









واجتمع معه على هذه الحال أبو عليّ هارون بن عبد العزيز الأوارجى الكاتب الأنبارى وقد كان عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلّاج وحيله فيه وهو موجود في أيدى جماعة والحلّاج حينئذ مقيم في دار السلطان موسّع عليه مأذون لمن يدخل إليه وهو عند نصر الحاجب.
وللحلّاج اسمان: أحدهما الحسين بن منصور والآخر محمّد بن أحمد الفارسي، وكان استهوى نصرا وجاز عليه تمويهه وانتشر له ذكر عظيم في الحاشية فبعث به المقتدر إلى عليّ بن عيسى ليناظره فأحضر مجلسه وخاطبه خطابا فيه غلظة فحكى أنّه تقدّم إليه وقال له فيما بينه وبينه:
« قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا وإلّا قلبت عليك الأرض. » وكلاما في هذا المعنى. فتهيّب عليّ بن عيسى مناظرته واستعفى منه ونقل حينئذ إلى حامد بن العبّاس.
الحلاج وبنت السمري
وكانت بنت السمرّى صاحب الحلّاج قد أدخلت إلى الحلّاج وأقامت عنده في دار السلطان مدّة وبعث بها إلى حامد ليسألها عمّا وقفت عليه من أخباره وشاهدته من أحواله.
فذكر أبو القاسم بن زنجي أنّه حضر دخول هذه المرأة إلى حامد بن العبّاس وأنّه حضر ذلك المجلس أبو عليّ أحمد بن نصر البازيار من قبل أبي القاسم ابن الحوارى ليسمع ما تحكيه. فسألها حامد عمّا تعرفه من أمر الحلّاج، فذكرت أنّ أباها السمرّى حملها إليه وأنّها لمّا دخلت إليه وهب لها أشياء كثيرة عدّدت أصنافها.
قال أبو القاسم: وهذه المرأة كانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فكان ممّا أخبرت عنه أنّه قال لها:
« قد زوّجتك من سليمان ابني وهو أعزّ أولادى عليّ وهو مقيم بنيسابور وليس يحلو أن يقع بين المرأة والرجل كلام أو تنكر منه حالا من الأحوال وأنت تحصلين عنده وقد وصّيته بك فإن جرى منه شيء تنكرينه فصومي يومك واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد والملح الجريش واجعلي فطرك عليهما واستقبليني بوجهك واذكري لي منه ما تنكرينه منه، فإني أسمع وأرى. » قالت: وأصبحت يوما وأنا أنزل من السطح إلى الدار ومعي ابنته وكان قد نزل هو فلمّا صرنا على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت لي ابنته:
« اسجدي له. » فقلت لها:
« أو يسجد أحد لغير الله؟ » قالت: فسمع كلامي لها فقال:
« نعم، إله في السماء وإله في الأرض. » قالت: ودعاني إليه وأدخل يده في كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعه إليّ ثم أعادها ثانية إلى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعها إليّ وفعل ذلك مرات ثم قال:
« واجعلي هذا في طيبك فإنّ المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب. » قالت: ثم دعاني وهو جالس في بيت على بواري فقال:
« ارفعى جانب البارية من ذلك الموضع وخذي ممّا تحته ما تريدين. » وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت تحتها الدنانير مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك. فأقيمت المرأة وحصلت في دار حامد إلى أن قتل الحلّاج.
الجد في طلب أصحاب الحلاج
وجدّ حامد في طلب أصحاب الحلّاج وأذكى العيون عليهم وحصل في يده منهم حيدرة والسمرّى ومحمّد بن عليّ القنّاى والمعروف بأبي المغيث الهاشمي، واستتر ابن حمّاد وكبس منزله فأخذت منه دفاتر كثيرة وكذلك من منزل محمّد بن عليّ القنّاى فكانت مكتوبة في ورق صينى وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطّنة بالديباج والحرير مجلّدة بالأدم الجيّد. ووجد في أسماء أصحابه ابن بشر وشاكر. فسأل حامد من حصل في يده من أصحاب الحلّاج عنهما فذكروا أنّهما داعيان له بخراسان.
قال أبو القاسم بن زنجي: فكتبا في حملهما إلى الحضرة أكثر من عشرين كتابا فلم يرد جواب أكثرها. وقيل فيما أجيب عنه منها: إنّهما يطلبان ومتى حصلا حملا، ولم يحملا إلى هذه الغاية.
وصاياه للدعاة إليه
وكان في الكتب الموجودة له عجائب من مكاتبات أصحابه النافذين إلى النواحي وبوصيته إيّاهم بما يدعون إليه الناس وبما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى وأن يخاطبوا كلّ قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلّا من كتبها ومن كتبت إليه.
كلام غريب من غلام حامد في الحلاج
وحكى أبو القاسم بن زنجي قال: كنت أنا وأبي يوما بين يدي حامد إذ نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامّة وجلسنا في رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبي ولم يزل يحادثه فهو في ذلك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكّلا بالحلّاج وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه فنهض مسرعا ونحن لا ندري ما السبب، فغاب عنّا قليلا ثم عاد وهو متغير اللون جدّا فأنكر أبي ما رأى منه فسأله عن خبره فقال:
« دعاني الغلام الموكّل بالحلّاج فخرجت إليه فأعلمني أنّه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدّم إليه في كلّ يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتى ليس فيه موضع. فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعا وأنّ الغلام ارتعد وانتفض وحمّ.
فبينا نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن في الدخول إليه فدخلنا وجرى حديث الغلام فدعا به وسأله عن خبره فإذا هو محموم، وقصّ عليه قصّته فكذّبه وشتمه وقال:
« فزعت من نيرنج الحلّاج - وكلاما في هذا المعنى - لعنك الله اعزب عني. »
كيف حل دم الحلاج
فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمّى مدّة طويلة. ثم وجد حامد كتابا من كتبه فيه:
« إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فلم يمكنه أفرد في بيته بناء مربعا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يتطرّقه أحد. فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله وقضى من المناسك ما يقضى بمكّة، ثم يجمع ثلاثين يتيما ويعمل لهم أسرى ما يمكنه من الطعام ويحضرهم ذلك البيت ويقدّم لهم ذلك الطعام ويتولّى خدمتهم بنفسه، ثم يغسل أيديهم ويكسو كلّ واحد منهم قميصا ويدفع إلى كلّ واحد سبعة دراهم أو ثلاثة دراهم - الشكّ من أبي القاسم بن زنجي - وإنّ ذلك يقوم له مقام الحجّ. » قال: وكان أبي يقرأ هذا الكتاب فلمّا استوفى هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلّاج وقال له:
« من أين لك هذا. » قال: « من كتاب الإخلاص للحسن البصري. » قال له أبو عمر:
« كذبت يا حلال الدم. » قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكّة وليس فيه شيء ممّا ذكرت. فكلّما قال له أبو عمر: « يا حلال الدم » قال له حامد:
« أكتب ما قلت. » فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلّاج فلم يدعه حامد يتشاغل وألحّ عليه إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه وكتب بعده من حضر المجلس. فلمّا تبيّن الحلّاج الصورة قال:
« ظهري حمى ودمى حرام وما يحلّ لكم أن تتأوّلوا عليّ بما يبيحه.
اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنّة، ولى كتب في الورّاقين موجودة في السنّة، فالله الله في دمى. »
كتاب القوم وجواب المقتدر
ولم يزل يردّد هذا القول والقوم يكتبون خطوطهم حتى كمل الكتاب بخطوط من حضر فأنفذه حامد إلى المقتدر بالله.
فخرج الجواب:
« إذا كان فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضره مجلس الشرطة واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه، ثم اضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثّته. » فأحضر حامد صاحب الشرطة وأقرأه التوقيع وتقدّم إليه بتسلّم الحلّاج وإمضاء الأمر فيه. فامتنع من ذلك، وذكر أنّه يتخوّف أن ينتزع من يده.
فوقع الاتفاق على أن يحضر بعد العتمة ومعه جماعة من غلمانه وقوم على بغال يجرون مجرى الساسة ليجعل على بغل منها ويدخل في غمار القوم. وأوصاه بأن لا يسمع كلامه. وقال له:
« لو قال لك: أجرى لك دجلة والفرات ذهبا وفضّة فلا ترفع عنه الضرب حتى تقتله كما أمرت. »
تنفيذ أمر المقتدر في الحلاج
ففعل محمّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ذلك وحمله تلك الليلة على الصورة التي ذكرت وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إلى الجسر وبات محمّد بن عبد الصمد ورجاله حول المجلس.
فلمّا أصبح يوم الثلاثاء لستّ بقين من ذي القعدة أخرج الحلّاج إلى رحبة المجلس واجتمع من العامّة خلق كثير لا يحصى عددهم وأمر الجلّاد بضربه ألف سوط فضرب وما تأوّه ولا استعفى.
قال: فلمّا بلغ ستمائة سوط قال لمحمّد بن عبد الصمد:
« ادع بي إليك فإنّ عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية. » فقال: « قد قيل لي إنّك ستقول هذا وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل. » فسكت حتى ضرب ألف سوط ثم قطعت يده ثم رجله ثم يده ثم رجله ثم ضرب عنقه وأحرقت جثّته ونصب رأسه على الجسر، ثم حمل رأسه إلى خراسان.
وادّعى أصحابه أنّ المضروب كان عدوّا للحلّاج ألقى شبهه عليه. وادّعى بعضهم أنّه رآه وخاطبه في هذا المعنى بجهالات لا يكتب مثلها. وأحضر الورّاقون وأحلفوا أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلّاج ولا يشتروها.
ودخلت سنة عشر وثلاثمائة
إطلاق يوسف بن أبي الساج والعقد له على أعمال
وفيها إطلاق يوسف بن أبي الساج بمسألة مونس المظفّر من الحبس وشفاعته ثم حمل إليه مال وكسوة ثم وصل إلى المقتدر بالله وكان ركب في سواد فقبّل البساط ثم يد المقتدر وخلع عليه خلع الرضا وحمل على فرس بمركب ذهب.
ثم جلس المقتدر في دار العامّة بعد أيّام وعقد له على أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بالري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان وركب معه مونس المظفّر ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وجميع من بالحضرة من القوّاد والغلمان وكانت الدار قد شحنت له بالرجال والسلاح واحتشد له.
واستكتب يوسف بن أبي الساج محمّد بن خلف النيرمانى وقوطع عن الأعمال التي تقلّدها على خمسمائة ألف دينار محمولة في كلّ سنة على أنّ عليه القيام بمال الجيش الذي في هذه الأعمال والنفقات الراتبة. وخلع على وصيف البكتمرى وعلى طاهر ويعقوب ابني محمّد بن عمرو بن الليث.
من بعض حوادث السنة
وفيها قلّد نازوك الشرطة ببغداد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع على وصيف البكتمرى خلعة أخرى وضمّ إلى يوسف بن أبي الساج وشخص يوسف بن أبي الساج إلى عمله على طريق الموصل، فلمّا وصل إلى أردبيل وجد غلامه سبك قد مات.
وفيها وصل إلى بغداد هدية أبي زنبور الحسين بن أحمد المادرائى من مصر وفيها بغلة معها فلوّ وكان يتبعها ويرتضع منها وغلام طويل اللسان يلحق طرف أرنبته.
وفيها قبض على أمّ موسى القهرمانة وعلى أختها وأخيها
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أمّ موسى زوّجت بنت أخيها أبي بكر أحمد بن العبّاس من أبي العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من أولاد الخلفاء النجباء وكانت له نعمة حسنة ظاهرة وكان حسن المروءة واللبسة والدوابّ والمراكب، وكان صديقا لعليّ بن عيسى حتى قيل: إنّه كان يرشّحه للخلافة.
فلمّا وقعت المصاهرة بينه وبين أمّ موسى أسرفت فيما نثرت من المال وفيما أنفقت على دعوات دعت فيها الصغير والكبير من أهل المملكة في بضعة عشر يوما. فتمكّن أعداؤها من السعى عليها ومكّنوا في نفس المقتدر بالله ووالدته السيدة أنّها إنّما صاهرت ابن المتوكّل ليزيلوا المقتدر بالله عن الخلافة وينصبوا فيها ابن المتوكّل.
فتمّت النكبة عليها وسلّمت إلى ثمل القهرمانة مع أختها وأخيها. وكانت ثمل موصوفة بالشر لأنّها كانت قهرمانة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وكان أحمد يسلّم إليها من يسخط عليه من جواريه وخدمه فاشتهرت بالقسوة والسرف في العقوبات.
واستخرجت ثمل منها ومن أختها وأخيها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة ومن الثياب والكسوة والفرش والطيب ما يعظم مقداره حتى نصب عليّ بن عيسى لذلك ديوانا وسمّاه: ديوان المقبوضات عن أمّ موسى وأسبابها، أجرى فيها أمر ضياعهم وأملاكهم وقلّده أبا شجاع المعروف بابن أخت أبي أيّوب أبي الوزير وقلّد الزمام عليه أبا عبد الله اليوسفى الكاتب. ويقال: إنّه حصل من جهتهم نحو ألف ألف دينار.
