ذكر الخبر عن وزارة أبي الحسن ابن الفرات الثالثة

وتقلّد أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الفرات الوزارة الثالثة في ذلك اليوم وخلع عليه واستدعى المقتدر بالله المحسّن ابنه من منزله بسوق العطش فخلع عليه مع أبيه ولم يوصل المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم أبا القاسم ابن الحوارى وظهر أولاد ابن الفرات وأسبابه واستتر بعض أسباب حامد وقبض المحسّن في طريقه على جماعة من أسباب حامد.
وكان أبو عليّ ابن مقلة يتقلّد لعليّ بن عيسى زمام السواد طول أيّام وزارة حامد، فلمّا تقلّد ابن الفرات هذه الوزارة تجلّد ولم يستتر وصار إليه وظهر من إعراض ابن الفرات عنه ما غضّ منه ولم يقبض عليه للمودّة التي بينه وبين ابن الحوارى فلمّا قبض بعد ذلك على ابن الحوارى قبض عليه.
وانتقل ابن الفرات إلى داره الأولى التي بالمخرّم وركب إليه ابن الحوارى ليهنّئه فأطال عنده وآنسه ابن الفرات وشاوره وخلا به فتحقّق به وأظهر السرور بولايته مع ما يبطنه من الخوف الشديد منه.
وكان أسباب أبي القاسم ابن الحوارى قد أشاروا عليه بالاستتار وقالوا له:
« إنّ المقتدر بالله لم يأذن لك عند تقليده ابن الفرات مع علمه بالعداوة بينكما إلّا لسوء رأيه فيك. » فقال ابن الحوارى:
« لو كان كذلك لقبض عليّ قبل تقليد ابن الفرات. » فلمّا كان يوم الاثنين ركب ابن الفرات وركب ابن الحوارى إلى دار السلطان فأذن لابن الفرات ولم يؤذن لابن الحوارى فاستوحش ابن الحوارى.
ثم صرف الأمر إلى ابن الفرات وقد كان شرط على ابن الفرات أن يجريه على رسمه في وزارته الثانية، فإنّه لم يكن يصل مع ابن الحوارى ظاهرا وإنّما كان يصل سرّا. فلمّا خرج ابن الفرات من عند المقتدر بالله وانفرد دخل إليه ابن الحوارى فأقبل عليه وشاوره في جميع أموره وقال:
« قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بها وأريد أن تعاضدنى وتستعمل ما يلزمك بحقّ المودّة. » فتلقّى ابن الحوارى قوله بالشكر وإظهار المناصحة وأنشأ ابن الفرات معه حديثا طويلا ونهض قبل أن يستتمّه ونزل إلى طيّاره وأنزل معه ابن الحوارى وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه ومحمّد بن عيسى صهره وعليّ بن مأمون الإسكافي كاتبه وعليّ بن خلف النيرمانى.
وكان أخوه محمّد بن خلف مصاهرا له وأظهر لجماعتهم الإكرام والإختصاص وما زال يضاحكهم إلى أن حصل في داره. ثم أسرّ إلى العبّاس الفرغاني حاجبه بأن يقبض على ابن الحوارى وجميع أسبابه، فقبض عليهم واعتقلهم في حجرة الدار واستحضر ابن الفرات في الوقت شفيعا اللؤلؤي فأنفذه إلى دار ابن الحوارى ليحفظها من النهب وضمّ إليه جماعة من الفرسان والرجّالة وأمر بمعاملته بالجميل في مطعمه ومشربه وأفردت له دار واسعة وفرشت بفرش نظيف وأفرده عن كتّابه ومن يأنس به وراسله ابن الفرات في المصادرة وتوسّط ابن قرابة بينهما.
وكان ابن قرابة متحقّقا بابن الفرات وشديد الأنس بابن الحوارى، فتقرّرت مصادرته بعد خطاب كثير على سبعمائة ألف دينار في نفسه دون كتّابه وأسبابه واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار لينصرف في أداء مال التعجيل وهو مائتان وخمسون ألف دينار فأطلق وأزيل التوكيل عن دار ابن الحوارى وأسبابه وسلّم جميعها إلى أحمد بن نصر.
