لام لابن الفرات في وزارة الخاقاني

فقال هذا الكاتب وهو الملقّب بالجمل: كنت أدخل إلى ابن الفرات في كلّ يوم لتفقّد أحواله. فكنت أجده أقوى الناس نفسا وأصبرهم على نوائب الدهر. قال:
ولقد سألنى: عمّن تقلّد الوزارة.
فعرّفته أنّه أبو القاسم بن أبي على الخاقاني.
فقال: « السلطان نكب وما نكبت أنا. » وسألنى: « عمّن تقلّد الديوان - يعنى ديوان السواد، فقلت:
« محمّد بن جعفر بن حفص. »
فقال: « رمى بحجره. » وسألنى: عمّن تقلّد باقى الدواوين.
فعرّفته أنّهم يحيى بن نعيم المالكي ومحمّد بن يعقوب المصري وإسحاق بن عليّ القنّاى. فقال:
« لقد أيّد الله هذا الوزير بالكفاة. »
مناظرة ابن الفرات لاستخراج ماله

وكان المناظر لابن الفرات ابن بعد شر فرفق به فوعده أن يتذكّر ودائعه ويعرّفه إيّاها فعاوده بالرفق فأقرّ أنّ له عند التجّار مائة وخمسين ألف دينار.
وكان المقتدر رسم أن يكون مال مصادرة ابن الفرات وحده يحصّل في بيت المال الخاصّة ومال مصادرة أسبابه في بيت مال العامّة.
ولمّا استخرج ما ذكره ابن الفرات من التجّار أعاد ابن بعد شر مطالبة ابن الفرات، فذكر أنّه لم يبق له مال فأوقع به مكروها يسيرا، ولم يكن ابن الفرات ممّن يستجيب بالمكروه فتقاعد وامتنع دفعة واحدة من أداء شيء.
فمضى هارون بن غريب إلى المقتدر وعرّفه أن الخاقاني جنى على السلطان بتسليمه ابن الفرات إلى ابن بعد شر وأنّه كان ينبغي أن يرفق به ويداريه، فإنّه ممّن لا يستجيب بالمكروه. فتقدّم المقتدر إلى الخاقاني بأن تكون مناظرة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب وأن يرفق به. وكان ابن بعد شر قد ضيّق على ابن الفرات في مطعمه ومشربه حتى أنّه أدخل إليه خبز خشكار وقثّاء وماء الهواء، فوجّه إليه بطعام واسع وشراب وثلج كثير وفاكهة واعتذر إليه عمّا جرى وحلف أنّه لم يعلم بما عومل به.
ثم إنّ الخاقاني راسله على يد خاقان بن أحمد بن يحيى برفق ومداراة بأن يقرّ بماله ولا يلاجّ السلطان فليس ذلك بمحمود. فأجابه بأن قال:
« قل للوزير ليست حدثا غرّا فتحتال عليّ في المناظرة، ولست أقول إني لا أقدر على المال ولكن إذا وثقت لنفسي بالحياة فديتها بالمال.
