وفيها وافت هديّة عمرو بن الليث من نيسابور. فكان مبلغ ما أنفذه أربعة آلاف ألف درهم وعشرين من الدوابّ بالسروج واللجم المغرقة بالجلال المشهرة وكسوة وطيب وبزاة.
ظهور أبي سعيد الجنابى بالبحرين على مذهب القرامطة

وفيها ظهر أبو سعيد الجنّابى بالبحرين على مذهب القرامطة فاجتمع إليه القرامطة والأعراب. فقوى أمره وكثر عيثه وأظهر أنّه يريد البصرة. وكتب عامل البصرة إلى المعتضد بذلك، فكتب إليه بعمل سور على البصرة فقدّرت النفقة عليه أربعة عشر ألف دينار، فأمر ببنائه.
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

غلظة أمر القرامطة

وفيها غلظ أمر القرامطة بالبحرين وأغاروا على نواحي هجر وقرب بعضهم من نواحي البصرة. وولّى المعتضد العبّاس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة أبي سعيد الجنّابى والقرامطة وضمّ إليه زهاء ألفى رجل فشخص العبّاس إلى البصرة ومنها إلى البحرين واليمامة.
أسر عمرو بن الليث الصفار

وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ إسماعيل بن أحمد أسر عمرا الصفّار واستباح عسكره.
ذكر الخبر عن ذلك

كان عمرو سأل المعتضد أن يولّيه ما وراء النهر، فولّاه ذلك، ووجّه إليه وهو بنيسابور بالخلع واللواء، فخرج عمرو لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل:
« إنّك قد ولّيت دنيا عريضة، وإنّما في يدي ما وراء النهر وأنا في ثغر، فاقنع بما في يدك واتركني بهذا الثغر. » فأبى إجابته، فذكر له أمر نهر بلخ وشدّة عبوره فقال:
« لو شئت أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت. » فلمّا يئس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه من الجند والتّنّاء والدهاقين وعبر النهر إلى الجانب الغربي. وجاء عمرو فنزل بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحي فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل وطلب المحاجزة، فأبى إسماعيل عليه ذلك. فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم عمرو فولّى هاربا ومرّ بأجمة في طريقه قيل له: إنّها أقرب. فقّال لعامّة من معه:
« امضوا في الطريق الواضح. » ومضى في نفر يسير فدخل الأجمة، فوحلت دابّته ولم يكن له في نفسه حيلة. ومضى من معه ولم يلووا عليه، وجاءت أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا.
وبلغ المعتضد خبرهما فمدح إسماعيل وذمّ عمرا.
ورود الخبر بهروب وصيف

وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ وصيفا خادم ابن أبي الساج هرب من برذعة ومضى إلى ملطية مراغما لمحمّد بن أبي الساج في أصحابه. وكتب إلى المعتضد يسأله أن يولّيه الثغور ليقوم بها فكتب المعتضد إليه: يأمره أن يصير إليه، فتباطأ، وكان رسله بحضرة المعتضد.
فذكر أنّ المعتضد أمر بتقرير الرسل ليخبروه عن السبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبي الساج وقصد الثغور فأقرّوا بالضرب.
وذكروا أنّه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه على أنّه إذا استقرّ في موضعه الذي هو به لحق به صاحبه فصارا جميعا الى مصر وتغلّبا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدّثوا به.
وفيها ولّى حامد بن العبّاس أعمال فارس الخراج والضياع، وكانت في يد العبّاس بن عمرو الغنوي.
خروج العباس بن عمرو الغنوي

وفيها خرج العبّاس بن عمرو الغنوي عن البصرة بمن ضمّ إليه من الجند مع من خفّ معه من مطوّعة البصرة نحو أبي سعيد الجنّابى، فلقيتهم طلائع أبي سعيد، فخلّف العبّاس سواده وسار نحوهم، فلقى أبا سعيد وأصحابه مساء، فتناوشوا ثم حجز الليل بينهم، فانصرف كلّ فريق منهم إلى موضعهم.
فلمّا كان الليل انصرف من كان مع العبّاس من الأعراب والمطوّعة وأصبح العبّاس، فغادى القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا.
ثم إنّ صاحب ميسرة العبّاس حمل في زهاء مائة من أصحابه على ميمنة أبي سعيد، فوغلوا فيهم فقتل هو وجميع من معه، وحمل الجنّابى وأصحابه على العبّاس فانهزم أصحابه واستأسر العبّاس وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنّابى على ما في عسكر العبّاس.
فلمّا كان الغد من يوم الوقعة أحضر الجنّابى من أسر من أصحاب العبّاس، فقتلهم جميعا ثم أمر بحطب فطرح عليهم وأحرقهم.
وصار الجنّابى إلى هجر وآمن أهلها وانصرف فلّ العبّاس يريدون البصرة ولم يكن أفلت منهم إلّا القليل بغير أزواد. فخرج إليهم جماعة من البصرة بنحو من أربعمائة راحلة عليها الأطعمة والكسى والماء فخرج عليهم بنو أسد فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممّن كان مع تلك الرواحل ممّن أفلت من أصحاب عمرو، فاضطربت البصرة لذلك اضطرابا شديدا وهمّوا بأن ينتقلوا عنها وخافوا هجوم القرامطة عليهم.
ثم وردت على السلطان خريطة من الأبلّة بموافاة العبّاس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وأنّ أبا سعيد أطلقه خادما له. ثم ورد العبّاس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريّا.
فذكر أنّه بقي عند الجنّابى أيّاما بعد الوقعة ثم دعا به فقال:
« أتحب أن أطلقك؟ » قال: « نعم. » قال: « امض وعرّف الذي وجّه بك ما رأيت. » وحمله على رواحل وضمّ إليه قوما من أصحابه وحمّلهم ما يحتاجون إليه من الزاد والماء وأمر الرجال الذين وجّههم معه أن يردّوه إلى مأمنه فساروا به إلى بعض سواحل البحر فصادف به مركبا فحمله حتى صار إلى الأبلّة فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.
فتحدّث القاضي أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي قال:
سمعت العبّاس بن عمرو الغنوي يقول: لمّا أسرنى أبو سعيد الجنّابى القرمطي وكسر العسكر الذي كان أنفذه المعتضد لقتاله وجعلت أسيرا في يده، يئست من الحياة. فإني يوما على ذلك إذ جاءني رسوله فأخذ قيودي وغيّر ثيابي وأدخلنى إليه فسلّمت وجلست فقال:
« أتدرى لم استدعيتك؟ » قلت: « لا. » قال: « أنت رجل عربي ومن المحال أن أستودعك أمانة فتخفرها ولا سيما مع مني عليك بنفسك. » فقلت: « هو كذلك. » قال: « إني فكّرت في قتلك فلم أر فيه طائلا وفي نفسي رسالة إلى المعتضد لا يجوز أن يؤدّيها غيرك فرأيت إطلاقك وتحميلك إيّاها فإن حلفت لي إنّك تؤدّيها سيّرتك إليه. » فحلفت له، فقال:
« تقول للمعتضد: يا هذا لم تخرق هيبتك وتقتل رجالك وتطمع أعداءك في نفسك بإنفاذ الجيوش إليّ، وإنّما أنا رجل في فلاة لا زرع عندي ولا ضرع، ولا لي بلد وقد رضيت بخشونة العيش والأمن على المهجة والعزّ بأطراف الرماح.
« وانظر فإني ما اغتصبتك بلدا كان في يدك ولا أزلت سلطانك عن عمل جليل ومع هذا فوالله لو أنفذت إليّ جيشك كلّه ما جاز أن تظفر بي ولا تنالني. لأنّى رجل نشأت في هذا القشف فتعوّدته أنا ورجالي، فلا مشقّة علينا فيه ونحن في أوطاننا مستريحون وأنت تنفذ جيشك من الحموش والثلج والرياحين والندّ ثم يجيئون من مسافة بعيدة وطريق شاقّ وقد قتلهم السفر قبل قتالنا، وإنّما غرضهم أن يبلوا عذرا في قتالنا ومواقعتنا ساعة ثم يهربون. فإن حقفوا مع ما قد لحقهم من وعثاء السفر وشدّة الجهد كان أكبر أعوانى عليهم، فما هو إلّا أن حققت عليهم حتى ينهزموا، « وتقول وأكثر ما يقدرون عليه أن يجيئوا فيستريحوا ثم تكون عدّتهم كثيرة وبصيرتهم قويّة، فحينئذ لا تكون لي بهم قبل فانهزم، فلا يقدر جيشك أن يتبعوني إلّا مسافة قريبة، فما هو [ إلّا ] أن أبعد عشرين فرسخا أو ثلاثين وأجول في الصحراء شهرا أو شهرين، ثم أكبسهم على غرّة حتى أقتل جميعهم. وإن لم يتمّ لي هذا وكانوا متحرزين فما يمكنهم أن يطوفوا حولي وخلفي في البراري ولا يتبعني الطلب في البوادي.
« ثم لا يحملهم البلد في المقام ولا الزاد إن كانوا كثيرين، فلا بدّ أن ينصرف الجمهور ويبقى الأقلّ فهم قتلى سيوفى أوّل يوم نلتقي فيه. هذا إن سلموا من وباء هذه الناحية ورداءة ماءها وهواءها الذي نشأوا في غيره وضدّه.
« ففكّر في هذا ونحوه وانظر هل يفيء تعبك وتغريرك بعسكرك وجيشك وإنفاقك الأموال وتجهيزك الرجال وتكلّفك هذه الأخطار بطلبي وأنا مع هذا خالي الذرع منها سليم النفس والأصحاب من جميعها. فأمّا هيبتك فتنخرق، وأمّا الأطراف فتنتقض، وأمّا الملوك من الأعداء فتتجاسر. ثم لا تظفر من بلدي بطائل ولا تصل إلى حال ولا مال. فإن اخترت بعد هذا محاربتى فأقدم على بصيرة وأنفذ من شئت واضطرب كيف أحببت، وإن أمسكت فذاك إليك. » قال: ثم جهّزنى وأنفذ معي عشرة من أصحابه إلى الكوفة، فسرت منها إلى الحضرة ودخلت على المعتضد فتعجّب من سلامتي، وسألنى عن خبري سؤالا حفيّا فقلت:
« أخبرك يا أمير المؤمنين سرّا. » فتشوّق إليه وخلا بي. فلم أزل أقصّ عليه الخبر وهو يتمعّط غليظا حتى ظننت أنّه سيسير إليه بنفسه وخرجت من بين يديه، فما رأيته بعد ذلك ذكره بحرف.
ورود الخبر بقتل محمد بن زيد العلوي

وفيها ورد الخبر على السلطان بأنّ محمّد بن زيد العلوي قتل.
ذكر مقتله

ذكر أنّ محمّد بن زيد العلوي لمّا اتصل به أسر إسماعيل بن أحمد عمرو بن الليث، خرج في جيش كثيف نحو خراسان طامعا فيها، ظنّا منه أنّ إسماعيل لا يتجاوز عمله الذي كان يتولّاه وأنّه لا دافع له عن خراسان إذ كان عمرو قد أسر ولا عامل للسلطان بها.
فلمّا صار إلى جرجان، واستقرّ بها كتب إليه يسأله الرجوع إلى طبرستان وترك جرجان فأبى ذلك محمّد بن زيد فندب إسماعيل له محمّد بن هارون خليفة كان لرافع، وضمّ إليه جيشا كثيفا، فشخص نحو ابن زيد فالتقيا على باب جرجان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر محمّد بن هارون.
ثم رجع محمّد بن بكر وقد انتقضت صفوف العلوي فانهزم عسكر محمّد بن زيد وقتل منهم بشر كثير وأصابت محمّد بن زيد ضربات وأسر ابنه زيد، وحوى محمّد بن هارون عسكره. ثم مات محمّد بن زيد من تلك الضربات وحمل ابنه إلى إسماعيل. ودخل محمّد بن هارون جرجان ثم شخص إلى طبرستان.
ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

ذكر حوادث حدثت فيها