وفيها توفّى محمّد بن أبي الساج فاجتمع غلمانه وجماعة أصحابه فأمّروا عليهم ديوداذ بن محمّد واعتزلهم يوسف بن أبي الساج مخالفا لهم.
وفيها جيء بعمرو بن الليث. وذكر أنّ إسماعيل بن أحمد خيّره بين المقام عنده وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه، فوجّهه وأرسل المعتضد برسول إسماعيل مع رسوله وحمل معه إليه بدنة وتاجا وسيفا من ذهب مركّب على جميع ذلك الجواهر وهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم يفرّقها في جيوش خراسان. وقيل كان المال عشرة آلاف ألف وجّه بعض ذلك من بغداد وكتب بباقيه على عمّال الجبل وأمروا أن يدفعوا ذلك إلى الرسل.
وفيها أوقع يوسف بن أبي الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداذ، فهزم عسكره وبقي ديوداذ في جماعة قليلة فعرض عليه يوسف بن أبي الساج المقام معه فأبى وقال:
« أمضى إلى باب السلطان. » فجعل يسايره مدّة ويسأله المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل حتى وافى بغداد.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
انتشار القرامطة بسواد الكوفة
وفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة فوجّه إليهم شبل غلام أحمد بن محمّد الطائي فشخص إليهم فظفر بجماعة منهم وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبي القوس فوجّه به وبهم فدعا به المعتضد وساءله ثم أمر به فقلعت أضراسه ثم خلّع مدّت إحدى يديه ببكرة وعلّق في الأخرى صخرة وترك على حاله تلك ثلاثة ساعات ثم قطعت يداه ورجلاه من غد هذا اليوم وضربت عنقه وصلب.
سياسة المعتضد في الشيخ والمرأة المغصوبة والرجل الغاصب
ومن سياسة المعتضد التي تستفاد منها تجربة ما حدّث به أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي أنّ شيخا من التجار كان له على بعض القوّاد مال جليل، فماطله ثم جحده. قال: فعملت على التظلّم إلى المعتضد لأنّى كنت تحمّلت عليه وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان فلم ينفعني ذلك فقال لي بعض إخوانى:
« عليّ أن آخذ المال لك ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة، قم معي الساعة. » قال: فقمت معه فجاء بي إلى خيّاط في سوق الثلاثاء وهو جالس يخيط ويقرأ القرآن في مسجد. فقصّ عليه قصّتى، فقام معنا. فلمّا مشيت تأخّرت وقلت لصديقى:
« إنّك قد عرّضت هذا الشيخ ونفسك وإيّاى لمكروه عظيم. » قال: « كيف؟ » قلت: « لأنّه قد استخفّ بي مرارا وبجماعة من شفعائي مرارا كثيرة ولم يلتفت إلى مثل فلان وفلان ولا إلى الوزير، وأخاف أن يصفعنا صفعا وجيعا ويطردنا. » فضحك الرجل وقال:
« لا عليك، امش واسكت. » فجئنا إلى باب القائد فحين رآه غلمانه أعظموه وأرادوا تقبيل يده فمنعهم، وقالوا:
« ما جاء بك أيّها الشيخ فإنّ صاحبنا راكب؟ » فقال: « أدخل وأجلس إلى أن يحضر. » فبادروا إلى الإذن له وأجلسوه في أرفع موضع. فقويت نفسي وجاء الرجل، فلمّا رأى الخيّاط أعظمه إعظاما شديدا وقال:
« لا أنزع ثيابي حتى تأمر بأمرك. » فخاطبه في أمري فقال:
« والله ما عندي إلّا خمسة آلاف درهم. » فسأله أن يأخذها في الوقت ويأخذ رهنا بباقي ماله إلى أن تجيئني غلّتى.
فبادرت إلى الإجابة فأحضر الدراهم وخرجنا. فلمّا بلغنا موضع الخيّاط طرحت المال بين يديه وقلت:
« يا شيخ إنّ الله قد ردّ المال عليّ لسعيك وبركتك، فأحبّ أن تأخذ من المال نصفه أو ثلثه حتى تطيب نفسي. » فقال: « ما أسرع ما كافأتنى على الجميل بالقبيح. انصرف بمالك، بارك الله لك فيه. » فقلت: « قد بقيت لي حاجة. »
قال: « قل. » قلت: « تخبرني عن سبب طاعته لك مع تهاونه بأكثر أهل هذه الدولة؟ » فقال: « يا هذا، قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي ومعاشي. » تفألححت عليه.