وإنّما أثق بذلك إذا كتب أمير المؤمنين بخطّه لي أمانا وشهد الوزير والقضاة بخطوطهم ويكتب لي الوزير أيّده الله أمانا بخطّه ويسلّمنى إلى أحد رجلين:
إمّا مونس المظفّر وإن كان عدوّى وإمّا شفيع اللؤلؤي فإن لم يفعل ذلك فقد وطّنت نفسي وعلى التلف. » فوجّه إليه الخاقاني:
« بأنّى لو قدرت على التوثّق لك لتوثّقت، ولكن إن تكلّمت في هذا المعنى عاداني خواصّ الدولة لأجلك، ثم لم تنتفع أنت بذلك وقد ردّ الخليفة أمرك إلى هارون بن غريب. » فتواعدوا إلى دار الخاقاني بالمخرّم واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته فتماتن ابن الفرات. فبدأ ابن بعد شر يسمعه المكروه فأنكره هارون وزبره وقال:
« بهذا تريد أن تستخرج مال ابن الفرات؟ » وأقبل هو على ابن الفرات وداراه وخاطبه بجميل وقال له:
« أنت أعرف بالأمور من كلّ من يخاطبك والخلفاء لا يلاجّهم وزراؤهم إذا سخطوا عليهم. » فقال له ابن الفرات:
« أشر عليّ أيّها الأمير فإنّ من كان في مثل حالي عزب عنه الرأي. » فلم يزل معه في مناظرات إلى أن أخذ خطّه بمصادرة ألفي ألف دينار على أن يعجّل منها الربع وعلى أن يحتسب له من الربع بما أدّاه وما أخذ بعد ذلك ممّا لعلّه استخرج من ودائعه بغير إقرار منه ويطلق له بيع أملاكه وما يستبيع من ضياعه وأمتعته وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان ويطلق الكلوذانى ليتصرّف في جمع أمواله ويطلق له الدواة ليكاتب من يرى مكاتبته فأخذ هارون بن غريب خطّه بجميع ما كتب به وحمله إلى المقتدر بالله.
ذكر اتفاق سيء اتفق على المحسن حتى ظفر به وصودر وقتل

كان المحسّن استتر عند حماته حنزابة وهي حماته ووالدة الفضل بن جعفر بن الفرات فكانت تحمله كلّ يوم، بكرة إلى المقابر في زيّ النساء وتردّه إلى المنازل التي يثق بها بالليل.
فمضت به يوما إلى مقابر قريش في زيّ النساء على رسمه وأمست فبعد عنها الطريق إلى الكرخ فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تثق بها ليس معها رجل لأنّ زوجها مات منذ سنة. فصارت حنزابة مع النسوة والمحسّن إلى هناك فقالت لصاحبه الدار:
« إنّ معنا امرأة لم تتزوّج بعد، وقد عادت من مأتم وضاقت عليها فأفردى لها بيتا. »
فأفردت لها بيتا في صفّة وأدخلت إليه المحسّن ثم ردّت عليه الباب وجلس النسوة مع المحسّن في البيت. فجاءت جارية سوداء بسراج معها فوضعته في الصفّة وأدخلت حنزابة إلى المحسّن بسويق وسكّر وكان المحسّن قد نزع ثيابه فاطّلعت الجارية السوداء من حيث لا يشعر المحسّن ولا حنزابة في البيت، وعلمت أنّه رجل، فانصرفت وأخبرت مولاتها.
فلمّا جنّ الليل جاءت مولاتها وطالعت البيت فرأت المحسّن وكان ذلك من نحس المحسّن وخذلان الله إيّاه، لأنّ تلك المرأة كانت زوجة لمحمّد بن نصر وكيل عليّ بن عيسى وكان المحسّن طلبه فأدخل إلى ديوانه فرأى ما يلحق الناس من المكاره بحضرة المحسّن فمات من الفزع فجأة من غير أن يكلّمه المحسّن.
فمضت المرأة في الوقت إلى دار السلطان حتى وصلت إلى دار نصر الحاجب وشرحت له الصورة فأنهى نصر الحاجب الخبر إلى المقتدر بالله، فتقدّم بالبعثة إلى نازوك ليركب إلى الموضع ويقبض على المحسّن.
فركب نازوك من وقته إلى الموضع وكسبه وقبض على المحسّن، وضربت الدبادب لذلك نصف الليل عند الظفر به حتى ارتاع الناس ببغداد وظنّوا أنّ القرمطي قد كبس بغداد.
