصّة وكان تكين هذا مرشّحا للحجبة ومدبّرا لها.
ثم أنفذ الوزير إلى محمّد بن عبدون من أزعجه في الطريق واعتقله في دار السلطان وصادره مصادرة مجدّدة، ثم سلّم إلى مونس الخازن فقتله.
وقلق أبو الحسن عليّ بن عيسى لذلك وهو بواسط، فكتب إلى الوزير كتابا يحلف فيه أنّه على قديم عداوته لمحمّد بن عبدون، إلّا أنّه لا يدع الصدق من فعله، وأنّ محمّد بن عبدون لم يكن ليسعى على دم نفسه بتضمّنه الوزارة، بل كان راضيا بالسلامة بعد فتنة عبد الله بن المعتزّ، وأنّ سوسنا عمل ذلك بغير رأيه ولا مواقفته، وسأل في أمر نفسه أن يبعده إلى مكّة ليسلم من الظنّة ولينسى السلطان ذكره.
فأجابه ابن الفرات إلى ذلك وأخرجه من واسط إلى مكّة على حال جميلة. فشخص إليها على طريق البصرة.
وكتب عليّ بن عيسى هذا الكتاب مقدّرا أن يتخلّص به محمّد بن عبدون من القتل، ويسلم هو. فوقاه الله في نفسه بجميل نيّته، وحضر أجل محمّد بن عبدون، فلم ينفعه اجتهاد عليّ بن عيسى في خلاصه.
استقرار أمر المقتدر وتفويضه الأمور إلى أبي الحسن بن الفرات
ولمّا استقرّ أمر المقتدر بالله في الخلافة فوّض الأمور إلى أبي الحسن ابن الفرات فدبّرها أبو الحسن كما يدبّرها الخلفاء. وتفرّد المقتدر على لذاته متوفّرا واحتشم الرجال واطّرح الجلساء والمغنين وعاشر النساء فغلب على الدولة الحرم والخدم فما زال أبو الحسن ينفق الأموال من بيت مال الخاصّة ويبذّر تبذيرا مفرطا إلى أن أتلفها.
ومن محاسن ابن الفرات أنّه افتتح أمره بإخراج أمر المقتدر بمكاتبة العمّال في جميع النواحي بإفاضة العدل في الرعيّة وإزالة الرسوم الجائرة عنهم وإخراج أمره لجماعة بنى هاشم بجار ثم أخرج أمره بزيادة جميعهم ثم أخرج أمره بالصفح عن جميع من كان خرج عن طاعته ووالى ابن المعتزّ وإلحاقهم في الصلة بمن لم تكن له جناية وتلطّف في أمر الحسين بن حمدان وإبراهيم بن كيغلغ حتى رضى المقتدر عنهما وقلّدهما الأعمال وفعل ذلك بابن عمرويه.
ذكر التدبير الصواب في ذلك
إنّه عرّف المقتدر بالله أنّه متى عاقب جميع من دخل في أمر ابن المعتزّ فسدت النيّات وكثر الخوارج ومن يخشى على نفسه فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة، وأشار بإحراق جميع الجرائد التي وجد فيها أسماء المتابعين لابن المعتزّ فاستجاب إلى ذلك، وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد في دجلة ففعل ذلك وسكن الناس وكثر الشاكرون.
ذكر ما جرى في أمر القاضي أبي عمر
كان القاضي يوسف بن يعقوب شيخا كبير السن يلزم ابن الفرات ويبكى بحضرته ويسأله تخليص ابنه أبي عمر من القتل. فيذكر له أبو الحسن أنّه لا يتمكّن من ذلك إلّا بإطماع المقتدر بالله في مال جليل من جهته. فبذل أبوه أن يفقر نفسه وابنه طلبا للحياة. فسأل ابن الفرات المقتدر بالله الصفح عنه وأطمعه في ماله ومال ولده. فسلّمه المقتدر إليه فصادره على مائة ألف دينار، واعتقله في ديوان بيت المال ليؤدّى المال، فأدّى أكثره ودخل فيما أدّاه وديعة. قيل إنّها كانت عنده للعبّاس بن الحسن، مبلغها خمسة وأربعون ألف دينار فلمّا أدّى تسعين ألف دينار أمر ابن الفرات بإطلاقه إلى منزله وترك له العشرة الآلاف الدينار وأمره بملازمة منزله وأن لا يخرج منه.
ذكر خيانة واتفاق سيىء اتفق فيه
كان سليمان بن الحسن بن مخلد متحقّقا بأبي الحسن ابن الفرات ومدلّا بأحوال كانت بين أبيه وبين والد الوزير أبي جعفر محمّد بن موسى بن الفرات. وكان سليمان يختصّ لذلك بأبي الحسن ابن الفرات. ووجد أبو الحسن كتبا في البيعة لعبد الله بن المعتزّ بخطّ سليمان لتحقّقه كان بمحمّد بن داود بن الجرّاح وللقرابة بينهما فلم يظهر أبو الحسن ذلك للمقتدر ولا ذكره.
ونوّه باسم سليمان وقلّده مجلس العامّة رئاسة.
ثم إن سليمان جنى على نفسه بالسعي لأبي الحسن أحمد بن محمّد بن عبد الحميد في الوزارة، وعمل في ذلك نسخة بخطّه عن نفسه إلى المقتدر بالله يسعى فيها بأبي الحسن وبأمواله وضياعه وكتّابه وأسبابه وكانت الرقعة في كمّه ودخل دار ابن الفرات وهي معه وقام ليصلّى صلاة المغرب مع جماعة من الكتّاب في دار ابن الفرات، فسقطت الرقعة من كمّه وظفر بها الصقر بن محمّد الكاتب لأنّه كان يصلّى إلى جنبه. فأقبل بها مبادرا إلى الوزير من وقته، فقبض عليه وأحدره في زورق مطبق إلى واسط، ووكّل به وصودر وجرى على طبعه وشاكلته، فأحسن إليه وقلّده.
وفيها كوتب أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان في قصد أخيه الحسين ومحاربته وأمدّ بالقاسم بن سيما في أربعة آلاف، فاجتمعا ولقيا الحسين فانهزما وانحدر إبراهيم بن حمدان لإصلاح أمر أخيه الحسين، فأجيب إلى ما التمس. وكتب للحسين أمان وصار إلى الحضرة ونزل في الصحراء من الجانب الغربي ولم يدخل دار السلطان، وقلّد أعمال الحرب بقم وحملت إليه الخلع، فلبسها ونفذ إلى قم وانصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها قدم بارس غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان في أربعة آلاف غلام أتراك وغيرهم وصار إلى بغداد مستأمنا وكان مولاه اتبعه إلى الريّ مظهرا الاستيحاش من قبول السلطان غلامه. فكاتبه ابن الفرات بما سكّن منه حتى عاد إلى خراسان وقلّد بارس دار ربيعة فأنفذه إليها وقلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان وعقد له عليها وضمّنه إيّاها بمائة ألف وعشرين ألف دينار في كلّ سنة محمولة إلى بيت مال العامّة بالحضرة، فسار من الدينور إليها.