قال: « أنا رجل أؤمّ وأقرأ في هذا المسجد منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، وكنت منذ دهر قد صلّيت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت برجل تركيّ كان في هذه الدار وقد تعلّق بامرأة مجتازة وكانت جميلة، وأدخلها إلى داره وهي تستغيث وليس أحد يغيثها. » قال: « فرفقت بالتركيّ وسألته تركها، فضرب رأسى بدبّوس وشجّنى وشتمني، ويئست من المرأة وخلاصها، وصرت إلى المنزل وغسلت الدم وشددت الشجّة واستروحت، وخرجت أصلّى العشاء الآخرة. فلمّا فرغنا قلت لمن حضر: قوموا معي إلى عدوّ الله، هذا التركيّ، لننكر عليه ولا نبرح حتى نخرج المرأة. فقاموا معي وجئنا وصحنا على بابه فخرج إلينا في عدّة من غلمانه، وقصدني من بين الجماعة فضربني ضربا مبرّحا كدت أتلف منه.
فحملني الجيران إلى منزلي وعالجنى أهلى ونوّمت فلم أنم إلى نصف الليل.
فقلت في نفسي هذا قد شرب إلى الآن ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أنّه الفجر، فلعلّه يطلق عن المرأة. وكانت المرأة لمّا تعلّق بها قالت: إنّ زوجي قد حلف بطلاقى ألّا أبيت عن منزلي وأعظم ما عليّ أن أطلّق وأبين منه فطمعت أن تلحق المرأة بمنزلها قبل الفجر وتسلم من أحد المكروهين.
فخرجت متحاملا حتى صعدت المنارة، فأذّنت وجلست أتطلّع منها إلى الطريق أرقب خروج المرأة، فإن خرجت وإلّا أقمت الصلاة لئلا يشكّ في الصبح ويخرجها. فما مضت إلّا ساعة فإذا الشارع قد امتلأ خيلا ورجلا ومشاعل وشموعا وهم يصيحون:
« من هذا الذي أذّن الساعة، أين هو. » ففزعت وسكتّ ثم قلت أخاطبهم لعلّى أستعين بهم على إخراج المرأة.
فصحت من المنارة:
« أنا أذّنت. » فقالوا: « انزل فأجب أمير المؤمنين. » فقلت: قد دنا الفرج، ونزلت فإذا بدر مع الجماعة فحملني وأدخلنى إلى المعتضد. فلمّا رأيته هبته وارتعدت فسكّن مني وقال:
« ما حملك على أن تغزّ المسلمين بأذانك في غير وقته فيخرج ذوو الحاجة في غير حينها، ويمسك المريد للصوم في وقت قد أتيح له الإفطار، وينقطع العسس عن الطوف والحرس؟ » فقلت: « يؤمنني أمير المؤمنين لأصدق؟ » قال: « أنت آمن. » فقصصت عليه قصّة التركيّ والمرأة وأريته الشجّة وآثار الضرب بي.
فقال:
« يا بدر، عليّ بالغلام والمرأة الساعة. » فعزلت في موضع. ومضى بدر وأحضر الغلام والمرأة فسألها المعتضد عن الصورة فأخبرته بمثل ما قلته. فقال لبدر:
« بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة من الخدم يدخلها دارها ويشرح لزوجها خبرها ويأمره عني بالتمسك بها والإحسان إليها. » ثم استدعاني فوقّفت، فجعل يخاطب الغلام وأنا قائم أسمع. وكان فيما خطبه به أن قال:
« كم جرايتك؟ » فقال: « كذا. » قال: « وكم عطاؤك؟ » قال: « كذا. » قال: « أفما كان لك في جواريك وجاريك وفي هذه النعمة الواسعة كفاية عن معصية الله تعالى، وعن خرق هيبة السلطان، حتى استعملت القحة وتجاوزت ذلك إلى الوثوب على من أمرك بالمعروف؟ » فأسقط الغلام في يده ولم يحر جوابا. فقال:
« هاتوا جوالقا وقيدا وغلّا ومداقّ الجصّ. » فأتى بها كلّها. فأدخله الجوالق وأمر الفرّاشين بدقّه، وأنا أرى ذلك كلّه، وهو يصيح. ثم انقطع صوته ومات. وأمر به فغرّق في دجلة وتقدّم إلى بدر بحمل ما في داره، ووصلني بألف درهم. ثم قال لي:
« يا شيخ أيّ شيء رأيت من أجناس المنكر ولو على هذا - وأشار بيده إلى بدر - فإن لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذّن في هذا الوقت، فإني أسمع صوتك وأستدعيك وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك أو يؤذيك. » قال: فدعوت له وانصرفت.
وانتشر الخبر في غلمان الدار والحاشية ثم الأولياء والجند والعامّة. فما خاطبت أحدا منهم بعدها في إنصاف لأحد أو كفّ عن القبيح، إلّا طاوعنى - كما رأيت - خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن في غير وقت الأذان إلى الآن.