ولمّا قبض على أمّ موسى صرف عليّ بن عيسى ابن أبي البغل عن أعماله بفارس وقلّدها أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي وصادره. ثم لمّا تقلّد ابن الفرات الوزارة الثالثة كتب إلى الكرخي بتجديد مصادرة ابن أبي البغل واعتقاله.
ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري
وفيها توفّى محمّد بن جرير الطبري وله نحو تسعين سنة، ودفن ليلا، لأنّ العامّة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادّعت عليه الرفض ثم ادّعت عليه الإلحاد.
وفيها دعا المقتدر مونسا المظفّر فشرب بين يديه وخلع عليه خلع منادمة وكانت مثقلة بالذهب.
ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة
وفيها صرف حامد بن العبّاس عن الوزارة وعليّ بن عيسى عن الدواوين.
ذكر صرف حامد بن علي بن عيسى ورد الوزارة إلى ابن الفرات










كانت لذلك أسباب كثيرة منها أنّ حامدا شرع في تضمن عليّ بن عيسى لمّا فسخ ضمانه لتلك الأعمال والبلدان التي ذكرناها وبذل أن يقوم بالأمور ويدبّر الأعمال. وكان الذي حمله على ذلك ما كان يبلغه من عزم المقتدر بالله على تقليد ابن الفرات لمّا كثر ضجيج الحاشية من عليّ بن عيسى لتأخيره عنهم أرزاقهم وأرزاق الحرم والولد، واقتصر بالخدم والحاشية والفرسان على البعض من استحقاقاتهم وحطّ من أرزاق العمّال شهرين في كلّ سنة ومن أرزاق المنفقين وأصحاب الأجناد والبرد والقضاة أربعة أشهر فزادت عداوة الناس له وخشي حامد بن العبّاس من ابن الفرات لمّا سلف منه إليه ولما عامل به ابنه المحسّن وسائر كتّابه وأسبابه.
فأمره المقتدر أن يكتب رقعة بخطّه بما يضمنه ويبذله وبتسمية من يقلّده الدواوين، ففعل حامد ذلك وعرض المقتدر بالله رقعته على ابن الفرات وهو في حبسه وشرح له أمره.
فقال ابن الفرات:
« لو اجتمع مع حامد بن العبّاس الحسن بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وسائر من شهر بالكفاية لما كان موضعا لتدبير المملكة ولا لضبط أعمال الدواوين وأنّه إن قلّد ذلك انخرقت الهيبة وزالت الحشمة وإن عليّ بن عيسى على تصرّف أحواله أقوم منه وأعرف بالأعمال والتدبير. » ثم إنّه قال:
« أنا أتضمّن خمسة أضعاف ما ضمنه حامد إن أعاده ومكّنه ممّا يريد. » فوعده المقتدر بذلك. وكان حامد مقيما ببغداد لا يدخل نفسه في شيء من الأمور ولا يزيد على أن يحضر في أيّام المواكب وينصرف. وضجر حامد من مقامه ببغداد لقبح حاله في الذلّ، ولأنّه افتضح بما كان يعامله به عليّ بن عيسى في توقيعاته، وذلك أنّه كان يوقّع إلى كتّاب الوزير حامد وإلى كتّاب الدواوين إذا ذكره بما لا صبر له عليه، وكان يوقّع:
« ليطالب جهبذ الوزير - أسعده الله - بحمل وظيفة واسط ».
« وليكتب إلى الوزير - أسعده الله - بأن يبادر بحمل شعير الكراع ».
وإذا تظلّم إليه متظلّم من أعمال حامد وعمّاله وقّع على ظهر رقعة:
« هذا ممّا ينظر فيه الوزير، أسعده الله. » وذكر عليّ بن عيسى أنّه يحتجّ في ذلك برسم قديم كان للوزراء.
فاستأذن حامد المقتدر في الخروج إلى واسط والمقام بها لينظر في أمور ضمانه بنواحيها فأذن له وخرج.
ومنها ما جرى من أمّ موسى وما ذكرناه من خبرها وما تحدّث به الناس من أمر ابن المتوكّل وأنّ ابن الحوارى دبّر ذلك لميل أمّ موسى إليه وكشفها له أسرار الخلافة.
وكان بعض أسباب ابن الفرات طرح رقعة في دار المقتدر فيها بيت شعر:
يهنيك يهنيك هذا ** يا ديك دار الخليفة
ولم يذكر في الرقعة غير هذا البيت وهي أبيات فاحشة ليست فيها أصلح من هذا البيت، وتعمّد أن جعلت الرقعة في ممرّ الخليفة إلى دار حرمة له.
فقرأ المقتدر الرقعة وقبّحت عنده صورة ابن الحوارى جدّا واعتقد فيه ذلك اليوم استحلال دمه وسفكه ونكبة أمّ موسى، ويظنّ أنّ هذا البيت كان من أوكد أسباب نكتبها ونكبته.
ومنها أنّ مفلحا الأسود كان شديد التحقّق بالمقتدر مثابرا على خدمته ثم عظم أمره حتى أقطع الإقطاعات وملّك الضياع الجليلة ووقعت بينه وبين حامد مماحكة وذكر مفلح حامدا بالقبيح وقال حامد:
« لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود وأسمّى كلّ واحد منهم مفلحا وأهبهم لغلماني. » فحقد مفلح ذلك عليه ووقف على ذلك المحسّن وعلى ما يشبه ذلك، فوجّه إلى كاتب مفلح واجتمع معه وضمن له الأعمال والأموال والولايات حتى عقد حالا بينه وبين مفلح.
تضريب من ابن الفرات عند المقتدر
وكتب المحسّن رقعة إلى المقتدر بالله على يد مفلح يذكر فيها أنّه إن سلم منه حامد وعليّ بن عيسى ونصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وابن الحوارى وأمّ موسى وأخوها والمادرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار، وكان أبو الحسن ابن الفرات لا يقصّر وهو في الحبس في التضريب على هؤلاء وإطماع المقتدر فيهم.
وكان من طريف ما عمله وعجيبة أن راسل المقتدر يوما على يدي زيدان القهرمانة يلتمس منه قيمة اثنى عشر ألف دينار أو هذا المقدار دنانير بعينها لشيء من أمره، فتذمّم المقتدر مع ما أخذه من أمواله أن يمنعه. فحملها إليه، ثم سأله أن يدخل إليه إذا اجتاز بموضعه ليلقى إليه شيئا لا تحتمله المكاتبة ولا المراسلة، وكان المقتدر كثيرا ما يدخل إليه ويشاوره فدخل إليه.