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمّد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين في قبّة على بغل وقد كشف جلالها وهما بين يدي أبي الفضل عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي كاتب سبكرى المتقلّد فارس ووصل إلى حضرة المقتدر ووصلا معه بعد أن حلّت قيودهما وخلع على عبد الرحمن بن جعفر ورتّب في الفوج الأوّل وركب عبد الرحمن في الخلع وأنزل في دار في مربعة الخرسى وحبس طاهر ويعقوب في دار السلطان.
وكان سبكرى متغلّبا على فارس. فلمّا قدم عبد الرحمن كاتبه قرّر أمر سبكرى مع السلطان على شيء يحمله عن فارس، ثم عاد إلى صاحبه.
فورد الخبر بعد ذلك بأنّ الليث بن عليّ خرج من سجستان وقصد فارس، فدخلها وخرج سبكرى، فندب مونس الخادم للشخوص إلى فارس وخلع عليه، وسار فوجد سبكرى برامهرمز واجتمع مع مونس وسار بمسيره وسار الليث إلى أرجان ليلقى مونسا.
ذكر عجلة واتفاق سيء
ثم إنّه بلغ ليثا أنّ الحسين بن حمدان قد سار من قم إلى البيضاء فخاف أن تؤخذ منه شيراز. فوجّه أخاه مع قطعة من جيشه إلى شيراز ليحفظها وأخذ هو دليلا يدلّه على طريق مختصر قريب إلى البيضاء ليوقع بالحسين بن حمدان. فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة وهو طريق صعب ضيق لا يحمل الجيوش، فلقى في طريقه مشقّة عظيمة حتى تلفت دوابّه وتلف رجاله فقتل الدليل وعدل عن الطريق فخرج إلى خوابذان وقد وصل إليها مونس. فلمّا أشرف الليث على عسكر مونس قدّر أنّه عسكر أخيه الذي أنفذه إلى شيراز.
فكبّر أصحابه فخرج إليه مونس فأوقع به وأخذه أسيرا. فلمّا حصل في يده أشار عليه قوّاده بالقبض على سبكرى. فلم يفعل وألحّ عليه أصحابه فأظهر القبول منهم وقال:
« إذا صار إلينا في غد قبضنا عليه. » وكان سبكرى كلّ يوم يركب من مضربه إلى مونس. فيسلّم عليه.
فوجّه إليه مونس سرّا وعرّفه ما أشار عليه قوّاده وأشار عليه بالمسير إلى شيراز والإسراع. ففعل سبكرى بما أشار به. فلمّا أصبح وتعالى النهار قال:
« يا قوم ما جاءنا سبكرى اليوم فوجّهوا إليه وتعرّفوا خبره. » وعاد الرسول وعرّفه أن سبكرى قد سار إلى شيراز من أوّل الليل. فعاد باللوم على قوّاده وقال لهم:
« من جهتكم شاع الخبر وبلغه فاستوحش. » وسار مونس ومعه الليث راجعا إلى مدينة السلام، وانصرف الحسين إلى قم.
ذكر تدبير فاسد وما آل إليه
لمّا حصل سبكرى بشيراز كان معه قائد يقال له القتّال، فضرّبه على كاتبه عبد الرحمن بن جعفر وأعلمه أنه في جنبة السلطان وأنّه قد أحلف قوّاده كلّهم للسلطان وأخذ له البيعة عليهم، وليس يتعذّر عليه متى شاء أن يورد كتابا من السلطان بالقبض عليه. ففزع سبكرى من هذه الحال وقبض على عبد الرحمن بن جعفر واستكتب مكانه رجلا يعرف بإسماعيل بن إبراهيم البمّى، فحمله إسماعيل هذا على الخلاف وقال له:
« قد انصرف عنك عسكر السلطان وليس يمكنه أن يعود إليك سريعا، فاربح ما كنت تحمله إلى السلطان وأصلح أمورك وأرض جندك، ثم تنظر. » واحتال عبد الرحمن بن جعفر من محبسه حتى كتب إلى ابن الفرات بخبره وما جرى عليه وبخلاف سبكرى على السلطان، فكتب ابن الفرات إلى مونس وقد صار إلى واسط كتابا يقول فيه:
« إن كنت فتحت فقد أغلقت، وإن كنت قد أسرت فقد أطلقت، ولا بدّ من أن تعود فتحارب سبكرى. » فعاد مونس إلى الأهواز وأخذ سبكرى في ملاطفة مونس ومهاداته ومسألته أن يبذل للسلطان عن أعمال فارس وكرمان زيادة على ما كان مقاطعا عليه القاسم بن عبيد الله في أيّام المكتفي بالله، فإنّه كان مقاطعا على أربعة آلاف ألف. ففعل مونس ذلك وبذل عنه سبعة آلاف ألف، فلم يرض بذلك ابن الفرات. فلم يزل يزيد ألف ألف حتى بلغ تسعة آلاف ألف خالصة للحمل، وذكر أنّ باقى الارتفاع يحتاج إليه سبكرى لإعطاء الجند بفارس وكرمان وأعلمه كثرة المؤن هناك. فأقام ابن الفرات على أنّه لا يقنع إلّا بثلاثة عشر ألف ألف فأشار مونس على سبكرى بأن يقارب السلطان والوزير، فأبى سبكرى أن يزيد على عشرة آلاف ألف شيئا. فاغتاظ الوزير من تماتن سبكرى، واتّهم مونسا بالميل إليه.
ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
ذكر ما جرى على سبكرى من الأسر
ثم إنّه عدل إلى إنفاذ وصيف كامه مع عدّة قوّاد من مدينة السلام، وإنفاذ محمّد بن جعفر العبرتاى معهم وعوّل عليه في فتح فارس.
وكتب إلى مونس: أنّه لا يثق بأحد سواه في حفظ الليث، وأنّ سبيله أن يوافى به إلى مدينة السلام ويدع أكثر قوّاده وأصحابه مع محمّد بن جعفر بالقرب من نواحي فارس، لئلّا ينجذبوا بأسرهم إلى بغداد قبل أن يتقرّر الأمر مع سبكرى في مال المفارقة، فيطمع سبكرى في السلطان.
