وفيها قدم بارس غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان في أربعة آلاف غلام أتراك وغيرهم وصار إلى بغداد مستأمنا وكان مولاه اتبعه إلى الريّ مظهرا الاستيحاش من قبول السلطان غلامه. فكاتبه ابن الفرات بما سكّن منه حتى عاد إلى خراسان وقلّد بارس دار ربيعة فأنفذه إليها وقلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان وعقد له عليها وضمّنه إيّاها بمائة ألف وعشرين ألف دينار في كلّ سنة محمولة إلى بيت مال العامّة بالحضرة، فسار من الدينور إليها.
ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمّد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين في قبّة على بغل وقد كشف جلالها وهما بين يدي أبي الفضل عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي كاتب سبكرى المتقلّد فارس ووصل إلى حضرة المقتدر ووصلا معه بعد أن حلّت قيودهما وخلع على عبد الرحمن بن جعفر ورتّب في الفوج الأوّل وركب عبد الرحمن في الخلع وأنزل في دار في مربعة الخرسى وحبس طاهر ويعقوب في دار السلطان.
وكان سبكرى متغلّبا على فارس. فلمّا قدم عبد الرحمن كاتبه قرّر أمر سبكرى مع السلطان على شيء يحمله عن فارس، ثم عاد إلى صاحبه.
فورد الخبر بعد ذلك بأنّ الليث بن عليّ خرج من سجستان وقصد فارس، فدخلها وخرج سبكرى، فندب مونس الخادم للشخوص إلى فارس وخلع عليه، وسار فوجد سبكرى برامهرمز واجتمع مع مونس وسار بمسيره وسار الليث إلى أرجان ليلقى مونسا.
ذكر عجلة واتفاق سيء

ثم إنّه بلغ ليثا أنّ الحسين بن حمدان قد سار من قم إلى البيضاء فخاف أن تؤخذ منه شيراز. فوجّه أخاه مع قطعة من جيشه إلى شيراز ليحفظها وأخذ هو دليلا يدلّه على طريق مختصر قريب إلى البيضاء ليوقع بالحسين بن حمدان. فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة وهو طريق صعب ضيق لا يحمل الجيوش، فلقى في طريقه مشقّة عظيمة حتى تلفت دوابّه وتلف رجاله فقتل الدليل وعدل عن الطريق فخرج إلى خوابذان وقد وصل إليها مونس. فلمّا أشرف الليث على عسكر مونس قدّر أنّه عسكر أخيه الذي أنفذه إلى شيراز.
فكبّر أصحابه فخرج إليه مونس فأوقع به وأخذه أسيرا. فلمّا حصل في يده أشار عليه قوّاده بالقبض على سبكرى. فلم يفعل وألحّ عليه أصحابه فأظهر القبول منهم وقال:
« إذا صار إلينا في غد قبضنا عليه. » وكان سبكرى كلّ يوم يركب من مضربه إلى مونس. فيسلّم عليه.
فوجّه إليه مونس سرّا وعرّفه ما أشار عليه قوّاده وأشار عليه بالمسير إلى شيراز والإسراع. ففعل سبكرى بما أشار به. فلمّا أصبح وتعالى النهار قال:
« يا قوم ما جاءنا سبكرى اليوم فوجّهوا إليه وتعرّفوا خبره. » وعاد الرسول وعرّفه أن سبكرى قد سار إلى شيراز من أوّل الليل. فعاد باللوم على قوّاده وقال لهم:
« من جهتكم شاع الخبر وبلغه فاستوحش. » وسار مونس ومعه الليث راجعا إلى مدينة السلام، وانصرف الحسين إلى قم.
ذكر تدبير فاسد وما آل إليه