فلمّا رآه ابن الفرات قام وأخذ الكيس الذي فيه الدنانير، ففتحه وفرّغه بين يديه وقال له:
« يا أمير المؤمنين قد عرّفتك أن أموالك تنتهب وتضيّع وتقضى بها الذمامات. ما تقول في رجل واحد يرتزق في كلّ شهر من شهور الأهلّة هذا المقدار من مالك وهو اثنا عشر ألف دينار؟ » فاستعظم المقتدر ذلك واستهوله وقال:
« ويحك، من هذا الرجل؟ » قال له: « عليّ بن محمّد ابن الحوارى، وهذا سوى ما يصل إليه من المنافع لمكانه منك وموضعه من الإختصاص بك، وسوى ارتفاع ضياعه وسوى المرافق التي تصل إليه من الأعمال التي يتولّاها وسوى وسوى. » وردّ الدنانير إلى المقتدر بالله وقال:
« إنّما أردت أن تشاهد ما يصنع بك وتراه بعينك فليس الخبر كالمعاينة. » فقام المقتدر بالله وقد عظم عنده أمر ما يجرى واعتقد لابن الحوارى غاية المكروه.
خرج المحبوس وزيرا
فلمّا اجتمعت هذه الأسباب قوى عزم المقتدر على ردّ الوزارة إلى ابن الفرات. فلمّا كان يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الآخر وقد انحدر عليّ بن عيسى إلى دار السلطان قبض عليه وحبس عند زيدان القهرمانة في الحجرة التي كان فيها ابن الفرات، فأخرج منها ابن الفرات ليقلّد الوزارة.
ابن الفرات يتحدث في أيام وزارته الثانية
قال أبو محمّد عليّ بن هشام: كنت حاضرا مع أبي مجلس أبي الحسن ابن الفرات فسمعته يتحدّث في وزارته الثانية قال:
« دخل إليّ أبو الهيثم العبّاس بن محمّد بن ثوابة الأنبارى في محبسى من دار المقتدر بالله فطالبني أن أكتب خطّى بثلاثة عشر ألف ألف دينار. » فقلت: « ما جرى قدر هذا على يدي للسلطان في طول ولايتي فكيف أصادر على مثله؟ » فقال: « إني حلفت بالطلاق أن تكتب خطّك بذلك. » فكتبت بثلاثة عشر ألف ألف من غير أن أذكر ما هي أو ضمانا فيها.
فقال:
« فاكتب دينارا لتبرّئنى من يميني. » فلمّا كتبت دينارا ضربت عليه وأكلت الرقعة وقلت:
« قد برئت عن يمينك ولا سبيل لك إلى غير هذا. » فاجتهد جهده فلم أجبه إلى شيء، فلمّا كان من الغد دخل إلى الحبس ومعه أمّ موسى فطالب بذلك وأسرف في سبّى وشتمي ورمانى بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أنّى ما دخلت في شيء من محظور هذا الجنس منذ نيّف وثلاثين سنة وسمته أن يحلف بمثل ذلك إنّ غلامه القائم على رأسه لم يأته في ليلته تلك. فأنكرت أمّ موسى هذه الحال وغطّت وجهها حياء منه.
فقال لها ابن ثوابة:
« هذا إنّما تبطره الأموال التي وراءه، ومثله في ذلك مثل المزيّن مع كسرى والحجّام مع الحجّاج بن يوسف، فاستأمري السادة في إنزال المكروه به حتى يذعن بالأموال. »
قال أبو الحسن: يعنى بالسادة المقتدر ووالدته وخالته وخاطف ودستنبويه أمّ ولد المقتدر لأنّهم إذ ذاك يدبّرون الأمر معا لحداثة المقتدر.
قال ابن الفرات: فمضت أمّ موسى ثم عادت فقالت لابن ثوابة:
« يقولون لك قد صدقت ويدك مطلقة فيه وكنت في حجرة ضيّقة وحرّ شديد فأمر بكشف البواري حتى صرت في الشمس ونحّى الحصير من تحتي وأغلقت أبواب البيوت حتى حصلت في الشمس ثم قيّدنى بقيد ثقيل وألبسنى جبّة صوف قد نقّعت في ماء الأكارع وغلّنى بغلّ وأقفل باب الحجرة وانصرف فأشرفت على التلف. فلمّا مضت نحو أربع ساعات إذا صوت غلمان مجتازين في الممرّ الذي في الحجرة التي أنا فيها محبوس. » فقال لي الخدم الموكّلون:
« هذا بدر الخادم الحرمي وهو لك صنيعة. » فاستغثت به فصحت:
« يا أبا الخير، الله الله فيّ، لك مكان من السادة ولى عليك حقوق، وقد ترى حالي والموت أسهل عليّ ممّا أنا فيه.
فخاطب السيّدة وذكّرهم حرمتي وخدمتي في تثبيت دولهم إذ خذلهم الناس وافتتاحى البلدان والمنغلقة وإثارتى الأموال المنكسرة فإن كان ذنبي يوجب القتل فالموت أروح. » فرجع إليهم فخاطبهم ورقّقهم ولم يبرح حتى حلّ الحديد كلّه عني ثم أذنوا في إدخالى الحمّام وأخذ شعري وتغيير لباسى وتسليمي إلى زيدان وترفيهى فجاءني مبشّرا بذلك فلم يبرح حتى فعل جميع ذلك وقال:
« يقولون لك: لن ترى بعدها بؤسا. »










ذكر الخبر عن وزارة أبي الحسن ابن الفرات الثالثة
وتقلّد أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات الوزارة الثالثة في ذلك اليوم وخلع عليه واستدعى المقتدر بالله المحسّن ابنه من منزله بسوق العطش فخلع عليه مع أبيه ولم يوصل المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم أبا القاسم ابن الحوارى وظهر أولاد ابن الفرات وأسبابه واستتر بعض أسباب حامد وقبض المحسّن في طريقه على جماعة من أسباب حامد.
وكان أبو عليّ ابن مقلة يتقلّد لعليّ بن عيسى زمام السواد طول أيّام وزارة حامد، فلمّا تقلّد ابن الفرات هذه الوزارة تجلّد ولم يستتر وصار إليه وظهر من إعراض ابن الفرات عنه ما غضّ منه ولم يقبض عليه للمودّة التي بينه وبين ابن الحوارى فلمّا قبض بعد ذلك على ابن الحوارى قبض عليه.
وانتقل ابن الفرات إلى داره الأولى التي بالمخرّم وركب إليه ابن الحوارى ليهنّئه فأطال عنده وآنسه ابن الفرات وشاوره وخلا به فتحقّق به وأظهر السرور بولايته مع ما يبطنه من الخوف الشديد منه.