فخرج مونس عن الأهواز وكتب الوزير حينئذ إلى محمّد بن جعفر العبرتاى والقوّاد بالمبادرة إلى شيراز مع جماعة من بالأهواز من القوّاد، وانضمّ إليه وصيف كامه، ثم أمدّه بسيما الخزري وفاتك المعتضدي ويمن الطولونى.
فلمّا تكامل الجيش لمحمّد بن جعفر سار إلى سبكرى وواقعه على باب شيراز فانهزم سبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه إلى هناك فهزمه أيضا، ودخل مفازة خراسان وأسر القتّال.
وورد الكتاب بالفتح، فخلع السلطان على الوزير عند ذلك، وقلّد محمّد بن جعفر العبرتاى فتيحا خادم الأفشين أعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان وكان يميل إلى فتيح لحسن وجهه.
وفيها ورد كتاب أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان بفتحه سجستان وأسره محمّد بن عليّ بن الليث.
ثم ورد كتابه بأسره سبكرى، فكتب إلى أحمد بن إسماعيل بحمل سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث إلى الحضرة.
فلمّا كان في شوّال من هذه السنة أدخل سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث مشهّرين على فيلين. فخلع على الوزير ابن الفرات، ثم على المرزباني خليفة صاحب خراسان، وحمل مع الرسل الذين حملوا سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث هدايا وخلع وطيب وجواهر إلى صاحب خراسان.
وفيها ورد الخبر بوفاة العبرتاى ثم بوفاة فتيح، وقلّد عبد الله ابن إبراهيم المسمعي أعمال المعاون بفارس.
وفيها غرقت فاطمة القهرمانة في طيّارها تحت الجسر في يوم ريح عاصف وكانت زوّجت ابنتيها من بنيّ بن نفيس وقيصر، فحضرا جنازتها وحضرها خلق من القوّاد والقضاة، وجعلت السيّدة مكانها أمّ موسى الهاشميّة قهرمانة، فكانت تؤدّى رسائلها ورسائل المقتدر إلى ابن الفرات.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
القبض على الوزير ابن الفرات
وفيها قبض على الوزير ابن الفرات، ووكّل بداره، وهتك حرمه أقبح هتك، ونهبت داره ودور كتّابه وأسبابه. وافتتنت بغداد ونهب الناس.
وكان مونس الخازن يلي شرطة بغداد وتحت يده برسمها تسعة آلاف فارس وراجل. فكان يركب إذا اشتدّت الفتنة وزاد النهب فيسكن الناس ويكفّ النهب هيبة له. فإذا نزل من ركوبه عادت الحال إلى ما كانت عليه.
فلقى الناس من ذلك شدّة شديدة ثلاثة أيّام بلياليها ثم سكنت الفتنة.
فكانت مدّة وزارة أبي الحسن ابن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما.
وزارة أبي على محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان
وقلّد أبو عليّ محمّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة، وذلك في ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
فقلّد أصحاب الدواوين ورتّبهم في مجالسهم وردّ مناظرة أبي الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه إلى أبي الحسن أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وقلّده ديوان المصادرين وديوان الضياع العبّاسيّة وديوان زمام الفراتيّة.
استتار أصحاب ابن الفرات
واستتر من أصحاب ابن الفرات أبو عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة وأبو الطيب الكلواذى وأبو القاسم هشام وأبو بشر ابن فرجويه وقبض على الباقين ونهبت دورهم وهدمت، واعتقل هؤلاء الباقون وناظرهم أحمد بن أبي البغل وعذّبهم وناظر ابن الفرات، غير أنّه لم يمكّن من إيقاع مكروه به ومكّن من جميع أسبابه وكتّابه.
ذكر ما دبره ابن أبي البغل وانعكاسه عليه
كان أبو الحسن بن أبي البغل مبعدا في أيّام ابن الفرات بإصبهان، فلمّا افتتنت بغداد وقلّد أخوه مناظرة ابن الفرات وأسبابه سفر أخوه لمّا تمكّن من ملاقاة أمّ موسى في الوزارة وبذل فيها مالا جليلا يثيره ويوفّره. فأطمع المقتدر في ذلك فأرجف له بها وكاتبه أخوه بالإسراع إلى الحضرة ونفذ إليه أبو بكر أخو أمّ موسى، فخاطبه قوم بالوزارة في طريقه، وتلقّاه القوّاد وغيرهم عند ورود بغداد.
فركب أبو عليّ الخاقاني في عشيّة من العشايا إلى دار السلطان والتمس الإذن في الوصول فأذن له وأوصل إلى المقتدر بالله فوصف له:
أنّ الأمور قد اضطربت، والأموال قد تأخّرت، والدنيا قد خربت بكثرة الأراجيف به. لأنّ ابن أبي البغل يذكر أنّه قد استحضر للوزارة.
فخاطبه المقتدر بجميل، وأذن له في إبعاد ابن أبي البغل وأخيه عن الحضرة. فقبض عليهما وأبعدهما وتنكّرت أمّ موسى القهرمانة للوزير أبي عليّ الخاقاني، فخافها وأشفق أن تفسد عليه أمره، فأرضاها بأن قلّد أبا الحسين منها أعمال الخراج والضياع بإصبهان، وقلّد أبا الحسن أخاه أعمال الصلح والمبارك.
الخاقاني يناظر ابن الفرات
وكتب الوزير بإطلاق أبي الهيثم العبّاس بن ثوابة وكان معتقلا بالموصل وكان ابن الفرات نقله إليها في نكبة محمّد بن عبدون لقرابة بينهما، وكان ابن ثوابة هذا يكتب لمحمّد بن ديوداذ وكان من الموصوفين بالشرّ، فورد بغداد في سنة ثلاثمائة وقلّده الوزير أبو عليّ الخاقاني ديوان المصادرين والضياع العبّاسيّة والفراتيّة، وردّ إليه مناظرة أبي الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه.
فأسرف ابن ثوابة في إيقاع المكروه بهم وعذّبهم بأنواع العذاب، فجرت بينه وبين أبي الحسن ابن الفرات مناظرات هاتر في بعضها ابن الفرات وشتمه بحضرة أمّ موسى، فردّ عليه ابن الفرات أقبح ردّ، وشتمه أغلظ شتيمة، ونسبه في نفسه إلى كلّ حال قبيحة، فراسل ابن ثوابة المقتدر بأنّ ابن الفرات لم يقدم على هذا إلّا لشدة بطره وكثرة أمواله واستأذن في معاقبته، فبسط يده عليه فقيّده وغلّه وألبسه جبّة صوف، وأقامه في الشمس مدّة أربع ساعات فكاد يتلف. فأنهى بدر الحرمي في حاله إلى المقتدر، فأنكرها وأمر بنقله إلى بعض الحجر التي في يد زيدان القهرمانة للحرم الخواصّ، وأحسن إليه ورفّهه. وذلك بعد أن حلف له ابن الفرات بأغلظ يمين بأنّه لم يبق له مال ولا ذخيرة ولا متاع فاخر إلّا وقد أقرّ به وقت مناظرة ابن أبي البغل، فقبل المقتدر بالله قوله ومنع ابن ثوابة من مناظرته.