وأمر ابن الفرات بكبس مواضع فيها أسباب حامد وكتّابه فأثارهم، وكان المحسّن يسرف في المكروه الذي يوقعه بمن يحصل في يده منهم حتى إنّه أحضر ابن حمّاد الموصلي وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار وسلّمه إلى مستخرجه، فصفعه المستخرج صفعا عظيما فلم يرض المحسّن ذلك وأخرجه إلى حضرته وصفعه على رأسه حتى خرج الدم من أنفه وفمه ومات ولم ينكره المقتدر وقد كان أشفق المحسّن من إنكاره وخافه خوفا شديدا.
فلمّا كان بعد أيّام أنفذ المقتدر إلى المحسّن خلع منادمته وأجرى عليه من الرزق كلّ شهر ألفى دينار زيادة على رزق الدواوين، فضرى المحسّن على مكاره الناس وأسرف المقتدر في استصابة أفعاله إلى أن بلغ الأمر فيه إلى أن غنّى الجواري بحضرته:
أحسن المحسِّن أحسن وكان استتر أبو الحسين محمّد بن أحمد بن بسطام صهر حامد بن العبّاس فاستخرجه واستخرج منه ستين ألف دينار وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار بعد مكروه غليظ وغضبه على خادم يعرف بموج كان مشهورا بالميل إليه وقبض على جماعة فأخذ خدمهم وغلمانهم الروقة وأوقع بهم المكاره.
ذكر الخبر عن قبض الوزير ابن الفرات على حامد بن العباس

كان المقتدر قد شرط على ابن الفرات أن لا ينكب حامدا وأن يناظره على ما يجب عليه من فضل الضمان فإذا وجب عليه شيء بقول الكتّاب والقضاة أخذ بعضه وقال:
« قد خدمني ولم يأخذ مني إلّا رزق سنة واحدة وشرط عليّ أن لا أسلمه لمكروه ولا أدع عليه حقّا. » فاضطرّ ابن الفرات إلى إقراره على أعمال واسط وخاطبه بأجلّ دعاء، ثم عمل له الأعمال واستقصى عليه الحجّة وخرّج عليه أموالا عظيمة وكاتب أصحابه بمطالبته والإلحاح عليه فإن تقاعد بها وكّل به من يطالبه بالمال الواجب عليه للمصالح والبذور إذ كان ممّا لا سبيل إلى تأخيره، فإنّ أمير المؤمنين ليس يأذن في تضمينه مستأنفا.
فأظهر صاحب الوزير ابن الفرات هذا الكتاب في مجلسه وبلغ حامدا الخبر في الوقت فأظهر بواسط أن كتاب المقتدر ورد عليه يأمر فيه بالمسير إلى بغداد وخرج من واسط مع جميع كتّابه وحاشيته ورجّالته وحمل معه من الفرش والآلات والكسوة جميع ما كان يخدم به بعد أن احتاط في أمواله وأمتعته الفاخرة وأودعها عند ثقاته بواسط وضرب عند خروجه بالبوقات وأجلس غلمانه وحاشيته بأسرهم في الزواريق والسميريّات وبادر بخبره على أيدى الفيوج وعلى أجنحة الطير إلى ابن الفرات وقاد دوابّه ودوابّ حاشيته. وأصحابه على الشطّ فوصل خبره إلى ابن الفرات فاستشار ابنه المحسّن ومن يختصّه فيما يعمل به فأشاروا عليه بأن يبادر إلى المقتدر ويقرئه كتاب حامد ففعل ذلك.
وقال المقتدر:
« ما وقفت على ما عمله حامد ولا كتبت بشيء ممّا ادّعاه عليّ. » فقال ابن الفرات:
« فإن كان كذلك فالصواب أن ينفذ نازوك في جمع من الغلمان الحجريّة والفرسان والرجّالة بعضهم في الماء وبعضهم في الظهر حتى يقبض على حامد وأسبابه. » فأذن له في ذلك فانصرف ابن الفرات إلى داره وأنفذ نازوك وتقدّم إليه بالمبادرة حتى يقبض على حامد وعلى أسبابه حتى لا يفوته أحد منهم.