لمّا حصل سبكرى بشيراز كان معه قائد يقال له القتّال، فضرّبه على كاتبه عبد الرحمن بن جعفر وأعلمه أنه في جنبة السلطان وأنّه قد أحلف قوّاده كلّهم للسلطان وأخذ له البيعة عليهم، وليس يتعذّر عليه متى شاء أن يورد كتابا من السلطان بالقبض عليه. ففزع سبكرى من هذه الحال وقبض على عبد الرحمن بن جعفر واستكتب مكانه رجلا يعرف بإسماعيل بن إبراهيم البمّى، فحمله إسماعيل هذا على الخلاف وقال له:
« قد انصرف عنك عسكر السلطان وليس يمكنه أن يعود إليك سريعا، فاربح ما كنت تحمله إلى السلطان وأصلح أمورك وأرض جندك، ثم تنظر. » واحتال عبد الرحمن بن جعفر من محبسه حتى كتب إلى ابن الفرات بخبره وما جرى عليه وبخلاف سبكرى على السلطان، فكتب ابن الفرات إلى مونس وقد صار إلى واسط كتابا يقول فيه:
« إن كنت فتحت فقد أغلقت، وإن كنت قد أسرت فقد أطلقت، ولا بدّ من أن تعود فتحارب سبكرى. » فعاد مونس إلى الأهواز وأخذ سبكرى في ملاطفة مونس ومهاداته ومسألته أن يبذل للسلطان عن أعمال فارس وكرمان زيادة على ما كان مقاطعا عليه القاسم بن عبيد الله في أيّام المكتفي بالله، فإنّه كان مقاطعا على أربعة آلاف ألف. ففعل مونس ذلك وبذل عنه سبعة آلاف ألف، فلم يرض بذلك ابن الفرات. فلم يزل يزيد ألف ألف حتى بلغ تسعة آلاف ألف خالصة للحمل، وذكر أنّ باقى الارتفاع يحتاج إليه سبكرى لإعطاء الجند بفارس وكرمان وأعلمه كثرة المؤن هناك. فأقام ابن الفرات على أنّه لا يقنع إلّا بثلاثة عشر ألف ألف فأشار مونس على سبكرى بأن يقارب السلطان والوزير، فأبى سبكرى أن يزيد على عشرة آلاف ألف شيئا. فاغتاظ الوزير من تماتن سبكرى، واتّهم مونسا بالميل إليه.
ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

ذكر ما جرى على سبكرى من الأسر

ثم إنّه عدل إلى إنفاذ وصيف كامه مع عدّة قوّاد من مدينة السلام، وإنفاذ محمّد بن جعفر العبرتاى معهم وعوّل عليه في فتح فارس.
وكتب إلى مونس: أنّه لا يثق بأحد سواه في حفظ الليث، وأنّ سبيله أن يوافى به إلى مدينة السلام ويدع أكثر قوّاده وأصحابه مع محمّد بن جعفر بالقرب من نواحي فارس، لئلّا ينجذبوا بأسرهم إلى بغداد قبل أن يتقرّر الأمر مع سبكرى في مال المفارقة، فيطمع سبكرى في السلطان.
فخرج مونس عن الأهواز وكتب الوزير حينئذ إلى محمّد بن جعفر العبرتاى والقوّاد بالمبادرة إلى شيراز مع جماعة من بالأهواز من القوّاد، وانضمّ إليه وصيف كامه، ثم أمدّه بسيما الخزري وفاتك المعتضدي ويمن الطولونى.
فلمّا تكامل الجيش لمحمّد بن جعفر سار إلى سبكرى وواقعه على باب شيراز فانهزم سبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه إلى هناك فهزمه أيضا، ودخل مفازة خراسان وأسر القتّال.
وورد الكتاب بالفتح، فخلع السلطان على الوزير عند ذلك، وقلّد محمّد بن جعفر العبرتاى فتيحا خادم الأفشين أعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان وكان يميل إلى فتيح لحسن وجهه.
وفيها ورد كتاب أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان بفتحه سجستان وأسره محمّد بن عليّ بن الليث.
ثم ورد كتابه بأسره سبكرى، فكتب إلى أحمد بن إسماعيل بحمل سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث إلى الحضرة.
فلمّا كان في شوّال من هذه السنة أدخل سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث مشهّرين على فيلين. فخلع على الوزير ابن الفرات، ثم على المرزباني خليفة صاحب خراسان، وحمل مع الرسل الذين حملوا سبكرى ومحمّد بن عليّ بن الليث هدايا وخلع وطيب وجواهر إلى صاحب خراسان.
وفيها ورد الخبر بوفاة العبرتاى ثم بوفاة فتيح، وقلّد عبد الله ابن إبراهيم المسمعي أعمال المعاون بفارس.
وفيها غرقت فاطمة القهرمانة في طيّارها تحت الجسر في يوم ريح عاصف وكانت زوّجت ابنتيها من بنيّ بن نفيس وقيصر، فحضرا جنازتها وحضرها خلق من القوّاد والقضاة، وجعلت السيّدة مكانها أمّ موسى الهاشميّة قهرمانة، فكانت تؤدّى رسائلها ورسائل المقتدر إلى ابن الفرات.
ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