ابن الفرات مشاورا
ثم صار المقتدر بعد ذلك يشاور ابن الفرات في الأمور ويقرأه رقاع الوزراء إليه ويجيبهم عنها برأيه ثم كثرت السعايات بأبي عليّ الخاقاني وتمكّن أبو القاسم ابن الحوارى.
ذكر فساد تدبير الخاقاني لأمر الوزارة
كان أبو عليّ الخاقاني متشاغلا بخدمة السلطان ومراعاة أعداءه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه أبي القاسم عبد الله، وقلّده مع العرض على الخليفة خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور. وكان ابنه هذا متشاغلا بالشراب، إنّما يراعى أمر القوّاد والجيوش والولايات للعمّال ويدع ما سوى ذلك، وكان قد نصب لقراءة الكتب الواردة أبا نصر مالك بن الوليد، ولقراءة الكتب النافذة أبا عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي.
وكانت لأبي عليّ الخاقاني وابنه الجوامع بما يرد وينفذ، فلا يقرأها أحد منهم إلّا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكتب، وتبقى الكتب بالحمول والسفاتج في خزانتهما، لا تفضّ ولا يعرف حال ما فيها. ففسدت الأمور بولاية أبي عليّ الخاقاني وضاعت.
وكان يقلّد في أسبوع واحد الكورة عدّة من العمّال، حتى قيل: إنّه قد قلّد أعمال ماه الكوفة في مدّة عشرين يوما سبعة من العمّال، واجتمعوا في خان بحلوان وقلّد أعمال قردى وبريدى خمسة من العمّال اجتمعوا في خان بعكبرا في يوم واحد وسبب ذلك ارتفاق أولاده وكتّابه من العمّال الذين يولّونهم. فسطّرت الأحاديث وحفظت له النوادر، وأطلق يده بالتوقيعات وفي الزيادات والنفل والإثبات يوقّع بذلك هو وابناه وبنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابنا سعيد.
وكان أبو عليّ الخاقاني يتقرّب إلى قلوب الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان ووجوه القوّاد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرّب إلى العامّة بأن يصلّى معهم في المساجد التي على الطرق، فكان إذا رأى جمعا من الملّاحين أو غيرهم من العامّة يصلّون في مسجد على الشط قدّم طيّاره وصعد وصلّى معهم. فاتّضعت الوزارة بأفعاله وذلّت.
وكان إذا سأله إنسان حاجة دقّ صدره وقال:
« نعم وكرامة. » فسمّى: دقّ صدره.
وضاقت الأموال فقصّر في إطلاق أموال أصحاب التفاريق والقوّاد القدماء ومن يجرى مجراهم، فشغبوا عليه وقصدوا المصلّى فأقاموا فيه وأخرجوا معهم أكثر القوّاد واستفحل أمرهم وبسطوا فيه ألسنتهم.
فأمره المقتدر بإطلاق أرزاقهم فاعتذر بقصور الأموال ونقصان الارتفاع، وذكر أنّ الأموال المستخرجة من ابن الفرات وأسبابه قد حصلت في بيت المال الخاصّة، وأنّه ليس ينفذ له صاحب بيت مال الخاصّة أمرا فيها، فأمر بإخراج خمسمائة ألف دينار من بيت مال الخاصّة لينفق في الجند المشغّبين.
وقلّد ديوان البريد بمدينة السلام والإشراف على الوزير وعلى الجيش وأصحاب الدواوين والقضاة وأصحاب الشرطة شفيع اللؤلؤيّ.
فلمّا رأى ابن ثوابة ضعف أمر الوزير تقرّب إلى المقتدر برقاع أوصلتها أمّ موسى يذكر فيها أنّه يستخرج من العمّال أموالا جليلة أهملها الخاقاني، وذكر أنّه يستخرج من محمّد بن عليّ الماذرائى وأخيه إبراهيم وحدهما سبعمائة ألف دينار. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقوية يد ابن ثوابة، ففعل ذلك واستخرج أموالا بالعسف، وتغلّب على الأمور، وكان يصرف عمّال الوزير ويولّى من يرى، وتوصّل الأشرار إلى كتب الرقاع على يد أمّ موسى إلى المقتدر يخطبون الأعمال ويتضمّنون الأموال. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقليدهم ذلك، فانتشر أمره وشاركه الأشرار في النظر واستخرجوا الأموال من كلّ وجه بكلّ عسف.
وكان حامد بن العبّاس قد تضمّن أعمال واسط ونواحيها أربع سنين فعمل الكتّاب له عملا وحصّلوا عليه في كلّ سنة مائتين وأربعين ألف دينار وألفين وأربعمائة كرّ بالمعدّل شعيرا للكراع في كلّ سنة يستوفى منه مع المال الذي ذكرنا مبلغه. وإنّما كان حامد ضمن على عبرة السنة المتقدّمة وزيادة يسيرة، وكان التقصير والإضاعة والتخليط يقع من الخاقاني.
وذلك أنّ الخاقاني كان يتقلّد في أيّام عبيد الله بن سليمان وما بعدها إلى وقت استتاره في أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال البريد والمظالم والخرائط بما سبذان. فلمّا ولى الوزارة تحيّر لقلّة الدربة ونقصان المعرفة بالأعمال، فشرع مونس في تقليد عليّ بن عيسى.
ودخلت سنة ثلاثمائة يرتأى المقتدر في إعادة ابن الفرات إلى الوزارة
ولمّا رأى المقتدر بالله اضطراب الأمور وفساد التدبير وانتقاض المملكة، شاور مونسا الخادم، وعرّفه أنّ الصورة تقود إلى ردّ أبي الحسن ابن الفرات وتقليده الوزارة.
وكان مونس مستوحشا من ابن الفرات لأمور حكينا بعضها في حكاية أمره مع سبكرى وتقريره أمر فارس ونقض ابن الفرات عليه.
فقال مونس للمقتدر بالله:
« إنّه يقبح أن يعلم أصحاب الأطراف أنّ السلطان صرف وزيرا ثم اضطرّ إليه وردّه بعد شهور من صرفه، ثم لا ينسبون ذلك إلّا إلى المطمع في ماله فقط. » وقال: إنّ كتّاب الدنيا الذين دبّروا المملكة دواوينها منذ أيّام المعتضد بالله، هما ابنا الفرات، وأبو العبّاس منهما قد مات، وتقلّد الآخر الوزارة إلى أن صرف عنها، ومحمّد بن يزداذ ومحمّد بن عبدون وقد قتلا في فتنة ابن المعتزّ، وعليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ولم يبق من يصلح لتدبير المملكة غيره.