وكان أسباب أبي القاسم ابن الحوارى قد أشاروا عليه بالاستتار وقالوا له:
« إنّ المقتدر بالله لم يأذن لك عند تقليده ابن الفرات مع علمه بالعداوة بينكما إلّا لسوء رأيه فيك. » فقال ابن الحوارى:
« لو كان كذلك لقبض عليّ قبل تقليد ابن الفرات. » فلمّا كان يوم الاثنين ركب ابن الفرات وركب ابن الحوارى إلى دار السلطان فأذن لابن الفرات ولم يؤذن لابن الحوارى فاستوحش ابن الحوارى.
ثم صرف الأمر إلى ابن الفرات وقد كان شرط على ابن الفرات أن يجريه على رسمه في وزارته الثانية، فإنّه لم يكن يصل مع ابن الحوارى ظاهرا وإنّما كان يصل سرّا. فلمّا خرج ابن الفرات من عند المقتدر بالله وانفرد دخل إليه ابن الحوارى فأقبل عليه وشاوره في جميع أموره وقال:
« قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بها وأريد أن تعاضدنى وتستعمل ما يلزمك بحقّ المودّة. » فتلقّى ابن الحوارى قوله بالشكر وإظهار المناصحة وأنشأ ابن الفرات معه حديثا طويلا ونهض قبل أن يستتمّه ونزل إلى طيّاره وأنزل معه ابن الحوارى وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه ومحمّد بن عيسى صهره وعليّ بن مأمون الإسكافي كاتبه وعليّ بن خلف النيرمانى.
وكان أخوه محمّد بن خلف مصاهرا له وأظهر لجماعتهم الإكرام والإختصاص وما زال يضاحكهم إلى أن حصل في داره. ثم أسرّ إلى العبّاس الفرغاني حاجبه بأن يقبض على ابن الحوارى وجميع أسبابه، فقبض عليهم واعتقلهم في حجرة الدار واستحضر ابن الفرات في الوقت شفيعا اللؤلؤي فأنفذه إلى دار ابن الحوارى ليحفظها من النهب وضمّ إليه جماعة من الفرسان والرجّالة وأمر بمعاملته بالجميل في مطعمه ومشربه وأفردت له دار واسعة وفرشت بفرش نظيف وأفرده عن كتّابه ومن يأنس به وراسله ابن الفرات في المصادرة وتوسّط ابن قرابة بينهما.
وكان ابن قرابة متحقّقا بابن الفرات وشديد الأنس بابن الحوارى، فتقرّرت مصادرته بعد خطاب كثير على سبعمائة ألف دينار في نفسه دون كتّابه وأسبابه واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار لينصرف في أداء مال التعجيل وهو مائتان وخمسون ألف دينار فأطلق وأزيل التوكيل عن دار ابن الحوارى وأسبابه وسلّم جميعها إلى أحمد بن نصر.
وأمر ابن الفرات بكبس مواضع فيها أسباب حامد وكتّابه فأثارهم، وكان المحسّن يسرف في المكروه الذي يوقعه بمن يحصل في يده منهم حتى إنّه أحضر ابن حمّاد الموصلي وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار وسلّمه إلى مستخرجه، فصفعه المستخرج صفعا عظيما فلم يرض المحسّن ذلك وأخرجه إلى حضرته وصفعه على رأسه حتى خرج الدم من أنفه وفمه ومات ولم ينكره المقتدر وقد كان أشفق المحسّن من إنكاره وخافه خوفا شديدا.
فلمّا كان بعد أيّام أنفذ المقتدر إلى المحسّن خلع منادمته وأجرى عليه من الرزق كلّ شهر ألفى دينار زيادة على رزق الدواوين، فضرى المحسّن على مكاره الناس وأسرف المقتدر في استصابة أفعاله إلى أن بلغ الأمر فيه إلى أن غنّى الجواري بحضرته:
أحسن المحسِّن أحسن وكان استتر أبو الحسين محمّد بن أحمد بن بسطام صهر حامد بن العبّاس فاستخرجه واستخرج منه ستين ألف دينار وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار بعد مكروه غليظ وغضبه على خادم يعرف بموج كان مشهورا بالميل إليه وقبض على جماعة فأخذ خدمهم وغلمانهم الروقة وأوقع بهم المكاره.
ذكر الخبر عن قبض الوزير ابن الفرات على حامد بن العباس
كان المقتدر قد شرط على ابن الفرات أن لا ينكب حامدا وأن يناظره على ما يجب عليه من فضل الضمان فإذا وجب عليه شيء بقول الكتّاب والقضاة أخذ بعضه وقال:
« قد خدمني ولم يأخذ مني إلّا رزق سنة واحدة وشرط عليّ أن لا أسلمه لمكروه ولا أدع عليه حقّا. » فاضطرّ ابن الفرات إلى إقراره على أعمال واسط وخاطبه بأجلّ دعاء، ثم عمل له الأعمال واستقصى عليه الحجّة وخرّج عليه أموالا عظيمة وكاتب أصحابه بمطالبته والإلحاح عليه فإن تقاعد بها وكّل به من يطالبه بالمال الواجب عليه للمصالح والبذور إذ كان ممّا لا سبيل إلى تأخيره، فإنّ أمير المؤمنين ليس يأذن في تضمينه مستأنفا.
فأظهر صاحب الوزير ابن الفرات هذا الكتاب في مجلسه وبلغ حامدا الخبر في الوقت فأظهر بواسط أن كتاب المقتدر ورد عليه يأمر فيه بالمسير إلى بغداد وخرج من واسط مع جميع كتّابه وحاشيته ورجّالته وحمل معه من الفرش والآلات والكسوة جميع ما كان يخدم به بعد أن احتاط في أمواله وأمتعته الفاخرة وأودعها عند ثقاته بواسط وضرب عند خروجه بالبوقات وأجلس غلمانه وحاشيته بأسرهم في الزواريق والسميريّات وبادر بخبره على أيدى الفيوج وعلى أجنحة الطير إلى ابن الفرات وقاد دوابّه ودوابّ حاشيته. وأصحابه على الشطّ فوصل خبره إلى ابن الفرات فاستشار ابنه المحسّن ومن يختصّه فيما يعمل به فأشاروا عليه بأن يبادر إلى المقتدر ويقرئه كتاب حامد ففعل ذلك.
وقال المقتدر:
« ما وقفت على ما عمله حامد ولا كتبت بشيء ممّا ادّعاه عليّ. » فقال ابن الفرات:
« فإن كان كذلك فالصواب أن ينفذ نازوك في جمع من الغلمان الحجريّة والفرسان والرجّالة بعضهم في الماء وبعضهم في الظهر حتى يقبض على حامد وأسبابه. » فأذن له في ذلك فانصرف ابن الفرات إلى داره وأنفذ نازوك وتقدّم إليه بالمبادرة حتى يقبض على حامد وعلى أسبابه حتى لا يفوته أحد منهم.