خلافة المكتفي بالله
وفيها توفّى المعتضد ليلة الاثنين من ربيع الآخر. وفي صبيحتها أحضر دار السلطان عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حازم ويوسف بن يعقوب وأبو عمر محمّد بن يوسف، فتولّى غسل المعتضد محمّد بن يوسف، وتولّى الصلاة عليه يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله وأبو حازم وأبو عمر والخدم والخاصّة.
وجلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان، وأذن للناس، فعزّوه بالمعتضد، وهنّأوه بالمكتفى، وتقدّم في تجديد البيعة للمكتفى بالله، ففعلوا.
وكتب بالخبر إلى المكتفي وكان بالرقّة فتقدّم إلى كاتبه بأخذ البيعة على من في عسكره، ووضع العطاء لهم. ففعل وشخص إلى بغداد فدخلها وكنّى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
وفي اليوم الثاني من مقدمه هذا هلك عمرو بن الليث الصفّار.
هلاك عمرو بن الليث الصفار ذكر الخبر عن هلاكه
وكان المعتضد لمّا امتنع من الكلام عند موته أمر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإشارة والإيماء، ووضع يده على عينه وعلى رقبته، أى: اذبح الأعور. فلم يفعل ذلك صافى لقرب وفاة المعتضد وكره قتله. فلمّا دخل المكتفي سأل القاسم بن عبيد الله عن عمرو:
« أحيّ هو؟ » قال: « نعم. » فسرّ بحياته وقال:
« أريد أن أحسن إليه. » وكان عمرو يهدى إلى المكتفي ويبرّه برّا كثيرا فأراد مكافأته. فكره القاسم ذلك، ودسّ إلى عمرو من قتله. وفيها كان مقتل بدر غلام المعتضد.
كانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البرّ بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها. فأرسل زكرويه أولاده إليهم فبايعوهم وخالطوهم وانتموا إلى عليّ بن أبي طالب، وإلى محمّد بن إسماعيل بن جعفر، منهم، وذكروا أنّهم خائفون من السلطان وأنّهم لجأوا إليهم. فقبلوهم على ذلك ثم دبّوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة، فلم يقبل ذلك أحد منهم إلّا الفخذ المعروفة ببني العليص ومواليهم خاصّة، فبايعوا في آخر سنة تسع وثمانين ومائتين ناحية السماوة ابن زكرويه المسمّى: يحيى والمكنّى: أبا القاسم ولقّبوه: الشيخ على مامويه، وزعم لهم: أنّه أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، وأنّ له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأنّ ناقته التي يركبها مأمورة، وأنّهم إذا اتّبعوها في مسيرها ظفروا، وتكهّن لهم.
وانحازت إليه جماعة من بنى الإصبع، وأخلصوا له وتسمّوا بالفاطميين، ودانوا بدينهم.
فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بناحية الرصافة في غربيّ الفرات وديار مضر. فاغترّوه وقتلوه وحرّقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كلّ قرية اجتازوا بها حتى صعدوا إلى أعمال الشام، فأناخ عليها وهزم كلّ عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينة دمشق. فأنفذ المصريّون إليه بدرا الكبير وواقعوهم قريبا من دمشق، فقتل يحيى بن زكرويه.
ثم دارت الحرب على المصر فانحازت واجتمعت موالي بنى العليص ومن معهم من الأصبعيين على نصب الحسين بن زكرويه أخي المقتول، وزعم لهم أنّه أحمد بن عبد الله بن محمّد، بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد وهو ابن نيّف وعشرين سنة. فبايعوه بعد أخيه، وأظهر له شامة في وجهه ذكر أنّها آيته. وطرأ إليه ابن عمّه عيسى فلقّبه بالمدّثّر، وعهد إليه، وذكر أنّه المعنيّ في السورة التي ذكر فيها المدّثّر، وقلّد غلاما له قتل أسرى المسلمين، ولقّبه المطوّق، وظهر على جند حمص وغيرها من أرض الشام وتسمّى بأمير المؤمنين على منابرها.
وفيها أوقع إسماعيل بن أحمد بمحمّد بن هارون بالريّ فهزمه وكان في ثمانية آلاف، فمضى نحو الديلم، ودخل إسماعيل الريّ وصار ألف رجل من المنهزمة إلى باب السلطان.
ودخلت سنة تسعين ومائتين
وفيها ورد كتاب عليّ بن عيسى من الرقّة يذكر فيها أنّ القرمطي ابن زكرويه وافى في جمع كثير، فخرج إليه جماعة من أصحاب السلطان وبينهم سبك غلام المكتفي، فواقعوه فقتل سبك وانهزم أصحاب السلطان. ثم إنّ طغج بن جفّ أخرج من دمشق جيشا إلى القرمطي عليهم غلام يقال له: بشير، فواقعه القرمطي فهزم الجيش وقتل بشيرا.