ووصفه بالثقة والأمانة والديانة والنزاهة والصيانة والصناعة.
فأمره المقتدر بإنفاذ يلبق إليه ليحمله إلى الحضرة، وأظهر للخاقانى أنّه يحضره ليستخلفه لابنه عبد الله على الدواوين.
وكان الخاقاني يقول في مجلسه:
« إني قد كتبت بحمل عليّ بن عيسى إلى الحضرة لأستخلفه لعبد الله. » فلمّا كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم سنة إحدى وثلاثمائة ركب الخاقاني إلى دار السلطان، فقبض عليه وعلى ابنيه عبد الله وعبد الواحد وأبي الهيثم ابن ثوابة ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابني سعيد الحاجبين وبنان وسعيد بن عثمان النفّاط واعتقلوا في يد نذير الحرمي. وكان سعيد بن عثمان النفّاط أحد من سعى للخاقانى في الوزارة، فقضى حقّه بأن قلّده أعمالا كثيرة جليلة.
وفي هذه السنة صرف عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أعمال المعاون بفارس وتقلّدهما بدر الحمامي وكان بدر يتقلّد أعمال المعاون بإصبهان فنقل إلى أعمال فارس وكرمان وقلّد مكانه عليّ بن وهسوذان الديلمي.
ودخلت سنة إحدى وثلاثمائة
وزارة أبي الحسن علي بن عيسى الوزارة
وفيها تقلّد أبو الحسن عليّ بن عيسى الوزارة وقت قدومه من مكّة وخلع عليه، وركب من دار السلطان إلى داره، وركب معه مونس الخادم وغريب الخال وسائر القوّاد والغلمان، وسلّم إليه في يوم الخلع محمّد بن عبيد الله الخاقاني وابناه، وجميع من سمّيتهم فيما تقدّم، فصادرهم مصادرات قريبة الأمر، واستخرج منهم جميع ما صادرهم عليه.
ثم أطلق الخاقاني إلى منزله، ووكّل به فيه، وصان حرمه أتمّ صيانة، وأوقع بأبي الهيثم ابن ثوابة مكروها.
ثم صار ينظر في أمر الأعمال في دار الوزارة بالمخرّم يبكّر إليها في كلّ يوم، ويعمل فيها إلى آخر أوقات صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرف إلى داره.
وكتب إلى كلّ واحد من العمّال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إيّاه بالخلع، وردّ أمر الدواوين والمملكة إليه، ويقرّرهم على مواضعهم ويأمرهم بالجدّ والاجتهاد في العمارة، ويقول في آخر كتابه:
« وهذا عنفوان السنة وأوّل الافتتاح ووقت حموم الخراج، ولست أعلم ما يجب أن أطالبك به فاذكره وأخاطبك عليه، ولكني آمرك أن تحمل صدرا من المال يتوفّر مقداره، وتنفذ الرسائل بذلك مع الجواب عن كتابي هذا عند نظرك فيه وتكتب إليّ بشرح الحال في أمور نواحيك وتنفذ مواقفه نقف عليها وبها على موقع أثرك فيها ومخائل تدبيرك في توفيرها وتثميرها، وتتوقف عن إمضاء التسبيبات وما يجرى مجراها إلى أن ترد عليك كتبي وتوقيعاتى في استماراتك عمّا يكون عملك عليه، وتمكّن في نفسك أنّه لا رخصة عندي ولا هوادة في حقّ من حقوق أمير المؤمنين أغضى عنه، ولا درهم من ماله أسامح فيه ولا تقصير في شيء من أمور العمل أصبر لقريب أو بعيد عليه، ولا تكون بإظهار أثر جميل في ذلك أشدّ عناية منك بإنصاف الرعيّة والعدل عليها ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها، فإني أطالبك بذلك كما أطالبك بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها. وتابع كتبك بما يكون منك وقتا وقتا لأعرفه إن شاء الله. » وقلّد بعد ذلك الدواوين جماعة وعزل جماعة، وفعل مثل ذلك بالعمّال، ونظر إلى من تعوّد اقتطاع الأموال السلطانية، وإقامة مروّات نفسه منها، وقصر في العمارة، واعتمد غيره، فعزل أمثال هؤلاء.
ثم عمر الثغور والبيمارستانات وأدرّ الأرزاق لمن ينظر فيها وأزاح علل المرضى والقوّام، وعمر المساجد الجامعة، وكتب إلى جميع البلدان بذلك ووقّع إلى العمّال به، وكتب إلى العمّال في أمر المظالم كتابا نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، سبيل ما يرفعه إليك كلّ واحد من المتظلمين قبل النوروز من مظلمته، ويدّعى أنّه تلف بالآفة من غلّته، أن تعتمد في كشف حاله على أوثق ثقاتك وأصدق كفاتك حتى يصحّ لك أمره، فتزيل بالظلم فيه، فترفعه وتضع الإنصاف موضعه، وتحتسب من المظالم بما يوجب الوقوف عليه حسبه، وتستوفى الخراج بعده، من غير محاباة للأقوياء ولا حيف على الضعفاء، فاعمل فيما رسم لك ما يظهر ويذيع ويشتهر ويشيع، ويكون العدل به على الرعيّة كاملا، والإنصاف لجميعهم شاملا، إن شاء الله. » وكتب في إسقاط مال التكملة بفارس كتابا وفي جميع ما يشبه ذلك كتابا مشهورة مستحسنة.
فساس أبو الحسن عليّ بن عيسى الدنيا أحسن سياسة، ورسم للعمّال الرسوم الجميلة وأنصف الرعيّة، وأزال السنن الجائرة، ودبّر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامّة، وعفاف وتصوّن وديانة، ونظر في المظالم وأبطل المكس بمكّة، والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز، وجباية الخمور بديار ربيعة فبانت بركته على الدنيا، وعمر البلاد وتوفّر الارتفاع، واستقام أمر السلطان وعادت هيبة الملك، وصلح أمر الرعيّة.
ثم أسقط عليّ بن عيسى الوزير أكثر ما زاده الخاقاني في وزارته في دواوين الجند وإقطاعاتهم، وكانت هذه الزيادة قد لحقت القوّاد وسائر أصناف الجند، ولحقت الخدم والحاشية وجميع الكتّاب والمتصرّفين، وكانت كثيرة.
فلمّا أسقطها عاداه أكثر الناس وشنّعوا عليه بالضيق والشحّ وقطع الأرزاق، وإنّما اضطرّ إلى ذلك لمّا رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها في نفقات يستغنى عنها.
