وكان الغالب على أمر الدواوين والأعمال في أيّام وزارة ابن الفرات هذه من بين سائر كتّابه أبو بشر عبد الله بن فرجويه، وكان السبب في ذلك أنّه سلم من النكبة وقت القبض على ابن الفرات في الدفعة الأولى، واستتر مدّة وزارة الخاقاني وعليّ بن عيسى، وواصل بعد ما مضت سنة واحدة من وزارة عليّ بن عيسى مكاتبة ابن الفرات على يد عيسى المتطبّب، وكان ابن الفرات يجيبه عن رقاعة ويرسم له ما يكاتب به المقتدر عن نفسه، في معايب عليّ بن عيسى وكتّابه وعمّاله، وأنّه ليس يصادر أحدا من عمّاله ويقول:
« لا أخوّن عاملا بعد أن ائتمنته. » ويذكر تأخّر أرزاق الولد والحرم والحشم، حتى إنّه اقتصر بالولد والحرم على جارى ثمانية أشهر في السنة، والخدم والحشم بستّة أشهر من السنة، واقتصر بالفرسان من مائة وخمسين ألف دينار تطلق لهم في الشهر على خمسين ألف دينار.
وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع، فيعرّفه أنّ ابن فرجويه خبر بالأمور، وأنّه صادق في كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف عليّ بن عيسى، فإذا شاور مونسا في ذلك أشار عليه أن لا يفعل. ووصف عليّ بن عيسى بالديانة والأمانة.
فلمّا خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي صاحب المغرب، تمكّن ابن فرجويه من الجدّ في السعى على عليّ بن عيسى، وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن عليّ بن عيسى لمّا غاب مونس. فلمّا تبيّن ابن فرجويه دفع غريب ونصر عن عليّ بن عيسى، كتب رقعة بخطّه إلى المقتدر، يذكر فيها أنّه إن صرف عليّ بن عيسى عن الوزارة، وقلّد مكانه عليّ بن محمّد ابن الفرات، أطلق للولد والحرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يطلقه في أيّام وزارته الأولى على التمام والكمال والإدرار، وأن يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العمّال ومال مرافقهم والاستثبات في النواحي في كلّ شهر من شهور الأهلّة خمسة وأربعين ألف دينار.
فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة، فذكر أنّ جميع ما تضمّنته صحيح، وبذل خطّه بضمانه جميع ذلك. فكانت هذه الرقاع من أكبر أسباب التحاقه على ابن فرجويه في وزارته هذه واختصاصه به.
واتفق له مع ذلك أنّ ابن الفرات أودع على يده عند جماعة من التجار والكتّاب أموالا جليلة، ولم يقرّ ابن الفرات بما كان أودعه ابن فرجويه، لأنّه لم يكن يعرف أسماء من أودع ذلك عنده. فلمّا عاد إلى الوزارة استخرج له ابن فرجويه جميع ما كان أودعه له من غير أن يذهب له شيء منه.
وكان أبو عليّ بن مقلة متعطّلا في أيّام وزارة الخاقاني، وعليّ بن عيسى ملازما منزله واستتر أيّام الخاقاني، ثم آمنه عليّ بن عيسى، فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختصّ به لهذه الحال.
ذكر ما جرى من ابن أبي الساج عند تداول الوزارة الأيدى الكثيرة
لمّا وقف يوسف بن أبي الساج على الخبر في صرف عليّ بن عيسى عن الوزارة، وكان مقيما بأذربيجان ومتقلّدا أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال الصلاة والحرب والمعاون والخراج والضياع العامّة بأرمينية وأذربيجان، ومقاطعا على مال يحمله في كلّ سنة عنها إلى بيت المال بالحضرة، وكان يزيح العلّة في ذلك المال مدّة أيّام وزارة ابن الفرات الأولى. فلمّا ولى أبو عليّ الخاقاني الوزارة ثم عليّ بن عيسى، طمع فأخّر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه، واجتمع له من ذلك ما قوى به وحمله على العصيان.
ذكر ما دبره ابن أبي الساج واحتال به
أظهر أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب بالريّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة، وسار مبادرا إليها. فلمّا قرب منها انصرف عنها محمّد بن عليّ صعلوك، وهرب إلى نواحي خراسان، وكان محمّد بن عليّ هذا متغلّبا على هذه النواحي، ثم قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضا.
فلمّا وقف ابن الفرات على ما فعله ابن أبي الساج أنهى ذلك إلى المقتدر، ثم ورد كتاب ابن أبي الساج بعد أيّام يعتدّ بما فعله من إخراج محمّد بن عليّ صعلوك عن الريّ وما يليها، ويبشّر السلطان بفتحه هذه النواحي، ويصف أنّه لمّا ورد عليه العهد واللواء من جهة عليّ بن عيسى سار إليها فرزقه الله الفتح والنصر، فاغتاظ المقتدر بالله من ذلك وتقدّم إلى ابن الفرات بمواقفة عليّ بن عيسى على ما كتب به ابن أبي الساج، فأخرجه من محبسه ورفق به وخاطبه بجميل وقال له:
« قد يجوز أن تكون دبّرت بهذا الفعل على صعلوك وهذا غير منكر. » فحلف أنّه ما ولّاه ولا أنفذ إليه لواء ولا عهدا وقال:
« ولا بدّ للواء والعهد أن ينفذ مع خادم من خدم السلطان، أو قائد من قوّاده. وهؤلاء الخدم والقوّاد بين أيديكم، سلوهم عن ذلك، ولديوان الرسائل
كاتب يتقلّده بكتب العهود والولايات، سلوه هل كتب بشيء؟ » فأخذ منه ابن الفرات خطّا بما حكاه وعرضه على المقتدر بالله فازداد المقتدر غيظا على ابن أبي الساج.
وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبي الساج في هذا المعنى أغلظ كتب وتوعّده، وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحى، وضمّ إليه الرجال، وأنفذ بعده عدّة من القوّاد مددا له وأنفق الأموال فيهم.
وكان فيهم مثل محمّد بن مسرور البلخي وسيما الخزري ونحرير الصغير وجماعة أمثالهم، فواقعه ابن أبي الساج وهزمه وأسر جماعة من أصحابه وأدخلهم مشهّرين إلى الريّ.
وقدم مونس الخادم من الثغر، فندب لحرب ابن أبي الساج وشخص إليه، وكتب إلى جميع القوّاد في طريقه بالانضمام إليه واستأمن إليه أحمد ابن عليّ صعلوك فأحسن قبوله، وصرف خاقان المفلحى عمّا كان إليه من أعمال الجبل، وقلّد مكانه نحرير الصغير.
واتصلت كتب ابن أبي الساج يلتمس الرضا عنه ويبذل سبعمائة ألف دينار عن أعمال الخراج والضياع بكورة الريّ وما يليها خالصة، سوى أرزاق الأولياء في تلك الأعمال، وسوى النفقات الراتبة، فلم يجبه المقتدر بالله إلى ما التمس فكتب يبذل أن يقيم بالريّ متقلّدا أعمال المعاون والحرب بها فقط حتى ينفذ السلطان إلى تلك النواحي من يتقلّد أعمال الصلاة والخراج والضياع والأحكام والبريد والخبر والخرائط والصدقات. فأقام المقتدر على أنّه لو بذل كلّ بذل لما أقرّه على الريّ يوما واحدا لإقدامه على أن سار إليها بغير أمر.
فلمّا رأى ابن أبي الساج هذه الحال انصرف عن الريّ وأعمالها بعد أن أخربها وجبى مالها لسنة أربع وثلاثمائة في مدّة قريب، وقلّد مونس الريّ وقزوين وصيفا البكتمرّى، ورضى ابن أبي الساج بأن يجدّد له العهد والولاية للأعمال التي كانت إليه أوّلا، وأشار ابن الفرات بقبول ذلك منه وضمن أن يلزمه بهذا السبب حمل جملة من المال إلى بيت المال يحسن موقعها، فعارض ذلك نصر الحاجب وابن الحوارى وقالوا:
« لا يجوز أن يقرّ على أرمينية وأذربيجان إلّا بعد أن يرد الحضرة ويطأ البساط. » ونسبوا ابن الفرات إلى مواطأته، فأقام المقتدر على أنّه لا بدّ من محاربته، أو يرد الحضرة، وكتب إلى مونس بالتعجّل إليه لمحاربته. فلمّا رأى ابن أبي الساج أنّ دمه على خطر، حارب مونسا بسراة من بلد أذربيجان فانهزم مونس إلى زنجان، وقتل من قوّاد السلطان سيما، واستأسر ابن أبي الساج جماعة من قوّاد مونس فيهم هلال بن بدر، وأدخلهم إلى أردبيل مشهرين وأقام مونس بزنجان يجمع ليوسف، وهو مع ذلك يكاتبه ويراسله، وابن أبي الساج يلتمس منه الصلح ومونس لا يقبل منه إلّا المصير إلى الحضرة.
وكان ابن أبي الساج أبقى على مونس لمّا انهزم حتى سلم في ثلاثمائة غلام، ولو أراد ابن أبي الساج لأسره فكان مونس يشكر ابن أبي الساج على هذه الحال.
فلمّا كان في المحرّم بعد ذلك في أيّام وزارة حامد بن العبّاس واقع مونس يوسف بن أبي الساج الوقعة الأخرى بأردبيل، فأسر يوسف وبه ضربات، وانصرف به مونس إلى بغداد. فلمّا كان سنة سبع وثلاثمائة حمل يوسف بن أبي الساج على جمل من باب الشمّاسية وأدخل بغداد مشهرا، على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقّف بين يدي المقتدر، ثم حبس في دار السلطان في يد زيدان القهرمانة، ووسّع عليه ثم خلع على مونس وطوّق وسوّر وخلع على جماعة من قوّاده وزيد الرجّالة نصف دينار لكلّ واحد في الشهر.
ولمّا بعد مونس من أذربيجان وانكفأ راجعا إلى مدينة السلام ومعه يوسف بن يوداذ غلب سبك غلام يوسف عليها، فأنفذ مونس إليه محمّد بن عبد الله الفارقي وقلّده البلد، وكان في حدود أرمينية، فسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وصار إلى بغداد وتمكّن سبك من البلد. ثم كتب إلى السلطان يسأل أن يقاطع عن الناحية، فأجيب وفورق على أن يحمل في كلّ سنة مائتين وعشرين ألف دينار، وأنفذت إليه الخلع والعقد ولم يف بما ووقف عليه.
وكان مونس لمّا ظفر بيوسف بن أبي الساج وقبل انصرافه عن أذربيجان قلّد بن وهسوذان أعمال الحرب بالريّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر وسلّمها إليه وجعل أموالها له ولرجاله، وقلّد أحمد بن عليّ صعلوك أعمال المعاون بإصبهان وقم وجعل مال الخراج والضياع بقم وساوة له ولرجاله، مبلغه في كلّ سنة أكثر من مائتي ألف دينار.
ثم وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو معه مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه وهرب في الوقت إلى بلده وكان أحمد بن عليّ أخو صعلوك مقيما بقم، فسار منها إلى الريّ ودخلها فأنكر عليه السلطان فعله، وقلّد وصيف البكتمرى أعمال عليّ بن وهسوذان وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج والضياع وكوتب أحمد بن عليّ بالانصراف إلى قم، ففعل.
ثم جرت بينه وبين محمّد بن سليمان وحشة، فأظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج والضياع عن قم، وأخذ في الاستعداد للمسير إلى الريّ.
وكوتب نحرير الصغير وهو متقلّد همذان بالمسير إلى الريّ والاجتماع مع وصيف البكتمرى ومحمّد بن سليمان على دفع أحمد بن عليّ. وسار أحمد بن عليّ إلى باب الريّ فواقعوه، وانهزم وصيف ونحرير إلى همذان، وقتل محمّد بن سليمان في الوقعة، وحصلت الريّ في يد أحمد بن عليّ، فشرع في إصلاح ما بينه وبين السلطان وعنى به نصر الحاجب فقاطع عن عمال الخراج بالريّ ودنباوند وقزوين وزنجان وو أبهر على مائة وستّة وستين ألف دينار محمولة في كلّ سنة إلى الحضرة، وقلّد الناحية، وقلّد محمّد بن خلف النيرمانى الضياع بهذه النواحي وأخرج أحمد بن عليّ عن قم فقلّد من نظر فيها.
ونعود إلى حديث ابن الفرات.
لمّا تبيّن الوزير أبو الحسن ابن الفرات عداوة نصر الحاجب وأبي القاسم ابن الحوارى وشفيع اللؤلؤي ونسبهم إيّاه إلى مواطأة ابن أبي الساج على العصيان عاداهم ومنعهم أكثر حوائجهم وصرف نصرا وشفيعا عن أكثر أعمالهم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)