فسار نازوك وأخطأ بأن قبض على أوّل من لقيه من أسباب حامد وعلى دوابّه وغلمانه وبلغ حامدا خبره فاستتر من الطريق ونهب أسباب نازوك بعض ما كان مع القوم من الأمتعة واستظهر نازوك على الكتب والحسبانات والأعمال وصار بالجميع إلى الحضرة.
فأمر المقتدر بتسليم جميع الكتب والأعمال إلى ابن الفرات وفرّق الأمتعة في خزائنه والدوابّ في اصطبلاته، ووجد ابن الفرات في الكتب المحمولة إليه عجائب من كتب من تقرّب إليهم فقبض عليهم، وكان حين ورد كتاب حامد بالمسير من واسط واستظهر بالتوكيل بجهبذه إبراهيم الذي كان بالحضرة.
فلمّا تمّ قبض نازوك على أسباب حامد أمر ابن الفرات هشاما بالرفق بهذا الجهبذ مرّة وبالغلظة أخرى ويسأل عن ودائع حامد، ففعل هشام به ذلك فأقرّ عفوا أنّ لحامد عنده مائة ألف دينار عينا ثم حلف على أنّه ليس عنده لحامد ولا لأحد من أسبابه وديعة غيرها. فآمنه ابن الفرات على نفسه وأن لا يسلّمه إلى المحسّن ولم يطلع ابن الفرات المقتدر بالله على خبر هذه المائة الألف إلّا بعد أن تسلّم حامدا.
وانتشر الخبر في رجب أنّ حامدا إنّما استتر لأنّ المقتدر كتب إليه ينكر خروجه من واسط على تلك الحال التي خرج عليها ويأمره أن يستتر ويوافى بغداد حتى يتوثّق منه ويأخذ خطّه بما بذل أن يضمن به ابن الفرات والمحسّن وكتّابهما وأسبابهما ليسلّم الجماعة إليه فاستتر المحسّن والفضل والحسين والحسن أولاد أبي الحسن ابن الفرات وحرمهم وأكثر الكتّاب ولم يبق في دار ابن الفرات من كتّابه الذين يحضرون مجلسه إلّا أبو القاسم ابن زنجي وحده.
وكانت مدّة سعادة حامد قد انقضت فصار إلى دار السلطان في زيّ الرهبان ومعه يونس خادمه وصعد إلى دار الحجبة التي فيها نصر الحاجب فاستأذن له فارس بن رنداق على نصر وقال:
« حامد بن العبّاس قد حضر الباب وهو يستأذن على الأستاذ. » فقال:
« قل له يدخل. »
فلمّا دخل قال له قبل أن يجلس:
« إلى أين جئت؟ » قال: « جئت بكتابك. » فقال له:
« فإلى هاهنا كتبت إليك أن تجيء. » ولم يقم له، واعتذر إليه أنّه تحت سخط الخليفة، ووجّه نصر إلى مفلح يسأله الخروج إليه، وكان مفلح يتولّى الاستئذان على المقتدر إذا كان عند حرمه. فخرج مفلح وكلّمه نصر في أمر حامد وقال له:
« هو في هذا الوقت في حال رحمة ومثلك من استعمل معه الجميل ولم يؤاخذه بما كان منه في تلك الأمور. » ثم قال حامد لمفلح:
« تقول لمولانا أمير المؤمنين عني، بأنّى أرضى أن أكون معتقلا في دار أمير المؤمنين كما اعتقل فيها عليّ بن عيسى ويناظرني الوزير والمحسّن والكتّاب بحضرة الفقهاء والقضاء ووجوه القوّاد، فإن وجب عليّ مال خرجت منه بعد أن أكون مالكا لاستيفاء حججي ومحروسا في نفسي ولم يمكّن المحسّن من دمى فيجازينى على المكاره التي كنت أوقعها به في طاعة مولانا أمير المؤمنين وهو شابّ وأنا شيخ قد بلغت هذه السنّ العالية واليسير من المكروه يتلفنى. » فوعده مفلح بذلك ودخل على المقتدر بالله فخاطبه في أمره بضدّ ما وعده به، فتكلّمت السيّدة في أمر حامد وقالت:
« لا يضرّ أن يعتقل في الدار ويناظر حتى تحرس نفسه. »
فقال مفلح:
« إن فعل هذا لم يتمّ لابن الفرات عمل، لأنّ الأراجيف قد كثرت به وخربت الدنيا وبطلت الأموال. » فقال المقتدر لمفلح:
« صدقت. » وأمره أن يخرج إلى نصر فيأمره أن ينفذ حامدا إلى ابن الفرات. فخرج مفلح إلى نصر بذلك فأخذ نصر يطيّب نفس حامد بأن يقول:
« لا بدّ من أن تصير إلى حضرة الوزير مع ثقة لي ثم أردّك إلى دار أمير المؤمنين. » فالتمس حامد من نصر ثيابا يغيّر بها ما عليه من زيّ الرهبان، فامتنع مفلح من الإذن له في ذلك وقال:
« قد أمرنى مولاي أن أوجّه به في الزيّ الذي حضر فيه. » فما زال نصر يشفع له حتى أذن له في تغيير زيّه وأنفذه مع ابن رنداق الحاجب وبادر مفلح بإنفاذ كاتبه إلى ابن الفرات يبشّره بحصول حامد وما أمر به المقتدر من تسليمه إليه.
وكان ابن الفرات على قلق وانزعاج لمّا وقف على حصول حامد في دار السلطان واستتر كتّابه وأولاده كلّهم. فلمّا جاءته رسالة مفلح سكن بعض السكون وصلّى الظهر وجلس وليس بين يديه غير ابن زنجي وهو ينظر في العمل نظرا خفيفا إلى أن ذكر بعض الغلمان أنّ طيّارا من طيّارات الخدمة قد أقبل، ثم قدّم عند درجة داره وبادر البوّابون بخبره ودخل ابن الرنداق ومعه حامد بن العبّاس فلمّا رآه ابن الفرات قال له:
« لم تركت عملك وجئت؟ » قال: « بكتابك جئت. »
قال: « فلم لم تقصد دارى إن كنت جئت بكتابي؟ » قال: « حرمت التوفيق. » ولم يزل يخاطبه بالكاف من غير ذكر الوزارة. وأخرج ابن الرنداق رقعة نصر الحاجب إلى الوزير بإنفاذ حامد إليه فألقاها إلى ابن زنجي وقال:
« اكتب بوصوله. » فكتب وسلّم الجواب إلى ابن رنداق فنهض من المجلس. فلمّا انصرف ضعفت نفس حامد وأقبل يخاطب ابن الفرات بالوزارة ولان كلامه وبان فيه الخضوع.
وأمر ابن الفرات يحيى بن عبد الله قهرمان داره بأن يفرد لحامد دارا واسعة في داره، ويفرشها فرشا حسنا ويتفقّده في طعامه وشرابه وطيبه، حتى يخدم بمثل ما كان يخدم به وهو وزير، وأن يقطع له كسوة فاخرة ويجعل معه لخدمته إذا كان خاليا خادمين أسودين أعجميين، وأمره أن يؤنسه عند الأكل وأن يخدمه في تلك الحال من الخدم والفرّاشين من يوثق به. ففعل يحيى ذلك.
ذكر ما عومل به حامد وما عمله هو
دخل إلى حامد وقت العصر من ذلك اليوم عبد الله بن فرجويه وأحمد بن الحجّاج بن مخلد صهر موسى بن خلف وقد كان حامد استعمل معهما في أيّام وزارته من المكاره ما لم يسمع بمثله قطّ. فوبّخاه على ما فعل بهما فجحد أن يكون رآهما أو وقع بصره عليهما. فلمّا أكثرا عليه قال لهما:
« قد أكثرتما عليّ، وأنا أجمل القول لكما. إن كان ما استعملته من الأحوال التي تصفان وما عاملت الناس به قد أثمر لي خيرا فاستعملا مثله وزيدا عليه، وإن كان قبيحا وهو الذي أصارونى إلى أن تمكّنتم مني فتجنّبوه.
فإن السعيد من وعظ بغيره. » فذهبا وأعادا ذلك على ابن الفرات فاسترجح حامدا وقال:










« ما أدفع رجلته ولا أنكر دربته ولكنّه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس. » قال ثابت في كتابه في التاريخ: ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن ابن الفرات هذا القول ويصدّق قول حامد ويستجيده ويقول إنّه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا ينكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كلّ أحد على المحسّن ابنه طرائقه المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العبّاس وقد زاد عليها للواحد واحدا ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامدا فيرجع ويكون السعيد الذي وعظ بغيره فإنّ من يقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغترّ غافل.
ثم راسل ابن الفرات حامد بن العبّاس في الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه، لأنّه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ في يد ابن الفرات.
وأخذ المحسّن شيئا آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله، وكتب إليه أنّه أخذ ذلك عفوا بغير مناظرة ولا مكروه وأطمع المقتدر من جهة حامد في أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخر.
واستحضر ابن الفرات حامد بن العبّاس بحضرة الفقهاء والقضاة والكتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حججه إلى أن أخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد. وكان هذا الغلام يتولّى لحامد بيع غلّاته في الفرضة، فواقف حامدا عليه وأحضر غريبا فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهوا منه، لأنّ حامدا كان في كلّ سنة يجمع جميع حسباناته ويغرّقها في دجلة.
فلمّا جرى المقدار على حامد بما جرى أنسى أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان في جملة الظهور. فكان ما ثبت في ذلك العمل من أثمان الغلّات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيّفا وأربعين ألف دينار سوى شعير الكراع المحمول إلى الحضرة.
فبان أنّ في الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضا أنّ أسعار تلك السنة الثانية في العمل أسعار مناقصة وأنّ أسعار السنين التي بعدها بأسرها أزيد، واتّجهت حجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتّاب وشفيع اللؤلؤي بما ظهر من الحجّة على حامد.
وكان ابن الفرات يرفق في المناظرة ولا يسمعه ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجّة عليه ويدعه حتى يستوفى منه لنفسه الحجّة.
وكان المحسّن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول:
« ليس يخرج المال منك إلّا مثل المكاره التي كنت تجريها على الناس. »
ويقول: « إني أعطى خطّى إن سلّم مني أن أستخرج منه ألفي ألف دينار معجّلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك. » ويستكفّه أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهى. فقال حامد:
« أيّها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنّما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يخاف أعظم من القتل فلو لا ما يلزمني من توقير مجلس الوزير لرددت عليه. » فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسّن لشتم حامد ليستعفينّ الخليفة من مناظرته. فحينئذ أمسك عن الشتم ثم أعاده إلى المناظرة مرّات وكان يحصل في آخره أنّه لا مال له وكان قد باع ضياعه ومستغلاته وفرشه وداره ولم يبق له حيلة.
فلمّا أعيت ابن الفرات الحيلة فيه خلا به في داره من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنّه إن صدقه عن أمواله وذخائره لم يسلّمه إلى المحسّن ولم يخرجه عن داره وحفظ نفسه. فإمّا أقام في داره مكرما وإمّا خرج إلى فارس متقلّدا لها أو إلى أيّ بلد أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه، ووكّد اليمين على ذلك. ثم قال له:
« أنت تعلم أنّك ضمنتنى من أمير المؤمنين لأسلّم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفوا من مالي حتى سلمت منك وأنت فقد تناسيت كلّ جميل فعلته وفعله أخي بك، والخليفة الآن مقيم على أن يسلّمك إلى المحسّن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحد مع وزير ولا مع ولد وزير، وأنا أرى لك أن تفتدى نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة من التسليم إلى المحسّن. » ووكّد له الأيمان.
فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقرّ له من الدفائن في البلاليع احتفرها وتولّى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار، وأقرّ بأنّ له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقرّ بأنّ له كسوة وطيبا مودعة بواسط.
فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسّن ولا عرّفه شيئا من الخبر.
فسرّ المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كلّ من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات بإنفاذ شفيع لتسلّم هذا المال بواسط. فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله.
وما زال حامد في دار ابن الفرات مصونا إلى أن توصّل المحسّن إلى المقتدر بالله على يد مفلح، فالتمس منه أن يوقّع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة. فتردّد مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبي الحسن ابن الفرات وتنكّر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خلع على المحسّن وركب معه أبوه والقوّاد ثم انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسّن إلى داره.
ثم ركب المحسّن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال:
« قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته، وإن سلّم إليّ استخرجت منه خمسمائة ألف دينار. » فأمر المقتدر أبا الحسن بتسليمه إليه. فقال ابن الفرات:
« قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه. » فراجع المحسّن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمرا لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه. فسلّمه إليه وحمله المحسّن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروها وأقام حامد على أنّه لم يبق له مال ولا حال، فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشى عليه وما زال يصفع إلى أن تكلّم وقال:
« أيّ شيء تريد مني؟ » قال: « أريد المال. » قال: « ما بقي غير ضيعتي. » قال: « فاكتب بوكالة لابن مكرم - وكان أحمد بن كامل القاضي حاضرا - تقرّ فيها أنّك قد وكّلته في بيعها. » فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد.
ثم إنّ المحسّن عامله بعد ذلك بمعاملة تجرى مجرى السخف من إذلاله والوضع منه. ثم سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجّالة ليحدروا به إلى واسط، ويبيع ضياعه وأملاكه.
وشاع ببغداد أنّ حامدا طلب ليلة انحداره بيضا فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات، وأنّ خادم المحسّن الموكّل به طرح فيه سمّا فما استقرّ في جوفه حتى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لمآبه.
فسلّمه الخادم إلى محمّد بن عليّ البزوفري وجعله في داره وبادر الخادم بالانصراف، وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغذّ إلّا بسويق السّلت.
وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتابا يقول فيه:
« إنّ حامدا وصل إلى واسط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه في طريقه بين بغداد وواسط وإنّه إن تلف من ذلك الذرب فإنّما مات حتف أنفه، ولا صنع للبزوفرى في شيء من أمره. » ووجّه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه. فلمّا دخل إليه القاضي والشهود قال لهم:
« ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لي بأيمان البيعة والطلاق، على أنّى إن أقررت بجميع أموالى لم يسلّمنى إلى ابنه المحسّن وصانني عن كلّ مكروه وأطلقنى إلى منزلي وولّانى أجلّ الأعمال، فلمّا أقررت له بجميع ما ملكته سلّمنى إلى ابنه المحسّن فعذّبنى بأصناف العذاب وأخرجنى مع فلان الخادم واحتال عليّ وسقاني بيضا وطرح فيه سمّا فلحقني الذرب ولا صنع للبزوفرى في دمى في هذا الوقت، ولكنّه فعل وصنع. ثم أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها في المساور البزيون المخلقة فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم. » وتبيّن البزوفري حينئذ أنّه أخطأ فيما فعله.
وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلّم به حامد.
وتوفّى حامد بن العبّاس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
ما جرى في أمر علي بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات
لمّا قبض المقتدر على عليّ بن عيسى وجعله في يد زيدان القهرمانة، راسله بأن يقرّ بأمواله. فكتب رقعة يقول فيها: إنّه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.
واتفق أن ورد الخبر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى إلى البصرة سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر في ألف وسبعمائة راجل، وأنّه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور، ثم نزل إلى البلد وقتل البوّابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح بين كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه، وأنّه لم يعرف سبك المفلحى والى البصرة إلّا في سحر يوم الاثنين ولم يعلم أنّه ابن أبي سعيد الجنّابى، وقدّر أنّهم أعراب. فركب مغترّا ولقيه وجرت بينهم حرب شديدة وقتل سبك ووضع أبو طاهر في أهل البصرة السيف وأحرق المربد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر.
وهرب الناس إلى الكلّاء، فكانوا يحاربونهم عدّة أيّام ثم أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يوما ويحمل على جماله كلّ ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، ثم انصرف إلى بلده فأنفذ إلى ابن الفرات في الوقت الذي ورد فيه خبر القرمطي بنيّ بن نفيس وجعفرا الزّرنجى إلى البصرة وقلّد محمّد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر في الطيّارات والشذاءات. وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبي طاهر الجنّابى عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بنيّ والزّرنجى.
وكان بنيّ بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنّهم استأمنوا إليه وأنّهم زعموا أنّ عليّ بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنّه وجّه إليهم في عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال في ذلك إلى المقتدر بالله.
ذكر مناظرة ابن الفرات علي بن عيسى
وعرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج عليّ بن عيسى إليه ليناظره، والجمع بينه وبين القرامطة حتى يواجهوه بما قالوا فيه، ففعل ابن الفرات فاحتجّ عليّ بن عيسى بأن قال:
« إنّه من كان في مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفه الناس بالكذب والباطل لا سيّما إذا كان الوزير منحرفا ومغتاظا. » ثم أخذ ابن الفرات يخاطبه في أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال:
« قد كان أخذ ابن بسطام خطوطهما في أيّام وزارتي الثانية صلحا عمّا وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدّة تقلّدهما في أيّامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأدّيا في أيّامى نحو خمسمائة ألف دينار فصرفت على ابن بسطام ساعة وليت الدواوين وقلّدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتابا عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما، ثم ادّعيت أنّ أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال:
« لم آمر بشيء من هذا ولا ظنّ أنّ أحدا يقدم عليه بمثلها. » فأجاب عليّ بن عيسى بأنّه كان في الوقت [ كاتبا ] لحامد بن العبّاس يخلفه على العمل، وكان أمير المؤمنين أمرنى بقبول قوله وأنّ حامدا ذكر أنّ أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقّع بذلك توقيعا فوقّعت تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه.
فقال ابن الفرات:
« أنت كنت تعارض حامدا وتخاصمه أبدا في اليسير تخرجه عليه في عبرة ما كان ضمنه حتى جرى بينكما ما تحدّث به الناس. فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين في هذا المال العظيم الجسيم؟ » فقال عليّ بن عيسى:
« كنت في أوّل الأمر كاتبا لحامد مدّة سبعة أشهر، ثم بان لأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد عليّ، وكان الذي جرى من أمر المادرائيين في صدر أيّام حامد. » فقال له ابن الفرات:
« فلمّا اعتمد عليك أمير المؤمنين ألّا صدقّته عن خطأ حامد في هذا الباب وتلافيته؟ » فقال: « أغضيت عن ذلك لأنّى كنت في ذي القعدة سنة ستّ أوصلت الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذت خطّه في مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع لمصر والشام في كلّ سنة بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش في تلك النواحي وهو ألف ألف دينار في كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرّف فيه من عطاء الجيش والنفقات الراتبة في ناحية ناحية ووقفت عليه أيضا في كلّ سنة لما ينكسر ويتأخّر في هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار وخطّه بذلك في ديوان المغرب وهذا غاية ما قدرت عليه. » فقال ابن الفرات:
« أنت تعمل أعمال الديوان منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثم تولّيت الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدّة طويلة هل رأيت من يدع مالا واجبا يؤدّى معجّلا ويأخذ عوضا منه مالا مؤجّلا يحال به على ضمان، وهبك أغضيت كما ذكرت ورأيت ذلك صوابا في التدبير، فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن في مدّة خمس سنين دبّرت فيها المملكة؟ » فأجاب عن ذلك بأنّه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى جملة.
ثم سار العلوي من إفريقية حتى تغلّب على أكثر النواحي بمصر فنفذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلويّ ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر.
« فقال ابن الفرات:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)