ثم خلع السلطان على أبي الأغرّ وبعث به لحرب القرمطي بناحية الشام، فمضى في عشرة آلاف إلى حلب. ووردت كتب التجار من دمشق إلى بغداد أنّ القرمطي قد هزم من طغج غير مرّة وقتل أصحابه إلّا القليل وأنّه بقي في قلّة وامتنع من الخروج وإنّما تجتمع العامّة ثم تخرج للقتال وأنّهم قد أشرفوا على الهلكة فاجتمع التجار ومضوا إلى يوسف بن يعقوب فأقرأوه الكتاب وسألوه أن يخبر الوزير ذلك.
وفيها قوطع صاحب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث على أموال فارس، ثم عقد المكتفي لطاهر على أعمال فارس وخلع على صاحبه وحمل إليه الخلع مع العقد.
وفيها ورد الخبر وكتاب قرأ في جوامع بغداد بأنّ يحيى بن زكرويه قتله المصريّون على باب دمشق بعد أن اتصلت الحروب بينه وبين جند دمشق ومددهم من أهل مصر وكسر لهم جيوشا وقتل منهم خلقا.
وكان يحيى هذا يدّعى النبوّة والكهانة.
خبر الحسين أخي يحيى بن زكرويه
فلمّا قتل يحيى انحاز أصحابه إلى أخيه الحسين بن زكرويه فطلبوا أخاه في القتلى فلم يجدوه. وكان أخوه قد سبق إليه ودعا الحسين إلى مثل ما دعا إليه أخوه، فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم من سائر الناس واشتدّت شوكته.
وظهر وصار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه، فانصرف عنهم وسار إلى أطراف حمص فتغلّب عليها وخطب له على منابرها، ثم سار إلى حمص فأطاعه أهلها وفتحوا له بابها خوفا على أنفسهم فدخلها. ثم سار إلى حماة ومعرّة النعمان وغيرهما فقتل أهلها وقتل النساء والأطفال. ثم سار إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها حتى لم يبق منهم إلّا اليسير. ثم سار إلى سلمية فحارب أهلها ومنعوه الدخول. ثم أعطاهم الأمان ففتحوا له بابها. فدخلها وبدأ بمن فيها من الهاشميين فقتلهم أجمعين، وقتل بعدهم الرجال أجمعين، ثم قتل البهائم، وقتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها وليس بها عين تطرف وسار فيما حولها يقتل ويسبى ويخيف السبل.
وحكيت عنه حكايات في إباحة الفروج لأصحابه، وأنّ جماعة منهم كانوا يجتمعون على مرأة واحدة إذا استحسنوها لا يتحاشون ذلك فيما بينهم
لمكتفي والتأهب للشخوص إلى حرب القرمطي
ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة أمر المكتفي بالله بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهّب للشخوص إلى حرب القرمطي بناحية الشام.
فأطلق للجند في دفعة واحدة مائة ألف دينار، وذلك أنّ أهل مصر والشام كتبوا يشكون ما لقوا من ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وأنّه قد أخرب البلاد وقتل الناس. وحكوا أشياء عظيمة ممّا لقوه منه ومن أخيه قبله وقتلهم الرجال، وأنّه لم يبق منهم إلّا عدد قليل.
فأخرجت مضارب المكتفي فضربت بباب الشمّاسية ومعه قوّاده وغلمانه وجيوشه.
ثم رحل وسلك طريق الموصل ومضى أبو الأغرّ، فنزل وادي بطنان قريبا من حلب. فلمّا استقرّ ونزل معه جميع من معه نزع أكثرهم ثيابهم ودخلوا الوادي يتبرّدون بمائه وكان يوما شديد الحرّ. فبينا هم كذلك إذ وافاهم جيش القرمطي صاحب الشامة وقد تقدّمهم المطوّق فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقا كثيرا وانتهب العسكر، وأفلت أبو الأغرّ فدخل حلب، وأفلت معه ألف رجل وكانوا عشرة آلاف.
وصار القرمطي إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغرّ فيمن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فذهبوا وانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والمتاع بعد حرب كانت بينهم. ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهوا إلى الرقّة فنزلها وسرّح الجيوش إلى القرمطي جيشا بعد جيش.
ثم ورد كتاب من بدر الحمامي صاحب ابن طولون يخبر فيه، أنّه واقع القرمطي صاحب الشامة فهزمه ووضع في أصحابه السيف ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وأنّ أمير المؤمنين وجّه في إثره الحسين بن حمدان بن حمدون.