مناظرة بين علي بن عيسى وابن الفرات
وحكى ثابت بن شيبان عن عليّ بن عيسى أنّه قال: كنت عملت عملا لارتفاع المملكة وما عليّ من الخرج، فكان الخرج زائدا على الدخل بشيء كثير، فقال لي ابن الفرات يوما بعد صرفه إيّاى وقد أخرجت إليه في دار السلطان ليناظرني:
« أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع » فقلت له:
« أيّ رسم أبطلت؟ »
قال: « المكس بمكة والتكملة بفارس. » فقلت: « وهذا وحده أبطلت؟ وقد أبطلت أشياء كثيرة فمنها ومنها - وعددت أشياء مبلغ جميعها خمسمائة ألف دينار في السنة - ولم أستكثر هذا المقدار في جنب ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار وغسلت به عن دولته من الدرن والعار ولكن انظر مع ما حططت وأبطلت إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتى ونفقاتك. » قال ثابت: فقلت: « فبأيّ شيء أجابك؟ » فقال: « خرج الخادم ففرّق بيننا قبل أن يجيب. » قال: وحدّثني أحمد بن محمّد بن سمعون وكان ينظر في أعمال النهروانات، قال:
« مسحنا على الناس غلّاتهم فإذا بعض التّنّاء قد ذهب إلى باب الوزير عليّ بن عيسى ونحن لا نعلم، فتظلّم أنّا زدنا عليه في مساحة قراح له، فلم نشعر بشيء إلّا وقد جاءنا عامل يعرف بابن البدّال ومعه فوج من مسّاح بادوريا وفرسان ورجّالة، فلم نشكّ في أنّه صارف لنا، فقال لي صاحبي:
أحبّ أن تتلقاه وتتنسّم الخبر. ففعلت وتلقيته وعرفت خبر المتظلّم، فعرّفت صاحبي ذلك، فقال لي:
« لا تدرى كيف جرى أمر مساحته؟ » فقلت: « لا. » قال: « فاخرج حتى تواقف وتجتهد. » قال: فخرجت ومعي مسّاح البلد الذين مسحنا بهم واستقصيت معهم، وما زلت ألطف إلى أن تقرّرت المساحة، وكنّا مسحنا القراح باثنين وعشرين جريبا فخرجت مساحته احدى وعشرين جريبا وقفيز، فاحتججت بأنّ القراح مسح وفيه غلّة قائمة ومسح في هذا الوقت بعد الحصاد، وليس بمنكر أن يكون بين المساحتين في الحالتين هذا المقدار وانصرف ابن البدّال. وورد عليه كتاب عليّ بن عيسى بالصواعق في الإنكار والتوعّد، بأنّه إن وقف على أنّ أحدا من الرعية حيف عليه في معاملة أو مساحة فعل وصنع.
قال: فما جسرنا أن نستقصى على أحد في معاملة، فلمّا كان في السنة القابلة زاد الارتفاع في العشرة ثلاثة لأنّ الخبر انتشر بالعدل وقيل: قد رفع الحيف والظلم فنشط الناس للازدياد من العمارة وفعل مثل ذلك في المظالم.
وحكى ابن المشرف أنّ بعض عمّال بادوريا طالب بالخراج وبقايا عليهم وحبس أهله فصبروا على الحبس فقيّدهم فصبروا على القيد ولم يجسر أن يوقع بهم خوفا من عليّ بن عيسى، فكتب بحضرتهم إلى عليّ بن عيسى يضرّبه عليهم غاية التضريب ويقول:
« إنّ هؤلاء قوم يدلّون بالجلد، وعليهم أموال وقد ألطّوا وصبروا على الحبس والقيد، ومتى لم تطلق اليد في تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه وتأسّى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع والوزير أعلى عينا وما يراه. » قال القوم: فجزعنا وخفنا أن يطلق يده فينا فيتلفنا لما كان في نفسه علينا، وهممنا بأن نذعن له. ثم اجتمع رأينا على التوقّف إلى أن يرد الجواب. قال: فورد وإذا هو قد وقّع بخطّه على ظهر الرقعة:
« إخراج - عافاك الله - دين وليس يجب فيه غير الملازمة فلا تتعدّ ذاك إلى غيره، والسلام. » قالوا: ففرّج عنّا وأدّينا الصحيح ممّا علينا. فلمّا كانت السنة القابلة زاد ارتفاع بادوريا في العشرة اثنين وزرعنا حتى السطوح ثقة بالعدل والإنصاف.
تزوير توقيعات الوزير المصروف
ولمّا صرف أبو عليّ الخاقاني عن الوزارة أكثر الناس التزويرات عليه وعرضت توقيعاته على عليّ بن عيسى، فأنكرها وجمعها وأنفذ بها إلى أبي عليّ الخاقاني وقال:
« أنظر في هذه التوقيعات وعرّفنى الصحيح منها والباطل الذي زوّر عليك. » واتفق أن حضر رسوله وأبو عليّ الخاقاني يصلّى. فوضع الرسول التوقيعات بين يدي أبي القاسم ابنه وأدّى الرسالة، فأخذ أبو القاسم يميّزها ويفرد الصحيح منها، فأومأ إليه أبوه بالتوقّف فتوقّف، فلمّا فرغ من الصلاة أخذها فتصفّحها، ثم خلطها ودفعها إلى الرسول وقال:
« تقرأ على الوزير السلام وتعرّفه أنّ هذه التوقيعات كلّها صحيحة وأنا أمرت بها فما رأيت أن تمضيه أمضيته وما رأيت إبطاله أبطلته. » فلمّا انصرف الرسول قال لابنه:
« يا بنيّ، أردت أن تبغضنا إلى الناس بلا معنى ويكون الوزير قد التقط الشوك بيدك؟ نحن قد صرفنا فلم لا تتحبّب إلى الناس بإمضاء كل ما زوّر علينا، فان أمضاه كان الحمد لنا والضرر عليه، وإن أبطله كان الحمد لنا والذمّ له. » فاستحسن الناس هذا الفعل من أبي عليّ، إلّا أنّ عليّ بن عيسى تذمّم إلى الخلق من الخاصّة والعامّة والحاشية بإسقاطه الزيادات التي صارت عند أصحابها كالأصول واطّراحه النفقات التي تعود بتمزيق الأموال بغير فائدة، فثقلت وطأته وكره الناس أيّامه وقصدوا التشنيع عليه، وثلبوه عند المقتدر بالله، وسعى قوم لأبي الحسن ابن الفرات في الوزارة.
