وكان عنده أنّ أهل الكوفة وسوادها يخرجون إليه، فأعلم أصحابه ذلك وأقام نيّفا وعشرين سنة يبثّ رسله في السواد فلم يلحق به إلّا خمسمائة رجل ممّن لحقته الشهوة بنسائهم وأولادهم. وسرّب إليه السلطان الجنود وتسرّع إليه جماعة من القوّاد منهم جنى الصفوانيّ وبشر الأفشينى ورائق فتى أمير المؤمنين والحجريّة من الغلمان، فأوقعوا بالقرامطة وقتلوا جماعة من فرسانهم ورجّالتهم فأسلموا بيوتهم فانهزموا، ودخلوا البيوت وتشاغلوا بها. فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم.
وأعظم الناس ما جرى على أصحاب السلطان بالصوان وغيرها، وأهمّ السلطان أمر مصر بسبب ابن الخليجي. فأمر المكتفي بإخراج مضاربه إلى باب الشمّاسيّة ثم وردت خريطة من قبل فاتك يذكر أنّهم رجعوا إلى ابن الخليجي، فكانت بينهم وقعات وحروب. وفي آخرها هزم ابن الخليجي وقتل أصحابه وإنّه هرب إلى مصر ودخل الفسطاط فاستتر بها عند رجل من أهل البلد، ودخل أصحاب السلطان الفسطاط فاستثاروه وجمع من كان بالبلد.
فكتب إلى فاتك بحمل ابن الخليجي ومن أسر معه إلى بغداد. وردّت مضارب المكتفي بالله إلى بغداد فحمل ابن الخليجي إلى بغداد مع أحد وعشرين رجلا على الجمال مشهرين ببرانس ودراريع حرير. وخلع المكتفي على وزيره العبّاس بن الحسن خلعا لحسن تدبيره في هذا الفتح. ثم حمل رأس القرمطي المسمّى نصرا الذي انتهب هيت منصوبا على قناة فطيف به في الجانبين.
ودخلت سنة أربع وتسعين ومائتين

زكرويه وقصده قافلة الحجيج

وفيها ورد الخبر بأنّ زكرويه بن مهرويه القرمطي ارتحل من موضعه يريد الحاجّ. فذكر أنّه مضى في البرّ من جهة المشرق قريبا من الواقصة ووافت القافلة واقصة لسبع خلون من المحرّم. فأنذرهم أهل المنزل وأخبروهم أنّ بينهم وبين القوم أربعة أميال فلم يقيموا وارتحلوا فنجوا. فأمعنت القافلة في السير وصار القرمطي إلى واقصة فسألهم عن القافلة، فأخبروه أنّها لم تقم بواقصة، فاتّهمهم بإنذارهم فقتل من العلّافين بها جماعة وأحرق العلف وتحصّن أهلها في حصنهم. ثم ارتحل نحو زبالة وسارت العساكر في طلب زكرويه مدّة ثم انصرفت عنه.
ومرّ زكرويه في طريقه بطوائف من بنى أسد فأخذها معه وقصد الحاجّ المنصرفين عن مكّة وقصد الجادّة، ثم اعترضهم يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرّم من هذه السنة بالعقبة من طريق مكّة فحاربوه حربا شديدة فسايلهم وقال:
« أفيكم السلطان؟ » قالوا: « نعم معنا سلطان ونحن الحاجّ. » فقال لهم:
« فامضوا فلست أريدكم. » فلمّا سارت القافلة تبعها فأوقع بهم وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح ويبعجونها بالسيوف، فنفرت واختلطت القافلة وأكبّ أصحاب زكرويه على الحاجّ يقتلونهم كيف شاءوا فقتلوا الرجال والنساء وسبوا من النساء من أرادوا واحتووا على ما في القافلة. وقد كان لقي بعض من أفلت من هذه القافلة علّان بن كشمرد وكان في قطعة من فرسان جيش السلطان أعدّ لقصد القرامطة، فسأله عن الخبر فأعلمه ما نزل بقافلة الخراسانية وقال:
« ما بينك وبين القوم إلّا قليل، والليلة أو في غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت نفوسهم والله الله فيهم. » فرجع علّان من ساعته وأمر من معه بالرجوع وقال:
« لا أعرّض أصحاب السلطان للقتل. » ثم أصعد زكرويه ووافته القافلة الثانية والثالثة ومن كان فيها من القوّاد والكتّاب مع جماعة من الرسل تنكّبوا طريق الجادّة وكتبوا بخبر الفاسق وفعله بالحاجّ ويعلمهم بالتحرّز منه والعدول عن الجادّة نحو واسط والبصرة أو الرجوع إلى فيد أو المدينة إلى أن تلحق بهم الجيوش.
ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يتلبّثوا، وتقدّم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمّى وأحمد بن نصر العقيلي فوافوا الفجرة وقد رحلوا عن الواقصة وعوّروا مياهها وملأوا بركها وآبارها بجيف الإبل والدوابّ التي كانت معهم مشقّقة بطونها، ووردوا منزل العقبة لاثنتي عشرة خلت من المحرّم فحاربهم أهل القافلة الثانية.
وكان أبو العشائر مع أصحابه في أوّل القافلة ومبارك القمي فيمن معه في ساقتها. فجرت بينهم حرب شديدة حتى كشفوهم وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرّة فركبوهم من جهتها ووضعوا رماحهم في جنوب إبلهم وبطونها فطحنتهم الإبل فتمكّنوا منهم فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم إلّا من استعبدوه.
ثم أنفذوا إلى ما دون العقبة فوارس لحقوا من كان أفلت من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم عن آخرهم وسبوا من اختاروا من النساء وحملوا الأموال والأمتعة، وقتلوا مباركا القمّى والمظفّر ابنه وأسر أبو العشائر وجمع القتلى فوضع بعضهم على بعض حتى صاروا كالتلّ العظيم ثم قطعت يدا أبي العشائر ورجلاه وضربت عنقه. وأطلقوا من النساء ما لم يرغبوا فيه وأفلت من الجرحى قوم، ووقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا. فمنهم من مات في الطريق ومنهم من نجا وهم قليل. وكانت نساء القرامطة مع صبيانهم يطفن في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمنهم من كلّمهم فأجهزوا عليه.
وكان في القافلة زهاء عشرين ألف رجل قتل جميعهم غير نفر يسير ممّن
قوى على العدوّ بغير زاد ومن وقع في القتلى وهو مجروح فأفلت يعدو أو من استعبدوه لخدمتهم.
وكانت كتب الضرّابين بمصر إلى الضرّابين بالعراق في هذه السنة ترد أنّهم يستغنون وذاك أنّ آل طولون والقوّاد المصريّين الذين شخصوا إلى مدينة السلام ومن كان في مثل حالهم، قد وجّهوا في حمل مالهم من مصر إلى مدينة السلام وقد سبكوا أوانى الفضّة والذهب والحلي نقارا وحمل إلى مكّة ليوافوا مدينة السلام مع الحاجّ فحمل في القوافل الشاخصة إلى بغداد فذهب ذلك كلّه.
ولمّا فرغ القرمطي من الحاجّ وأخذ الأموال واستباح الحرم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بالجيف من الناس والدوابّ.