وورد كتاب آخر من البحرين من ابن بانو يذكر فيه أنّه واقع قرابة لأبي سعيد الجنّابى ووليّ عهده من بعده فهزمه وكان مقامه بالقطيف فوجد قتيلا بين القتلى، فاحتزّ رأسه، وأنّه افتتح القطيف فدخلها.
وفيها وجّه القاسم بن عبيد الله الجيوش إلى صاحب الشامة، وولّى حربه محمّد بن سليمان الكاتب وكان إليه ديوان الجيش، وضمّ إليه جميع القوّاد وكتب إلى من تقدّمه من القوّاد بالانضمام إليه وأن يسمع الجميع له ويطيعوه.
ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين
ولمّا توجّه محمّد بن سليمان مع جيوش المكتفي وتولّى حرب صاحب الشامة، والمكتفي بالرقّة، كتب إليه بمناهضة صاحب الشامة بمن معه فنهض إليه.
ذكر مسيره وظفره بالقرمطي
فلمّا صار بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا لقوا أصحاب القرمطي. وكان القرمطي قدّم أصحابه وتخلّف هو في جماعة من أصحابه لأجل حفظ مال كان جمعه وجعل سواده وراءه. فالتحمت الحرب بين العسكرين واشتدّت، فهزم أصحاب القرمطي فقتلوا وأسر منهم خلق كثير وتفرّق الباقون في البوادي، وتبعهم السلطان.
فلمّا رأى القرمطي هزيمة أصحابه حمّل فيما قيل أخا له يكنّى أبا الفضل مالا وتقدّم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر في موضع فيصير. إليه وركب هو وابن عمّه المسمّى: المدّثّر والمطوّق صاحبه وغلام له روميّ وأخذ دليلا وسار يريد الكوفة عرضا في البرّيّة حتى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما كان معهم من الزاد، فوجّه بعض من كان معه ليأخذ لهم بعض ما يحتاجون إليه.
فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق ليشتري ما يحتاج إليه فأنكر زيّه وسئل عن أمره فجمجم فأعلم المتولّى مسلحة هذه الناحية خبره، وكان يعرف بأبي خبزة خليفة ابن كشمرد عامل المكتفي بالرحبة وطريق الفرات. فركب في جماعة وسأل هذا الرجل عن خبره وهدّده فأخبره أنّ صاحب الشامة خلف رابية هنالك في ثلاثة نفر. فمضى إليهم فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه. فوجّه بهم ابن كشمرد إلى المكتفي بالرقّة.
ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا أكثر أولياء القرمطي وأشياعه.
وكتب محمّد بن سليمان بالفتح وكان المباشر للحرب وصاحب الظفر الحسين بن حمدان فقرّظه محمّد بن سليمان في كتاب الفتح وأثنى عليه وعلى أصحابه.
وأدخل صاحب الشامة إلى الرقّة ظاهرا للناس على فالج وعليه برنس حرير ودرّاعة ديباج وبين يديه المدّثّر والمطوّق على جملين.
رجوع المكتفي إلى بغداد بالقرمطي والمدثر والمطوق وعاقبة أمرهم
ثم إنّ المكتفي خلّف عساكره مع محمّد بن سليمان وشخص هو في خاصّته وغلمانه وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقّة إلى بغداد وحمل معه القرمطي والمدّثّر والمطوّق وحمل من أسر في الوقعة، وذلك في أوّل صفر من هذه السنة.
وأراد المكتفي أن يدخل القرمطي إلى بغداد على دقل منصوب على ظهر الفيل، فلم يمكن ذلك إلّا بهدم طاقات للأبواب التي يجتاز بها الفيل مثل باب الطاق وباب الرصافة. ثم استسمج الهدم فعمل حينئذ كرسيّ نصب على ظهر الفيل وكان ارتفاع الكرسيّ ذراعين ونصفا ودخل المكتفي بغداد وقدّم الأسرى بين يديه على جمال مقيّدين عليهم دراريع حرير وبرانس حرير والمطوّق وسطهم غلام ما خرجت لحيته قد جعل في فيه خشبة مخروطة وشدّت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنّه لمّا دخل الرقّة كان يشتم الناس إذا دعوا عليهم ويبصق عليهم، ففعل ذلك به ببغداد. ثم أمر المكتفي ببناء دكّة في المصلّى العتيق من الجانب الشرقيّ تكسيرها عشرون ذراعا في عشرين ذراعا، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد إليها.