القبض على الحسين بن منصور الحلاج بالسوس
وفي هذه السنة قبض على الحسين بن منصور الحلّاج بالسوس، وأدخل بغداد مشهّرا على جمل، وكان حمل إلى عليّ بن أحمد الراسبي، فحمله عليّ إلى الحضرة، فصلب وهو حيّ، وصاحبه وهو خال ولده معه في الجانبين جميعا، وحبس الحلّاج وحده في دار السلطان وظهر عنه بالأهواز وبمدينة السلام أنّه ادّعى أنّه إله وأنّه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف من الناس.
حوادث أخرى
وفيها أطلق الوزير أبا عليّ الخاقاني وأزال عنه التوكيل.
وفيها مات عليّ بن أحمد الراسبي بدور الراسبي، وتقدّم مونس الخادم بمشورة عليّ بن عيسى لقبض أمواله، وكتب إلى النعمان بن عبد الله بالمصير إليه والاجتماع معه على ذلك، فكتب أنّه حصّل منها نحو ألف ألف دينار.
وفيها خلع على الأمير أبي العبّاس بن المقتدر بالله، وقلّد أعمال الحرب بمصر والمغرب واستخلف له على مصر مونس الخادم.
وقلّد الأمير على ابن المقتدر بالله الصلات وأعمال المعاون والأحداث والحرب بكور الريّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر والطرم.
وفيها ورد الخبر بقتل إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على شاطئ نهر بلخ، قتله غلمانه، وقام مقامه أبو الحسن نصر ابنه، فنفذ العهد إليه من المقتدر بالله والكتاب بتقليده خراسان مكان أبيه.
قتل أبي سعيد الجنابى
وفيها ورد الخبر بأنّ خادما لأبي سعيد الجنّابى الحسن بن بهرام المتغلّب على هجر قتله. ثم إنّ ذلك الخادم خرج بعد قتله مولاه، فدعا رجلا من رؤساء أصحابه وقال:
« السيد يدعوك. » فلمّا دخل قتله وما زال يفعل ذلك بواحد واحد إلى أن قتل أربعة من الرؤساء. ثم دعا بالخامس فأحسّ الخامس بالقتل، فصاح وأطلع النساء عليه وصحن، فقبض على الخادم قبل أن يقتل الخامس. وقتل الخادم وكان صقلابيا وقد كان أبو سعيد عهد إلى ابنه سعيد فلم يضطلع بالأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن.
وقد كان القرامطة وافوا إلى باب البصرة في سنة تسع وتسعين ومائتين، وكان المتقلّد لأعمال المعاون بالبصرة محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وكان يوم جمعة والناس في الصلاة، فصاح الصائح: « القرامطة القرامطة. »
فخرج إليهم الموكّلون بالباب فوجدوا فارسين قد نزل أحدهما عند الميل، فنظر إليه البوّابون جالسا متّكئا قد وضع إحدى رجليه على الأخرى والآخر بإزائهم فصاحوا به، وبدر إليه رجل من الخول، فطعنه القرمطي وقتله وتراجعوا، فبكى أخوه فقالوا له:
« ارجع فجرّ برجله وخذه لعنكما الله. » قالوا: « ومن أنتما؟ » قالوا: « نحن المؤمنون. » ثم تنحّى فحبا حتى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب، وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتى صار إلى الموضع فنظر الديذبان عند صهاريج الحجّاج إليهم فقالوا:
« إنّهم نحو ثلاثين فارسا. » فخرج إليهم عطارد ابن شهاب العنبري وخواصّه وغلمان من شحنة البصرة والمطوّعة، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلّا من هرب قبل المعاينة، وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئا إلّا السراويلات بغير تكك ثم ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلّق الباب وجنّة الليل.
فلمّا أصبح لم ير منهم أحدا، فكتب إلى ابن الفرات - وكان هو الوزير في الوقت - يستنجده، فأمدّه بمحمّد بن عبد الله الفارقي في جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه، وجعفر الزّرنجى في نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق.
علي بن عيسى الوزير والقرامطة
فلمّا تقلّد أبو الحسن عليّ بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر في أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى، فتقدّم إليه بمكاتبته وإنفاذ الكتاب على يدي من يرى، فكتب كتابا طويلا جدّا يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول في آخره:
« إنّ أمير المؤمنين جعل كتابه هذا ظهريّا عليك وحجّة من الله بيّنة فيك، وقاطعا لعللك، وبابا يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك، وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك. » ونفذ الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبي سعيد، فتوقّفوا عن المسير وكاتبوا الوزير عليّ بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه، فتمّموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدّوا الرسالة، فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلّم فيهم الرسل، وعاد بهم الرسل إلى بغداد.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة
وفيها قبض على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجواهر ما قيمته أربعة آلاف وكان هو يدّعى أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز في ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر.
وفيها خرج الحسين بن عليّ العلوي وتغلّب على طبرستان ولقب الداعي فوجّه إليه أخو صعلوك جيشا فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة
خروج الحسين بن حمدان عن طاعة السلطان وما كان من عاقبته
وفيها ورد الخبر بأنّ الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائبا قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلويّ صاحب المغرب لمّا قصد مصر في نيّف وأربعين ألفا.
فندب له الوزير عليّ بن عيسى رائقا الكبير وخلع عليه، وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مضر إذا انصرف من مصر، وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعليّ بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلال ويحفظ الثغور وخاصّة الخزرية منها. فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إيّاه وسبيهم كلّ من كان في نواحيه أمر عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة.
ولمّا صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين، فصار رائق إلى مونس واتصلت كتب عليّ بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين، فجدّ مونس في المسير، ولمّا قرب من الحسين جاءه مروان كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب، كتب بها مونس إلى عليّ بن عيسى، وذكر أنّ مروان أوصل إليه كتابا من الحسين يتضمّن خطابا طويلا قد افتتحه وختمه وكرّر القول في فصوله:
« إنّ السبب في خروجه عمّا كان عليه من الثقة والطاعة عدول الوزير - أيّده الله - عمّا كان عليه في أمره إلى ما أوحشه وأنّه لم يف له بضمانات ضمنها له. » وذكر أنّه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل، وأنّه سأل الرسول عمّا حمله الحسين من الرسالة إليه، فذكر أنّه يسأله المقام بحرّان إذ كانت تحمل عسكره، وأن يكاتب الوزير - أعزّه الله - في أمره ويسأله صرفه عمّا يتقلّده من الأعمال، وتركه مقيما في منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة، وأنّه عرّفه أنّ هذا متعذّر غير ممكن، إذ كانت كتب الوزير متّصلة إليه بالإنجذاب، وأنّ مخالفته غير جائز وأنّه لا يدع الكتاب فيما سأله، ولا يثنيه ذلك عمّا رسمه الوزير - أعزّه الله - فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان - أعزّه الله - وجحد نعمته وإن انقاد للحقّ وسلك سبيله وصار إليه فنزع عمّا هو عليه كان ذلك أشبه به، وإن أبي وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها، وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرّض لطغامه، لا لنكول عنه منه، لكن لاستهانته بأمره، وأنّه وكلّ بكاتبه هذا المترسّل عنه، وأنّه لا يأذن له في الانصراف إلّا بعد أن يعرف خبر الحسين.