القبض على الوزير ابن الفرات

وفيها قبض على الوزير ابن الفرات، ووكّل بداره، وهتك حرمه أقبح هتك، ونهبت داره ودور كتّابه وأسبابه. وافتتنت بغداد ونهب الناس.
وكان مونس الخازن يلي شرطة بغداد وتحت يده برسمها تسعة آلاف فارس وراجل. فكان يركب إذا اشتدّت الفتنة وزاد النهب فيسكن الناس ويكفّ النهب هيبة له. فإذا نزل من ركوبه عادت الحال إلى ما كانت عليه.
فلقى الناس من ذلك شدّة شديدة ثلاثة أيّام بلياليها ثم سكنت الفتنة.
فكانت مدّة وزارة أبي الحسن ابن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما.
وزارة أبي على محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان

وقلّد أبو عليّ محمّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة، وذلك في ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
فقلّد أصحاب الدواوين ورتّبهم في مجالسهم وردّ مناظرة أبي الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه إلى أبي الحسن أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وقلّده ديوان المصادرين وديوان الضياع العبّاسيّة وديوان زمام الفراتيّة.
استتار أصحاب ابن الفرات

واستتر من أصحاب ابن الفرات أبو عليّ محمّد بن عليّ بن مقلة وأبو الطيب الكلواذى وأبو القاسم هشام وأبو بشر ابن فرجويه وقبض على الباقين ونهبت دورهم وهدمت، واعتقل هؤلاء الباقون وناظرهم أحمد بن أبي البغل وعذّبهم وناظر ابن الفرات، غير أنّه لم يمكّن من إيقاع مكروه به ومكّن من جميع أسبابه وكتّابه.
ذكر ما دبره ابن أبي البغل وانعكاسه عليه

كان أبو الحسن بن أبي البغل مبعدا في أيّام ابن الفرات بإصبهان، فلمّا افتتنت بغداد وقلّد أخوه مناظرة ابن الفرات وأسبابه سفر أخوه لمّا تمكّن من ملاقاة أمّ موسى في الوزارة وبذل فيها مالا جليلا يثيره ويوفّره. فأطمع المقتدر في ذلك فأرجف له بها وكاتبه أخوه بالإسراع إلى الحضرة ونفذ إليه أبو بكر أخو أمّ موسى، فخاطبه قوم بالوزارة في طريقه، وتلقّاه القوّاد وغيرهم عند ورود بغداد.
فركب أبو عليّ الخاقاني في عشيّة من العشايا إلى دار السلطان والتمس الإذن في الوصول فأذن له وأوصل إلى المقتدر بالله فوصف له:
أنّ الأمور قد اضطربت، والأموال قد تأخّرت، والدنيا قد خربت بكثرة الأراجيف به. لأنّ ابن أبي البغل يذكر أنّه قد استحضر للوزارة.
فخاطبه المقتدر بجميل، وأذن له في إبعاد ابن أبي البغل وأخيه عن الحضرة. فقبض عليهما وأبعدهما وتنكّرت أمّ موسى القهرمانة للوزير أبي عليّ الخاقاني، فخافها وأشفق أن تفسد عليه أمره، فأرضاها بأن قلّد أبا الحسين منها أعمال الخراج والضياع بإصبهان، وقلّد أبا الحسن أخاه أعمال الصلح والمبارك.
الخاقاني يناظر ابن الفرات