وكان محمّد بن سليمان لمّا خلّفه المكتفي بالرقّة يلقط من كان في تلك النواحي من قوّاد القرمطي وقضاته وأصحاب شرطه فأخذهم وقيّدهم وانحدر مع من معه من الجيش إلى بغداد على طريق الفرات، وأمر القوّاد الذين ببغداد بتلقى محمّد بن سليمان والدخول معه. فدخل بغداد وبين يديه الأسراء حتى صار إلى الثريّا فخلع عليه وطوّق بطوق من ذهب وسوّر بسوارين من ذهب وخلع على جميع القوّاد وسوّروا. ثم إنّ صاحب الشامة أخذ وهو في الحبس سكرّجة عن المائدة التي تدخل إليه فكسرها وأخذ شظيّة منها فقطع بها بعض عروقه من يد نفسه فخرج منه دم كثير ثم شدّ يده فلمّا وقف المتولّى خدمته على ذلك منه سأله:
« لم فعل ذلك؟ » فقال: « هاج بي الدم فأخرجته. » فترك حتى صلح ورجعت إليه قوّته.
ثم أمر المكتفي القوّاد والغلمان بحضور الدكّة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها فحضروها. فحمل الأسرى وقوم كانوا ببغداد على رأى القرامطة وقوم من الرفوع من سائر البلدان من غير القرامطة، فجيء بهم على جمال ووكّل بهم على كلّ رجل اثنان. ويقال إنّهم كانوا ثلاثمائة وستين.
وجيء بالقرمطي الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة وابن عمّه المعروف بالمدّثّر على بغل عماريّة وقد أسبل عليهما الغشاء ومعهما جماعة من الفرسان والرجّالة. فصعد بهما إلى الدكّة وأقعدا، ثم قدّم بين يديه جماعة فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم كان يؤخذ الواحد فيبطح على وجهه فتقطع يمنى يديه ويحلّق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثم رجله اليسرى ثم يده اليسرى ثم رجله اليمنى، ويحلّق بما يقطع إلى أسفل، ثم يقعد فيمدّ رأسه فيضرب عنقه ويرمى برأسه وجثّته. وكانت جماعة قليلة من الأسرى يضجّون ويستغيثون ويزعمون أنّهم ليسوا من القرامطة.
ثم قدّم المدّثّر ففعل به ذلك ثم قدّم القرمطي فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى فغشى عليه ثم أخذ خشب فأضرمت عليه النار ووضع في خواصره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما. فلمّا خافوا أن يموت ضربت عنقه. وانصرف القوّاد وأكثر النظّارة وأقام صاحب الشرطة إلى وقت العشاء الآخرة حتى ضربت أعناق باقى الأسرى ثم انصرف.
فلمّا كان الغد حملت الرؤوس إلى الجسر، وصلب بدن القرمطي هناك، أعنى الجسر وحفرت لأجساد القتلى آبار إلى جانب الدكّة فطرحت فيها وطمّت، ثم هدمت الدكّة عليها.
ثم استأمن قوم من القرامطة إلى القاسم بن سيما خوفا من القاسم فقتلوا وأجريت لهم الأرزاق. فلمّا أمنوا همّوا بالغدر فوضعت فيهم السيوف وقتلوا كلّهم. ثم ذلّوا وارتدع قوم من بنى العليص ولزموا أرض السماوة مدّة حتى راسلهم الخبيث زكرويه وأعلمهم أنّ ممّا أوحى إليه أنّ المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، فإنّ إمامه الذي يوحى إليه يظهر بعدهما ويظفر.
وفيها خلع المكتفي على محمّد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من القوّاد منهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وأبو الأغرّ خليفة ابن المبارك وابن كيغلغ وغيرهم وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمّد بن سليمان فخرجوا معسكرين نحو دمشق ومصر لقبض الأعمال من هارون بن خمارويه لما تبيّن من ضعفه وذهاب رجاله بقتل من قتل القرمطي. وكان عدّة من مع محمّد بن سليمان لمّا دخل من باب الشمّاسية عشرة آلاف رجل.
ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين
محمد بن سليمان يخرج لحرب هارون بن خمارويه
وفي المحرّم منها صار محمّد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه. ووجّه المكتفي دميانة من بغداد وأمره بركوب البحر والمضيّ إلى مصر ودخول النيل وقطع الموادّ عمّن بمصر. ففعل ذلك وضيّق عليهم.
وزحف محمّد بن سليمان إليهم في الجيوش على الظهر حتى دنا من الفسطاط وكاتب القوّاد الذين بها. فكان أوّل من خرج إليه بدرا الحمّاميّ، وكان رئيس القوم، فكسرهم ذلك، ثم تتابع من يستأمن إليه من قوّاد المصريّين. فلمّا رأى ذلك هارون وبقية من معه زحفوا إلى محمّد بن سليمان فكانت بينهم وقعات. ثم وقع من أصحاب هارون عصبيّة فاقتتلوا وخرج هارون يسكّنهم فرماه واحد برانة فقتله. وبلغ الخبر محمّد بن سليمان، فدخل بمن معه الفسطاط واحتوى على آل طولون وأسبابهم فقيّدهم واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح فكوتب بأن يشخصهم إلى بغداد، ولا يترك أحدا منهم بمصر ولا بالشام ففعل. ثم إنّ قائدا من قوّاد مصر يعرف بالخليجى تخلّف عن محمّد بن سليمان في آخر حدود مصر واستمال جماعة من الجند وعاد إلى مصر وحشر في طريقه جماعة من محبّي الفتنة حتى كثر جمعه وواقع عامل السلطان بها، وهو عيسى النوشرى، فانحاز عنه وأخلى مصر. فدخلها الخليجي فندب السلطان لمحاربة الخليجي. فاتكأ مولى المعتضد وضمّ إليه بدرا الحمّامى وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به وضمّ إليه قوّادا وجندا كثيرا وأمر بسرعة السير.
ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين
وفيها ورد الخبر بأنّ الخليجي المتغلّب على مصر واقع كيغلغ وجماعة من القوّاد بالقرب من العريش فهزمهم أقبح هزيمة.
وفيها ورد بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث الصفّار مستأمنا يعرف بأبي القابوس مفارقا عسكر السجزيّة مع جماعة كثيرة من أصحابه.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث تشاغل باللهو والصيد ومضى إلى سجستان للصيد والنزهة فاستولى على فارس الليث بن عليّ بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، فدبّر الأمور والاسم لطاهر، فوقع بينهما وبين أبي قابوس خلاف، فصار إلى باب السلطان فقبله وخلع عليه وعلى جماعة معه وأكرمه. وكتب طاهر إلى السلطان يسأله ردّ أبي قابوس إليه ويذكر أنّه كان استكفاه بعض أعمال فارس، وأنّه جبى المال فخرج به معه ويسأله، إن لم يردّ إليه، أن يحتسب له بما ذهب به من مال فارس ممّا صودر عليه. فلم يجبه السلطان إلى شيء من ذلك.
ظهور أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة
وفيها ظهر أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة في طريق الفرات، واجتمع إليه نفر من الأعراب فسار إلى ناحية دمشق على طريق البرّ، فعاث وسلك سبيل أخيه فندب للخروج إليه الحسين بن حمدان، فخرج في جماعة من الجند. ثم ورد الخبر بمصير هذا القرمطي إلى طبريّة وأنّ أهلها امتنعوا عليه فحاربهم فقتل عامّة من بها من الرجال والنساء ونهبها.
وكان لهم داعية بنواحي اليمن فصار إلى مدينة صنعاء فحاربه أهلها فظفر بهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلّا القليل وتغلّب على سائر مدن اليمن.
ثم إنّ زكرويه بن مهرويه بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة أنفذ صاحبا له معلّما كان يعلّم الصبيان يسمّى: عبد الله بن سعيد ويكنّى: أبا غانم فتسمّى:
نصرا ليعمّى أمره. فاستغوى طائفة من بطون كلب وقوم من بنى العليص، فقصد دمشق وأحمد بن كيغلغ يحارب ابن الخليجي الذي ذكرنا أمره.
فاغتنم ذلك عبد الله وسار إلى مدينتي بصرى وأذرعات من كور حوران والبثنيّة، فحارب أهلها ثم آمنهم. فلمّا استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذرارّيهم وأخذ أموالهم. فقصدوا طبريّة فواقعهم عامل أحمد بن كيغلغ فكسروه، ثم بذلوا الأمان، فلمّا سكن إليهم غدروا به وقتلوه وانتهبوا مدينة الأردن وسبوا النساء والصبيان وقتلوا الرجال.
واتصل بهم مسير الحسين بن حمدان نحوهم فخرجوا نحو السماوة وتبعهم الحسين في برّيّة السماوة وهم ينتقلون من ماء إلى ماء ويعورونه حتى انقطع الحسين عن اتباعه لعدم الماء فعاد إلى الرحبة وأسرى القرامطة إلى هيت، فنهبت ربضها وقتلت وأحرقت وانتهبت السفن التي في الفرات، فأوقرت ثلاثة ألف راحلة كانت معها زهاء مائتي كرّ حنطة ومن البزّ والعطر والسّقط جميع ما احتاجوا إليه وأقاموا بها يومين. ثم رحلوا عنها ولمّا أصابوا ما أصابوا من الربض وتحصّن منهم أهل المدينة بسورها وندب لهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق ثم اتبع بمونس الخازن فهرب القرامطة وكتب إلى الحسين بن حمدان أن يقصدهم من ناحية الرحبة ليجتمع هو وابن كنداجيق على الإيقاع بهم.
فلمّا أحسّ الكلبيّون بالجند قد قصدوهم ائتمروا بينهم، فوثبوا على المسمّى: نصرا وقتلوه وتقرّبوا به إلى السلطان ورئيسهم رجل يعرف بالذئب فأسنيت له الجائزة وكفّ عن طلب قومه فمكث أيّاما ثم هرب.
فكتب السلطان إلى الحسين بن حمدان في معاودتهم واجتثاث أصولهم.
فبعث إليهم زكرويه داعية له يعلمهم أنّ الذئب قد نفّره عنهم وثقّل قلبه عليهم وأنّهم قد ارتدّوا عن الدّين، وأنّ وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له بالكوفة أربعون ألفا، وأنّ يوم موعدهم اليوم الذي ذكره الله تعالى وهو يوم الزينة وأنّ زكرويه يأمرهم أن يخفوا أمرهم ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ثم يسيروا إلى الكوفة حتى يصبّحوها يوم النحر، فإنّهم لا يمنعون منها وأنّه يظهر لهم وينجز وعده الذي كانت رسله تأتيهم به وأن يحملوا داعيتهم وهو القاسم بن أحمد معهم. فامتثلوا أمره ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلّاهم.
وكان إسحاق بن عمران عامل السلطان بها فأوقعوا بمن لحقوه وسلبوهم وبادر الناس إلى الكوفة وتنادوا بالسلاح ونهض إسحاق بن عمران في أصحابه، فدخل مدينة الكوفة من القرامطة نحو مائة فارس من الباب المعروف بباب كندة، فاجتمعت العوامّ وأصحاب السلطان فرموهم بالحجارة وألقوا عليهم السّتر فقتل منهم جماعة وأخرجوهم عن المدينة ثم صافّهم إسحاق خارج المدينة وأمر أهل المدينة بالتحارس فلم تزل الحرب قائمة إلى العصر وانهزمت القرامطة وأصلح أهل الكوفة السور والخندق.
وكتب إسحاق يستمدّ السلطان فأمدّه بجماعة من القوّاد فيهم وصيف بن صوراتكين والفضل بن موسى بن بغا وجنى الصفواني وجماعة أمثالهم، فشخصوا إلى زكرويه وخلّفوا إسحاق بن عمران بالكوفة لضبطها وصاروا إلى قريب من القادسيّة إلى موضع يعرف بالصوان وهو في العرض، فلقيهم زكرويه هناك فصافّوه واشتدّت الحرب فكانت الدبرة في أوّل الأمر على القرمطي. وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا فخرج الكمين عليهم فانهزم أصحاب السلطان أقبح هزيمة ووضع القرمطي فيهم السيف فقتلوهم كيف شاءوا وصبر جماعة من غلمان الحجر، فقتلوا عن آخرهم بعد أن نكوا في القرامطة نكاية عظيمة.
وأخذ للسلطان من الجمّازات التي عليها السلاح والآلة ثلاثمائة جمّازة ومن البغال خمسمائة بغل، فقتل من أصحاب السلطان نحو ألفيّ رجل. فقوى القرمطي ثم تطرّق البيادر فأخذ من الغلّات ما حملت البغال.
ووافى قوم من العرب باب الكوفة فدخلوا أبياتها وكانوا ضربوا على الداعية الذي يقال له: القاسم بن أحمد قبّة ودعوا:
« يا لثارات الحسين. » يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب وشعارهم:
« يا أحمد يا محمّد. » يعنون ابني زكرويه المقتولين، وأظهروا أعلاما بيضا وقدّروا أنّهم يستغوون الرعاع بالكوفة لما أظهروه. فأسرع إسحاق بن عمران ومن معه نحوهم فدفعهم وقتل من ثبت له منهم وعاونه أهل البلد فانصرف عنهم القرامطة وما تمّت حيلتهم.
وكان زكرويه قد ظهر في أهل قرية الصوان ينقلونه على أيديهم ويسمّونه:
وليّ الله، فلمّا رأوه سجدوا له فقال لهم:
« إنّ القاسم بن أحمد أعظم الناس منّة عليهم، فإنّه ردّكم إلى الدين بعد خروجكم منه. » وتقدّم إليهم بأن يمتثلوا أمره، فإنّه حينئذ ينجز مواعيده ويبلّغهم آمالهم.
وتلا عليهم آيات من القرآن رمزها لهم، فاغترّوا به وقويت قلوبهم وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل. وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه: السيّد، ولا يبرزونه لمن في عسكره والقاسم يتولّى الأمور دونه ويمضيها على رأيه
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)