ثم وردت الأخبار برحيل مونس حتى نزل بإزاء جزيرة بنى عمر ورحيل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله.
ثم انفلّ عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلا أوّلا.
وورد كتاب مونس بأنّه قد صار إليه من أقرباء الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس، وأنّه خلع على أكثرهم ونفد ما كان معه من الخلع والمال، وأنّه في احتيال باقى ما يحتاج إليه.
ثم ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه، وقبض على أملاك بنى حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد.
فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشمّاسية إلى دار السلطان مصلوبا على نقنق، منصوبا بأعلى ظهر فالح وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما، وسار بين يديه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر بالله، والوزير أبو الحسن عليّ بن عيسى، والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القوّاد والجيش والفيلة، فلمّا وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله، ثم أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحبس عندها في دار السلطان.
وشغّب الرجّالة والحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان، وأحرقوا إصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة في أرزاقهم، فزيد بكلّ غلام ثلاثة دنانير في كلّ شهر من شهورهم، وزيد الرجّالة كلّ راجل نصف وربع دينار في كلّ شهر، فسكن الشغب.
وقبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع أخوته وحبسوا في دار السلطان. وكان هرب ابن للحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه، وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان.
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة
غلام وهسوذان يقتل أحمد بن سياه
وفيها لقي بإصبهان غلام لعلي بن وهسوذان الديلم وكان يتقلّد أعمال المعاون بها أحمد بن سياه عامل الخراج بها، أنفذه صاحبه إليه في حاجة، واتفق أنّه لقيه وهو راكب، فكلّمه في الحاجة، فاشتدّ ذلك على أحمد بن سياه، وقال له:
« يا مؤاجر تخاطبني في حاجة على ظهر الطريق؟ » فانصرف الغلام إلى مولاه محفظا، وحدّثه بما جرى، فقال له:
« صدق فيما قال، ولو لا أنّك مؤاجر لضربت رأسه بالسيف لمّا خاطبك بذلك، فعاد الغلام ووجد أحمد بن سياه منصرفا فعلاه بالسيف وقتله، فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف عليّ بن وهسوذان لأجل ذلك من إصبهان بأحمد بن مسرور البلخي، فاستأذن عليّ بن وهسوذان في الانصراف إلى بلد الديلم، فأذن له، ثم سأل بعد ذلك في أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل.
وفيها قدم محمّد بن عليّ بن صعلوك مدينة السلام وهو ابن عمّ صاحب خراسان مستأمنا فخلع عليه.
زبزب على السطوح وحيلة للسلطان
وفيها في فصل الصيف تفزّعت العامّة من حيوان كانوا يسمّونه الزّبزب، ذكروا أنّهم يرونه في الليل على سطوحهم، وأنّه يأكل أطفالهم. قالوا: وربّما قطع يد الإنسان إذا كان نائما، أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصواني والهواوين ليفزّعوه.
وارتجّت بغداد لذلك، حتى أخذ السلطان حيوانا غريبا أبلق، كأنّه من كلاب الماء، وقال:
« هو الزّبزب، وإنّه صيد. » فصلب على نقنق عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوبا إلى أن مات.
فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنّه لا حقيقة لما توهّموه، فأمسكوا. إلّا أنّ اللصوص وجدوا فرصتهم بتشاغل الناس في سطوحهم، فكثرت النقوب.
الوزير يصلى على جنازة شار على أنها جنازة ابن الفرات
وفيها تقرّر عند أبي الحسن عليّ بن عيسى الوزير أنّه قد سعى لابن الفرات في الوزارة وتحققه، فاستعفى منها، ولم يعفه المقتدر، وأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات عليل شديد العلّة.
واتفق أن مات الشاري الذي كان محبوسا في دار السلطان، والتدبير في أمر الشراة أن يكتم موت من يؤخذ منهم، ممّن تسميه الشراة إماما، فإنّه ما دام حيّا فليس ينصبون إماما غيره، فإن صحّ عندهم موته نصبوا غيره.
فأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات مات، وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات، وصلّى عليه الوزير عليّ بن عيسى، ثم انصرف إلى منزله متوجّعا وقال لخواصه:
« اليوم ماتت الكتابة. » ثم مضت الأيّام ووقف عليّ بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعى لابن الفرات، وأنّه حيّ، فقال لخواصّه:
« ليس ينبغي للإنسان أن يتحدّث بكلّ ما يسمعه. »
صرف علي بن عيسى عن الوزارة
وكان يضجر في أوقات من سوء أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات، واستعفى من الوزارة ويخاطب المقتدر في ذلك، فينكر عليه استعفاءه.
إلى أن اتفق يوما أن صارت إليه أمّ موسى القهرمانة في آخر ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة لتواقفه على ما يطلق في عيد الأضحى للحرم والحاشية، وكان عليّ بن عيسى محتجبا، فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفا جميلا. فغضبت من ذلك وعلم عليّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الاثنين لثمان خلون من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة.
فكانت مدّة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
وزارة أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات الثانية
وفيها تقلّد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذي الحجّة، وخلع عليه وصار إلى داره بالمخرّم التي كان أقطعها في وزارته الأولى، وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسين محمّد بن جعفر بن ثوابة، وفي فصل منه:
« ولمّا لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برئاسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنّه الحوّل القلّب المحنّك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألّا يدع سببا من أسباب التكرمة كان قديما جعله له إلّا وفّاه إيّاه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلّا حباه به وآتاه. » فخاطبه بالتكنية وكان وكان.
وقبض ابن الفرات على أسباب عليّ بن عيسى واخوته وكتّابه وجميع عمّاله بالسواد وبالمشرق والمغرب، وصادرهم سوى أبي الحسين وأبي الحسن ابنى أبي البغل، فإنّه أقرّهما على ما كانا يتولّيانه من أعمال إصبهان والبصرة، لعناية أمّ موسى بهما. وقبض على أبي عليّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر في كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة في كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبي العبّاس وهارون ابني المقتدر في كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا.
وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه عليّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال في بيت المال لينفقه في العيد في إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق في درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى عليّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك في الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 15 (0 من الأعضاء و 15 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)