وحمل المحسّن إلى دار الوزارة بالمخرّم وتسلّمه ابن بعد شر [ وجرّعه ] في وقته مكروها عظيما وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار. وحضرت هارون بن غريب دار المخرّم وناظر المحسّن فوعده أن يتذكّر وودائعه ويقرّ بها ولحقه في يومين متواليين مكروه عظيم فلم يذعن بدرهم واحد وقال:
« ليس يجمع بين نفسي ومالي. »
وحضر بعد ذلك هارون بن غريب ومعه شفيع اللؤلؤي وأحضر المحسّن والكتّاب وابن بعد شرّ وناظر المحسّن وأوقع به مكروها عظيما وقال له:
« هبك لا تقدر أن تؤدّى المال الذي أخذ خطّك به لا تقدر أن تؤدّى مائة ألف دينار. » فقال له:
« بلى إذا أمهلت وزال عني المكروه. » فقال له:
« نحن نمهلك فاكتب خطّك بمائة ألف دينار. » وكتب بذلك خطّه وأنّه يؤديها في مدّة ثلاثين يوما.
فلمّا قرأ هارون بن غريب الرقعة قال:
« كأنّك ترجو أن تعيش ثلاثين يوما. » فخضع له المحسّن وقال له: « أفعل ما يأمر به الأمير. » قال: « أكتب بأنّك تؤدّيها في مدّة سبعة أيّام. » فارتجع الرقعة ليكتب بدلها. فلمّا حصلت في يده مضغها وبلعها وامتنع أن يكتب غيرها. فقيّد وغلّ وألبس جبّة صوف وضرب على رأسه بالدبابيس على أن يكتب ما كان كتبه فلم يكتب، فأعيد إلى محبسه وعذّب فيه بأنواع العذاب فلم يذعن بدرهم واحد.
الخاقاني يناظر ابن الفرات

فلمّا كان بعد ذلك حضر الأستاذ مونس ونصر الحاجب والقضاة والكتّاب مجلس الوزير الخاقاني وأحضر أبو الحسن ابن الفرات وناظره الخاقاني ولم يكن الخاقاني من رجاله، فكاد أبو الحسن ابن الفرات أن يأكله فكان فيما قال له:
« إنّك استغللت ضياعك في مدّة أحد عشر شهرا ألف ألف دينار. » فقال: « قد كانت هذه الضياع في يد عليّ بن عيسى عشر سنين أيّام وزارته وأيّام وزارة حامد بن العبّاس وما ارتفع له منها إلّا أربعمائة ألف دينار فقد ادّعيت لي المعجزات. » فقال له:
« أضفت حقوق ضياع السلطان إلى ضياعك. » فقال: « الدواوين لا يمكن أن يكتم ما فيها فتنظر في ارتفاع النواحي السلطانية في أيّام نظري فيها وفي ارتفاعها أيّام عليّ بن عيسى ووزارة حامد بن العبّاس ووزارة أبيك التي دبّرتها أنت حتى تعلم هل زادت ارتفاع ضياع السلطان في أيّامى أم نقصت. » ونوظر فيمن قتل وشنّع عليه بهم فقال:
« ليس يخلو من ذلك من أحد أمرين: إمّا أن يقال إني أنا قتلتهم فلم أغب عن الحضرة والقتل لا ينسب إليّ والمدّعى قتله بالبعد منها، وإمّا أن يقال كتبت خطّك بقتلهم وهؤلاء أصحاب المعاون وثقات السلطان وعمّال الخراج ووجوه متصرّفى عمّال السلطان قد حكّمتهم على نفسي. » فقيل له:
« قد قتلهم ابنك. » فقال: « أنا غير ابني وأنتم تناظروننى. »
فقال له ابن بعد الشرّ:
« إذا قتل ابنك الناس فأنت قتلتهم. » فقال له ابن الفرات:
« هذا غير ما حكم الله ورسوله، فإنّه عز وجل يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وقال النبي لرجل من أصحابه: أهذا ابنك؟
فقال: نعم. قال: أما إنّه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، ومع هذا فهو في أيديكم سلوه فإن وجب عليه قود بادّعاء قتل في موضع ناء عنه يقال فيه إنّ غيره تولّى قتله فالحكم في هذا معروف. » فتحيّر القوم في الجواب.
فقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب:
« إن رأى الحاجب أن يقول له حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أدّيت وإلّا سلّمتك إلى المحسّن، أكنت تسلّمه ليسقيه السويق والسكّر أو ليعذّبه؟ ومن أطلق التعذيب فقد أطلق القتل، لأنّ الإنسان قد يتلف بمقرعة واحدة يضرب بها فضلا عن غيرها. » فخاطبه نصر بذلك فقال في الجواب:
« إنّ الخليفة أطال الله بقاءه ولّى المحسّن وأنا إذ ذاك محبوس وهو مطلق فضمن ما ضمنه وجرى ذلك على يد مفلح وتوسّطه جماعة من ثقات السلطان. ثم لمّا تقلّدت الأمر كنت أحبّ الرفق بالناس وإذا ناظرتهم ورفقت بهم لم يذعنوا بما يلزمهم فإذا أقاموا على الامتناع سلّمتهم إلى من نصبه السلطان وأمر بتسليمهم إليه. » فقال له مونس:
« كأنّك تحيل على الخليفة في قتل الناس فإنّ الخليفة قال: ما أمرت بقتل أحد سوى ابن الحوارى فقط. » ثم أقبل نصر عليه فقال له:
« معي رسالة من الخليفة إليك فتسمعها وتجيب عنها. » قال: « وما هي؟ » قال: « يقول: سلّمت إليك قوما بمال ضمنته لي وأريد منك أحد أمرين:
إمّا وفّيتنى المال أو رددت عليّ القوم. » فقال ابن الفرات:
« أمّا المال فقد صحّ في بيت المال، وأمّا الرجال فما ضمنت أرواحهم ولا بقاءهم وقد تلفوا حتف آنافهم. » فقال له مونس المظفّر:
« هب أنّ لك في كلّ شيء عذرا وحجّة، أيّ عذر لك في إخراجى إلى الرقّة حتى كأنّى من العمّال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ » قال: « أنا أخرجتك؟ » قال: « فمن أخرجنى؟ » قال: « مولاك أمرنى بإخراجك. » قال: « مولاي لم يأمر بذلك. » قال: « معي حجّة بخطّه كتب إليّ رقعة احتفظت بها لأنّها بخطّه يشكو فيها أفعالك وقتا بعد وقت وفتحك البلدان بالمؤمن الغليظة ثم إغلاقك إيّاها بسوء تدبيرك وآثارك القبيحة. » قال: « وأين الرقعة؟ » قال: « في أيديكم في جملة المهمّات التي أمرت بحفظها في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطّى بالتحفّظ به من المهمات وفيها الأمر بإخراجك إلى الرقّة والتوكيل بك حتى تخرج. » فأمر الخاقاني بإحضار السفط فوجده مختوما بخاتم ابن الفرات ووجد فيه الرقعة بعينها وفيها جميع ما ذكر ابن الفرات بخطّ المقتدر فأخذها.
ومضى مونس من وقته إلى المقتدر حتى لقيه وأقرأه الرقعة فاغتاظ المقتدر على ابن الفرات غيظا شديدا، فأمر هارون بضربه بالسوط. فمضى هارون حتى ضرب ابن الفرات بين الهنبازين خمس درر فقط وقال له:
« يا هذا أذعن بمالك. » فأعطى خطّه بعشرين ألف دينار وقال:
« هذا مالي. » ثم أخرج المحسّن في الوقت فضربه ضرب التلف، فلم يذعن بشيء بتّة.
فصار هارون بن غريب إلى المقتدر بالله واستعفى من مناظرة ابن الفرات وابنه وقال:
« هؤلاء قوم ليس في عزمهم أن يؤدّوا شيئا البتّة وقد استقتلوا. » فأمر بتسليمهما إلى نازوك وبسط المكروه عليهما فأوقع نازوك بالمحسّن أنواع المكاره حتى تدوّد بدنه ولم يبق فيه فضل لمكروه. وضرب أبا الحسن ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يذعن بدرهم واحد.
واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني الوزير وقال له:
« ما رأيت شيئا ممّا ضمنته من أموال ابن الفرات وابنه صحّ. » فقال: « لأنّه لم يترك والتدبير. » وإنّ ابن الفرات لمّا عدل به عن مناظرة الكتّاب وسلّم إلى أصحاب السيوف يئس من الحياة فضنّ بالمال ونظر إليه ابنه فاقتدى به. » وقال نازوك للمقتدر:
« قد انتهيت بهؤلاء القوم من المكاره إلى الغاية حتى إنّ المحسّن مع ترفه قد تدوّد بدنه وصبر بعد ذلك على مكاره عظام لم يسمع بمثلها وقد مضت له الآن أيّام لم يطعم طعاما وإنّما يشرب الماء شربا يسيرا وهو في أكثر أوقاته مغشيّ عليه. » فقال المقتدر بالله:
« إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من حملهما إلى دارى. » فأظهر مونس والجماعة:
« إنّ الصواب في ذلك. » وقال الخاقاني:
« قد وفّق الله أمير المؤمنين. » وخرجت الجماعة من حضرته.
فأسرّ الخاقاني إليهم وهم بعد مجتمعون في دار السلطان وقال:
« إن حمل ابن الفرات إلى دار الخليفة بذل أسبابه عنه وعن ابنه الأموال، وإذا وثق مع ذلك بالخليفة وحصل في داره أخرج أمواله وتوثّق لنفسه ولابنه، فإذا أمن على نفسه تضمّن الجماعة وحمل الخليفة على تسليمها إليه ويطمعه في أن يوفّر أرزاقها وإقطاعاتها وضياعها ويجمع له أموالا جليلة خطيرة. والوجه أن يقع التجمّع من القوّاد واليمين على أنّهم إن وقفوا على أنّ ابن الفرات وابنه حملا إلى دار الخليفة خلعوا الطاعة. » فقال مونس:
« هذا شيء إن لم نفعله لم يصف لنا عيش. » وتجرّد لهذه الحال هارون بن غريب ونازوك فجمعا القوّاد ووجوه الغلمان الحجريّة وكان يلبق يستحلفهم.
ذكر مقتل أبي الحسن ابن الفرات وابنه المحسن

ثم اجتمعوا بأسرهم إلى مونس ونصر وأظهروا ما في نفوسهم. فأشار مونس بأن يلتمس القوّاد نقل ابن الفرات وابنه إلى دار مونس فإن مات المحسّن استبقى أبوه. فقال له هارون بن غريب:
« إذا مات المحسّن لم يصلح أن يستبقى أبوه وكيف يوثق به وقد قتل ابنه حتى يؤمن على الملك؟ » ثم كاشفوا المقتدر بالله وقالوا بأجمعهم:
« إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء بأسرهم الطاعة. »
وواصل هارون بن غريب مخاطبة المقتدر في قتل هذين وقال:
« ليست آمن أن يجتمع الأولياء على البيعة لبعض بنى هاشم، ثم لا يتلافى الأمر. » وأرادت الجماعة من الوزير الخاقاني التجريد في ذلك فقال:
« لست أدخل في سفك الدماء وإنّما أشرت بألّا يحملا إلى دار السلطان، فأمّا قتله فخطأ، لأنّه ليس ينبغي أن يسهّل على الملوك ولا يحسّن لهم قتل أحد، فإنّهم متى فعلوا ذلك خفّ عليهم قتل خواصّهم حتى يأتوا عليهم بأدنى ذنب وخطإ يكون منهم. » فلمّا كان يوم الأحد لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر قدّم إلى ابن الفرات طعامه فأمر برفعه وقال:
« أنا صائم. » وحضر وقت الإفطار فقدّم إليه لمّا حضر وقت الطعام فقال:
« لست أفطر الليلة. » فحضر عنده من اجتهد به أن يفطر فقال:
« أنا مقتول في غد لا محالة. » فقيل له: « أعيذك بالله. » فقال: « بلى رأيت البارحة أخي أبا العبّاس رحمه الله في النوم وقال لي:
أنت تفطر عندنا يوم الاثنين بعد غد وما قال قطّ في النوم شيئا إلّا صحّ وغدا الاثنين وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن عليّ صلوات الله عليه. » فلمّا كان من الغد وهو يوم الاثنين انحدر الناس إلى دار الخليفة، فلم يصلوا فكتب هؤلاء الرؤساء بقتل ابن الفرات وابنه فأجابهم المقتدر أن:
« دعوني أنظر في ذلك. » فكتبوا إليه: أنّه إن تأخّر قتل ابن الفرات وابنه عن هذا اليوم جرى على المملكة ما لا يتلافى.