وكتب الوزير بإطلاق أبي الهيثم العبّاس بن ثوابة وكان معتقلا بالموصل وكان ابن الفرات نقله إليها في نكبة محمّد بن عبدون لقرابة بينهما، وكان ابن ثوابة هذا يكتب لمحمّد بن ديوداذ وكان من الموصوفين بالشرّ، فورد بغداد في سنة ثلاثمائة وقلّده الوزير أبو عليّ الخاقاني ديوان المصادرين والضياع العبّاسيّة والفراتيّة، وردّ إليه مناظرة أبي الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه.
فأسرف ابن ثوابة في إيقاع المكروه بهم وعذّبهم بأنواع العذاب، فجرت بينه وبين أبي الحسن ابن الفرات مناظرات هاتر في بعضها ابن الفرات وشتمه بحضرة أمّ موسى، فردّ عليه ابن الفرات أقبح ردّ، وشتمه أغلظ شتيمة، ونسبه في نفسه إلى كلّ حال قبيحة، فراسل ابن ثوابة المقتدر بأنّ ابن الفرات لم يقدم على هذا إلّا لشدة بطره وكثرة أمواله واستأذن في معاقبته، فبسط يده عليه فقيّده وغلّه وألبسه جبّة صوف، وأقامه في الشمس مدّة أربع ساعات فكاد يتلف. فأنهى بدر الحرمي في حاله إلى المقتدر، فأنكرها وأمر بنقله إلى بعض الحجر التي في يد زيدان القهرمانة للحرم الخواصّ، وأحسن إليه ورفّهه. وذلك بعد أن حلف له ابن الفرات بأغلظ يمين بأنّه لم يبق له مال ولا ذخيرة ولا متاع فاخر إلّا وقد أقرّ به وقت مناظرة ابن أبي البغل، فقبل المقتدر بالله قوله ومنع ابن ثوابة من مناظرته.
ابن الفرات مشاورا

ثم صار المقتدر بعد ذلك يشاور ابن الفرات في الأمور ويقرأه رقاع الوزراء إليه ويجيبهم عنها برأيه ثم كثرت السعايات بأبي عليّ الخاقاني وتمكّن أبو القاسم ابن الحوارى.
ذكر فساد تدبير الخاقاني لأمر الوزارة

كان أبو عليّ الخاقاني متشاغلا بخدمة السلطان ومراعاة أعداءه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه أبي القاسم عبد الله، وقلّده مع العرض على الخليفة خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور. وكان ابنه هذا متشاغلا بالشراب، إنّما يراعى أمر القوّاد والجيوش والولايات للعمّال ويدع ما سوى ذلك، وكان قد نصب لقراءة الكتب الواردة أبا نصر مالك بن الوليد، ولقراءة الكتب النافذة أبا عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي.
وكانت لأبي عليّ الخاقاني وابنه الجوامع بما يرد وينفذ، فلا يقرأها أحد منهم إلّا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكتب، وتبقى الكتب بالحمول والسفاتج في خزانتهما، لا تفضّ ولا يعرف حال ما فيها. ففسدت الأمور بولاية أبي عليّ الخاقاني وضاعت.
وكان يقلّد في أسبوع واحد الكورة عدّة من العمّال، حتى قيل: إنّه قد قلّد أعمال ماه الكوفة في مدّة عشرين يوما سبعة من العمّال، واجتمعوا في خان بحلوان وقلّد أعمال قردى وبريدى خمسة من العمّال اجتمعوا في خان بعكبرا في يوم واحد وسبب ذلك ارتفاق أولاده وكتّابه من العمّال الذين يولّونهم. فسطّرت الأحاديث وحفظت له النوادر، وأطلق يده بالتوقيعات وفي الزيادات والنفل والإثبات يوقّع بذلك هو وابناه وبنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابنا سعيد.
وكان أبو عليّ الخاقاني يتقرّب إلى قلوب الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان ووجوه القوّاد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرّب إلى العامّة بأن يصلّى معهم في المساجد التي على الطرق، فكان إذا رأى جمعا من الملّاحين أو غيرهم من العامّة يصلّون في مسجد على الشط قدّم طيّاره وصعد وصلّى معهم. فاتّضعت الوزارة بأفعاله وذلّت.
وكان إذا سأله إنسان حاجة دقّ صدره وقال: