كانت لذلك أسباب كثيرة منها أنّ حامدا شرع في تضمن عليّ بن عيسى لمّا فسخ ضمانه لتلك الأعمال والبلدان التي ذكرناها وبذل أن يقوم بالأمور ويدبّر الأعمال. وكان الذي حمله على ذلك ما كان يبلغه من عزم المقتدر بالله على تقليد ابن الفرات لمّا كثر ضجيج الحاشية من عليّ بن عيسى لتأخيره عنهم أرزاقهم وأرزاق الحرم والولد، واقتصر بالخدم والحاشية والفرسان على البعض من استحقاقاتهم وحطّ من أرزاق العمّال شهرين في كلّ سنة ومن أرزاق المنفقين وأصحاب الأجناد والبرد والقضاة أربعة أشهر فزادت عداوة الناس له وخشي حامد بن العبّاس من ابن الفرات لمّا سلف منه إليه ولما عامل به ابنه المحسّن وسائر كتّابه وأسبابه.
فأمره المقتدر أن يكتب رقعة بخطّه بما يضمنه ويبذله وبتسمية من يقلّده الدواوين، ففعل حامد ذلك وعرض المقتدر بالله رقعته على ابن الفرات وهو في حبسه وشرح له أمره.
فقال ابن الفرات:
« لو اجتمع مع حامد بن العبّاس الحسن بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وسائر من شهر بالكفاية لما كان موضعا لتدبير المملكة ولا لضبط أعمال الدواوين وأنّه إن قلّد ذلك انخرقت الهيبة وزالت الحشمة وإن عليّ بن عيسى على تصرّف أحواله أقوم منه وأعرف بالأعمال والتدبير. » ثم إنّه قال:
« أنا أتضمّن خمسة أضعاف ما ضمنه حامد إن أعاده ومكّنه ممّا يريد. » فوعده المقتدر بذلك. وكان حامد مقيما ببغداد لا يدخل نفسه في شيء من الأمور ولا يزيد على أن يحضر في أيّام المواكب وينصرف. وضجر حامد من مقامه ببغداد لقبح حاله في الذلّ، ولأنّه افتضح بما كان يعامله به عليّ بن عيسى في توقيعاته، وذلك أنّه كان يوقّع إلى كتّاب الوزير حامد وإلى كتّاب الدواوين إذا ذكره بما لا صبر له عليه، وكان يوقّع:
« ليطالب جهبذ الوزير - أسعده الله - بحمل وظيفة واسط ».
« وليكتب إلى الوزير - أسعده الله - بأن يبادر بحمل شعير الكراع ».
وإذا تظلّم إليه متظلّم من أعمال حامد وعمّاله وقّع على ظهر رقعة:
« هذا ممّا ينظر فيه الوزير، أسعده الله. » وذكر عليّ بن عيسى أنّه يحتجّ في ذلك برسم قديم كان للوزراء.
فاستأذن حامد المقتدر في الخروج إلى واسط والمقام بها لينظر في أمور ضمانه بنواحيها فأذن له وخرج.
ومنها ما جرى من أمّ موسى وما ذكرناه من خبرها وما تحدّث به الناس من أمر ابن المتوكّل وأنّ ابن الحوارى دبّر ذلك لميل أمّ موسى إليه وكشفها له أسرار الخلافة.
وكان بعض أسباب ابن الفرات طرح رقعة في دار المقتدر فيها بيت شعر:
يهنيك يهنيك هذا ** يا ديك دار الخليفة
ولم يذكر في الرقعة غير هذا البيت وهي أبيات فاحشة ليست فيها أصلح من هذا البيت، وتعمّد أن جعلت الرقعة في ممرّ الخليفة إلى دار حرمة له.
فقرأ المقتدر الرقعة وقبّحت عنده صورة ابن الحوارى جدّا واعتقد فيه ذلك اليوم استحلال دمه وسفكه ونكبة أمّ موسى، ويظنّ أنّ هذا البيت كان من أوكد أسباب نكتبها ونكبته.
ومنها أنّ مفلحا الأسود كان شديد التحقّق بالمقتدر مثابرا على خدمته ثم عظم أمره حتى أقطع الإقطاعات وملّك الضياع الجليلة ووقعت بينه وبين حامد مماحكة وذكر مفلح حامدا بالقبيح وقال حامد:
« لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود وأسمّى كلّ واحد منهم مفلحا وأهبهم لغلماني. » فحقد مفلح ذلك عليه ووقف على ذلك المحسّن وعلى ما يشبه ذلك، فوجّه إلى كاتب مفلح واجتمع معه وضمن له الأعمال والأموال والولايات حتى عقد حالا بينه وبين مفلح.
تضريب من ابن الفرات عند المقتدر

وكتب المحسّن رقعة إلى المقتدر بالله على يد مفلح يذكر فيها أنّه إن سلم منه حامد وعليّ بن عيسى ونصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وابن الحوارى وأمّ موسى وأخوها والمادرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار، وكان أبو الحسن ابن الفرات لا يقصّر وهو في الحبس في التضريب على هؤلاء وإطماع المقتدر فيهم.
وكان من طريف ما عمله وعجيبة أن راسل المقتدر يوما على يدي زيدان القهرمانة يلتمس منه قيمة اثنى عشر ألف دينار أو هذا المقدار دنانير بعينها لشيء من أمره، فتذمّم المقتدر مع ما أخذه من أمواله أن يمنعه. فحملها إليه، ثم سأله أن يدخل إليه إذا اجتاز بموضعه ليلقى إليه شيئا لا تحتمله المكاتبة ولا المراسلة، وكان المقتدر كثيرا ما يدخل إليه ويشاوره فدخل إليه.
فلمّا رآه ابن الفرات قام وأخذ الكيس الذي فيه الدنانير، ففتحه وفرّغه بين يديه وقال له:
« يا أمير المؤمنين قد عرّفتك أن أموالك تنتهب وتضيّع وتقضى بها الذمامات. ما تقول في رجل واحد يرتزق في كلّ شهر من شهور الأهلّة هذا المقدار من مالك وهو اثنا عشر ألف دينار؟ » فاستعظم المقتدر ذلك واستهوله وقال:
« ويحك، من هذا الرجل؟ » قال له: « عليّ بن محمّد ابن الحوارى، وهذا سوى ما يصل إليه من المنافع لمكانه منك وموضعه من الإختصاص بك، وسوى ارتفاع ضياعه وسوى المرافق التي تصل إليه من الأعمال التي يتولّاها وسوى وسوى. » وردّ الدنانير إلى المقتدر بالله وقال:
« إنّما أردت أن تشاهد ما يصنع بك وتراه بعينك فليس الخبر كالمعاينة. » فقام المقتدر بالله وقد عظم عنده أمر ما يجرى واعتقد لابن الحوارى غاية المكروه.
خرج المحبوس وزيرا

فلمّا اجتمعت هذه الأسباب قوى عزم المقتدر على ردّ الوزارة إلى ابن الفرات. فلمّا كان يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الآخر وقد انحدر عليّ بن عيسى إلى دار السلطان قبض عليه وحبس عند زيدان القهرمانة في الحجرة التي كان فيها ابن الفرات، فأخرج منها ابن الفرات ليقلّد الوزارة.
ابن الفرات يتحدث في أيام وزارته الثانية

قال أبو محمّد عليّ بن هشام: كنت حاضرا مع أبي مجلس أبي الحسن ابن الفرات فسمعته يتحدّث في وزارته الثانية قال:
« دخل إليّ أبو الهيثم العبّاس بن محمّد بن ثوابة الأنبارى في محبسى من دار المقتدر بالله فطالبني أن أكتب خطّى بثلاثة عشر ألف ألف دينار. » فقلت: « ما جرى قدر هذا على يدي للسلطان في طول ولايتي فكيف أصادر على مثله؟ » فقال: « إني حلفت بالطلاق أن تكتب خطّك بذلك. » فكتبت بثلاثة عشر ألف ألف من غير أن أذكر ما هي أو ضمانا فيها.
فقال:
« فاكتب دينارا لتبرّئنى من يميني. » فلمّا كتبت دينارا ضربت عليه وأكلت الرقعة وقلت:
« قد برئت عن يمينك ولا سبيل لك إلى غير هذا. » فاجتهد جهده فلم أجبه إلى شيء، فلمّا كان من الغد دخل إلى الحبس ومعه أمّ موسى فطالب بذلك وأسرف في سبّى وشتمي ورمانى بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أنّى ما دخلت في شيء من محظور هذا الجنس منذ نيّف وثلاثين سنة وسمته أن يحلف بمثل ذلك إنّ غلامه القائم على رأسه لم يأته في ليلته تلك. فأنكرت أمّ موسى هذه الحال وغطّت وجهها حياء منه.
فقال لها ابن ثوابة:
« هذا إنّما تبطره الأموال التي وراءه، ومثله في ذلك مثل المزيّن مع كسرى والحجّام مع الحجّاج بن يوسف، فاستأمري السادة في إنزال المكروه به حتى يذعن بالأموال. »
قال أبو الحسن: يعنى بالسادة المقتدر ووالدته وخالته وخاطف ودستنبويه أمّ ولد المقتدر لأنّهم إذ ذاك يدبّرون الأمر معا لحداثة المقتدر.
قال ابن الفرات: فمضت أمّ موسى ثم عادت فقالت لابن ثوابة:
« يقولون لك قد صدقت ويدك مطلقة فيه وكنت في حجرة ضيّقة وحرّ شديد فأمر بكشف البواري حتى صرت في الشمس ونحّى الحصير من تحتي وأغلقت أبواب البيوت حتى حصلت في الشمس ثم قيّدنى بقيد ثقيل وألبسنى جبّة صوف قد نقّعت في ماء الأكارع وغلّنى بغلّ وأقفل باب الحجرة وانصرف فأشرفت على التلف. فلمّا مضت نحو أربع ساعات إذا صوت غلمان مجتازين في الممرّ الذي في الحجرة التي أنا فيها محبوس. » فقال لي الخدم الموكّلون:
« هذا بدر الخادم الحرمي وهو لك صنيعة. » فاستغثت به فصحت:
« يا أبا الخير، الله الله فيّ، لك مكان من السادة ولى عليك حقوق، وقد ترى حالي والموت أسهل عليّ ممّا أنا فيه.
فخاطب السيّدة وذكّرهم حرمتي وخدمتي في تثبيت دولهم إذ خذلهم الناس وافتتاحى البلدان والمنغلقة وإثارتى الأموال المنكسرة فإن كان ذنبي يوجب القتل فالموت أروح. » فرجع إليهم فخاطبهم ورقّقهم ولم يبرح حتى حلّ الحديد كلّه عني ثم أذنوا في إدخالى الحمّام وأخذ شعري وتغيير لباسى وتسليمي إلى زيدان وترفيهى فجاءني مبشّرا بذلك فلم يبرح حتى فعل جميع ذلك وقال:
« يقولون لك: لن ترى بعدها بؤسا. »