وكتب المقتدر إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما ويحمل رؤوسهما إلى حضرته فقال نازوك:
« هذا أمر عظيم لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع. » فأمر المقتدر الأستاذين والخدم بالخروج إليه برسالته بإمضاء ما كتب به فخرجوا إليه بذلك فقال:
« لا أعمل على رسالة ولا بدّ من مشافهة بذلك. » وابن الفرات يراعى الخبر فلمّا قيل له إنّ الناس قد انصرفوا وإنّ نازوك انصرف إلى منزله سكن قليلا ثم قيل له:
إنّ نازوك قد عاد إلى دار السلطان.
فاضطرب جدا وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم فجلس في الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلا فيها ووجّه بعجيب خادمه ومعه السودان حتى ضرب عنق المحسّن وصار برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه فارتاع لذلك ارتياعا شديدا وعرض هو على السيف فقال لنازوك:
« يا با منصور ليس إلّا السيف؟ راجع أمير المؤمنين في أمري فإنّ لي أموالا عظيمة وودائع كثيرة وجواهر جليلة. » فقال له نازوك:
« قد جلّ الأمر عن هذا. »
وأمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس ابنه إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما، فغرّقا في الفرات وغرّقت الجثتان في التمارين ببغداد.
وكانت سنّ أبي الحسن ابن الفرات رحمه الله يوم قتل إحدى وسبعين سنة وشهورا وسنّ ابنه المحسّن ثلاثا وثلاثين سنة.
حكم المنجم في ابن الفرات وابنه

وقد كان حكم العاصمي المنجّم في تلك السنة أنّه يخاف فيها على ابن الفرات نكبة وتلفا بالسيف وذكر ذلك في مولده الذي كان بين يديه، وحكم على مولد المحسّن أنّ عمره ثلاث وثلاثون سنة، فصحّ حكمه.
إطلاق القرمطي الحاج الأسرى عنده

وفي هذه السنة ورد كتاب الفارقي من البصرة يذكر أنّ كتاب أبي الهيجاء ابن حمدان ورد عليه من هجر يذكر أنّه كلّم أبا طاهر القرمطي في أمر من استأسر من الحاجّ وسأل إطلاقهم فوعده بهم وأنّه أحصى من عنده منهم فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين رجلا ومن النساء نحو خمسمائة امرأة.
ثم وردت الأخبار بورود قوم بعد قوم إلى أن كان آخر من ورد منهم أبو الهيجاء وأحمد بن بدر عمّ السيّدة. وقدم بقدوم أبي الهيجاء رسول أبي طاهر القرمطي يستدعى الإفراج عن البصرة والأهواز ونواح أخر فأنزل الرسول وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة ثم صرف ولم يقع إجابة إلى شيء ممّا التمس.
عدة حوادث