فسار نازوك وأخطأ بأن قبض على أوّل من لقيه من أسباب حامد وعلى دوابّه وغلمانه وبلغ حامدا خبره فاستتر من الطريق ونهب أسباب نازوك بعض ما كان مع القوم من الأمتعة واستظهر نازوك على الكتب والحسبانات والأعمال وصار بالجميع إلى الحضرة.
فأمر المقتدر بتسليم جميع الكتب والأعمال إلى ابن الفرات وفرّق الأمتعة في خزائنه والدوابّ في اصطبلاته، ووجد ابن الفرات في الكتب المحمولة إليه عجائب من كتب من تقرّب إليهم فقبض عليهم، وكان حين ورد كتاب حامد بالمسير من واسط واستظهر بالتوكيل بجهبذه إبراهيم الذي كان بالحضرة.
فلمّا تمّ قبض نازوك على أسباب حامد أمر ابن الفرات هشاما بالرفق بهذا الجهبذ مرّة وبالغلظة أخرى ويسأل عن ودائع حامد، ففعل هشام به ذلك فأقرّ عفوا أنّ لحامد عنده مائة ألف دينار عينا ثم حلف على أنّه ليس عنده لحامد ولا لأحد من أسبابه وديعة غيرها. فآمنه ابن الفرات على نفسه وأن لا يسلّمه إلى المحسّن ولم يطلع ابن الفرات المقتدر بالله على خبر هذه المائة الألف إلّا بعد أن تسلّم حامدا.
وانتشر الخبر في رجب أنّ حامدا إنّما استتر لأنّ المقتدر كتب إليه ينكر خروجه من واسط على تلك الحال التي خرج عليها ويأمره أن يستتر ويوافى بغداد حتى يتوثّق منه ويأخذ خطّه بما بذل أن يضمن به ابن الفرات والمحسّن وكتّابهما وأسبابهما ليسلّم الجماعة إليه فاستتر المحسّن والفضل والحسين والحسن أولاد أبي الحسن ابن الفرات وحرمهم وأكثر الكتّاب ولم يبق في دار ابن الفرات من كتّابه الذين يحضرون مجلسه إلّا أبو القاسم ابن زنجي وحده.
وكانت مدّة سعادة حامد قد انقضت فصار إلى دار السلطان في زيّ الرهبان ومعه يونس خادمه وصعد إلى دار الحجبة التي فيها نصر الحاجب فاستأذن له فارس بن رنداق على نصر وقال:
« حامد بن العبّاس قد حضر الباب وهو يستأذن على الأستاذ. » فقال:
« قل له يدخل. »
فلمّا دخل قال له قبل أن يجلس:
« إلى أين جئت؟ » قال: « جئت بكتابك. » فقال له:
« فإلى هاهنا كتبت إليك أن تجيء. » ولم يقم له، واعتذر إليه أنّه تحت سخط الخليفة، ووجّه نصر إلى مفلح يسأله الخروج إليه، وكان مفلح يتولّى الاستئذان على المقتدر إذا كان عند حرمه. فخرج مفلح وكلّمه نصر في أمر حامد وقال له:
« هو في هذا الوقت في حال رحمة ومثلك من استعمل معه الجميل ولم يؤاخذه بما كان منه في تلك الأمور. » ثم قال حامد لمفلح:
« تقول لمولانا أمير المؤمنين عني، بأنّى أرضى أن أكون معتقلا في دار أمير المؤمنين كما اعتقل فيها عليّ بن عيسى ويناظرني الوزير والمحسّن والكتّاب بحضرة الفقهاء والقضاء ووجوه القوّاد، فإن وجب عليّ مال خرجت منه بعد أن أكون مالكا لاستيفاء حججي ومحروسا في نفسي ولم يمكّن المحسّن من دمى فيجازينى على المكاره التي كنت أوقعها به في طاعة مولانا أمير المؤمنين وهو شابّ وأنا شيخ قد بلغت هذه السنّ العالية واليسير من المكروه يتلفنى. » فوعده مفلح بذلك ودخل على المقتدر بالله فخاطبه في أمره بضدّ ما وعده به، فتكلّمت السيّدة في أمر حامد وقالت:
« لا يضرّ أن يعتقل في الدار ويناظر حتى تحرس نفسه. »
فقال مفلح:
« إن فعل هذا لم يتمّ لابن الفرات عمل، لأنّ الأراجيف قد كثرت به وخربت الدنيا وبطلت الأموال. » فقال المقتدر لمفلح:
« صدقت. » وأمره أن يخرج إلى نصر فيأمره أن ينفذ حامدا إلى ابن الفرات. فخرج مفلح إلى نصر بذلك فأخذ نصر يطيّب نفس حامد بأن يقول:
« لا بدّ من أن تصير إلى حضرة الوزير مع ثقة لي ثم أردّك إلى دار أمير المؤمنين. » فالتمس حامد من نصر ثيابا يغيّر بها ما عليه من زيّ الرهبان، فامتنع مفلح من الإذن له في ذلك وقال:
« قد أمرنى مولاي أن أوجّه به في الزيّ الذي حضر فيه. » فما زال نصر يشفع له حتى أذن له في تغيير زيّه وأنفذه مع ابن رنداق الحاجب وبادر مفلح بإنفاذ كاتبه إلى ابن الفرات يبشّره بحصول حامد وما أمر به المقتدر من تسليمه إليه.
وكان ابن الفرات على قلق وانزعاج لمّا وقف على حصول حامد في دار السلطان واستتر كتّابه وأولاده كلّهم. فلمّا جاءته رسالة مفلح سكن بعض السكون وصلّى الظهر وجلس وليس بين يديه غير ابن زنجي وهو ينظر في العمل نظرا خفيفا إلى أن ذكر بعض الغلمان أنّ طيّارا من طيّارات الخدمة قد أقبل، ثم قدّم عند درجة داره وبادر البوّابون بخبره ودخل ابن الرنداق ومعه حامد بن العبّاس فلمّا رآه ابن الفرات قال له:
« لم تركت عملك وجئت؟ » قال: « بكتابك جئت. »
قال: « فلم لم تقصد دارى إن كنت جئت بكتابي؟ » قال: « حرمت التوفيق. » ولم يزل يخاطبه بالكاف من غير ذكر الوزارة. وأخرج ابن الرنداق رقعة نصر الحاجب إلى الوزير بإنفاذ حامد إليه فألقاها إلى ابن زنجي وقال:
« اكتب بوصوله. » فكتب وسلّم الجواب إلى ابن رنداق فنهض من المجلس. فلمّا انصرف ضعفت نفس حامد وأقبل يخاطب ابن الفرات بالوزارة ولان كلامه وبان فيه الخضوع.
وأمر ابن الفرات يحيى بن عبد الله قهرمان داره بأن يفرد لحامد دارا واسعة في داره، ويفرشها فرشا حسنا ويتفقّده في طعامه وشرابه وطيبه، حتى يخدم بمثل ما كان يخدم به وهو وزير، وأن يقطع له كسوة فاخرة ويجعل معه لخدمته إذا كان خاليا خادمين أسودين أعجميين، وأمره أن يؤنسه عند الأكل وأن يخدمه في تلك الحال من الخدم والفرّاشين من يوثق به. ففعل يحيى ذلك.
ذكر ما عومل به حامد وما عمله هو

دخل إلى حامد وقت العصر من ذلك اليوم عبد الله بن فرجويه وأحمد بن الحجّاج بن مخلد صهر موسى بن خلف وقد كان حامد استعمل معهما في أيّام وزارته من المكاره ما لم يسمع بمثله قطّ. فوبّخاه على ما فعل بهما فجحد أن يكون رآهما أو وقع بصره عليهما. فلمّا أكثرا عليه قال لهما:
« قد أكثرتما عليّ، وأنا أجمل القول لكما. إن كان ما استعملته من الأحوال التي تصفان وما عاملت الناس به قد أثمر لي خيرا فاستعملا مثله وزيدا عليه، وإن كان قبيحا وهو الذي أصارونى إلى أن تمكّنتم مني فتجنّبوه.
فإن السعيد من وعظ بغيره. » فذهبا وأعادا ذلك على ابن الفرات فاسترجح حامدا وقال: