قال أبو مخلد عبد الله بن يحيى:
وكنت في الموكب فنظر بعض الناس إلى بعض ولم ينطق أحد منهم بحرف ومرّ الشيخ كالريح، ثم قال الناس:
« لم لا نتبعه ونستعيده الحديث ونسأله من أين علم أو نأخذه ونمضي به إلى مرداويج لئلّا يبلغه الخبر فيلومنا على تركه. » فركضوا يمينا وشمالا إلى كلّ طريق وسبيل في طلبه فلم يوجد وكأنّ الأرض ابتلعته.
ثم عاد مرداويج ولم يلو على أحد ودخل داره ونزع ثيابه، ثم دخل الحمّام وأطال، وكان كورتكين قريبا منه وخصّيصه يحرسه ويراعيه في خلواته وحمّامه فأمره أن لا يتبعه وتأخّر عنه مغضبا فتمكّن منه الأتراك وهجموا عليه في الحمّام فقتلوه بعد أن مانع عن نفسه وقاتل بكرنيب فضّة كان في يده، فشقّ بعض الأتراك بطنه. فلمّا خرجت حشوته ظنّ أنّه قد قتله فلمّا خرج إلى أصحابه قالوا له:
« أين رأسه؟ » فعرّفهم أنّه قد شقّ بطنه. فلم يرضوا بذلك وعاوده لحزّ رأسه فوجدوه قد قام على سريرين في الحمّام وردّ حشوة بطنه وأمسكها بيده وكسر جامة الحمّام وعاونه قيّم الحمّام وهمّ بالخروج من ذلك الموضع إلى سطح الحمّام.
فلمّا رأوه كذلك حزّوا رأسه فظهر أمره بين الظهر والعصر بخروج الأتراك الذين كانوا معه إلى رفقائهم وإخبارهم إيّاهم بخبره وركوبهم إلى الإصطبلات للنهب.
وفيها ارتفع ذكر أبي جعفر بن شيرزاد وعنى به عليّ بن عيسى.
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ ابن شيرزاد كان يكتب لهارون بن غريب وينظر في جميع أموره. فأطمع هارون فيه وقرّف بجنايات عظيمة فقبض عليه يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وسلّمه إلى خادمه مونس وأمره بالتضييق عليه ومنعه من الدواة فتأخّرت رقعته عن أخيه أبي الحسن زكريّا.
وكان يكتب للخالة على ديوان ضياعها. فعرف الخالة صورة أخيه فشكت الخالة ذلك إلى السيدة فوجّهت السيدة بخادم لها إلى هارون حتى انتزعه من يده وحمله إلى دار السلطان وتقدّمت بإطلاقه.
وخاطب هارون بن غريب عليّ بن عيسى في أمر ابن شيرزاد وقال له:
« قد كان اقترض مني للخاقانى أموالا كثيرة وأخذ بها تسبيبات وفاز بها وقد عمل له المومّل كاتبي بمال عظيم وأنا أرضى بنظر ثقة من ثقات الوزير
في العمل. » فتقدّم الوزير عليّ بن عيسى إلى أبي يوسف كاتب السيّدة بالمصير إلى دار هارون وحضر المؤمّل وكتّابه فنظروا في العمل.
فكان أوّل باب فيه أنّه وجد في دفتر من دفاتر ديوانه ثبت ما قبض من التسبيبات التي سبّبها الخاقاني لابن شيرزاد من مال القروض التي اقترضها من مال هارون بن غريب.
وقد حكى فيه أنّه قبض خمسة عشر ألف دينار وأنّه لم يجد هذا المال في ختمات الجهبذ الثابتة في الديوان. وكان كاتب ابن شيرزاد على ذلك الديوان ابن أبي الميمون، فقال ابن أبي الميمون:
« قد صحّ في ختمة الجهبذ ومع صاحبي خطّ الأمير بقبضه إيّاه، لأنّه حمله إلى حضرته وصرفه في ثمن دار المحسّن التي ابتيعت من وكيل الخليفة في وزارة أبي القاسم الخاقاني. » فأخرجت الختمة بعينها فوجد ذلك فيها. ووجد محرّر هذه الختمة قد كتب هذا المال كأنّه تفصيل المال المتقدّم وكان سبيله أن يكون مخرجا بارزا عن التفصيل الأوّل. فوجد أبو يوسف ومحمّد بن جني الأمر على ما قال كاتب ابن شيرزاد وأخرج ابن شيرزاد خطّ هارون بن غريب بصحّة هذا المال منسوبا إلى تلك الجهة وأنّه أدّى في بيت المال لثمن الدار وأحضر قبض صاحب بيت المال به.
ثم نظر في الباب الثاني أنّ المطلق للفرسان في عسكر هارون من مالهم فيه الربع الدراهم تساوى ستّة عشر درهما بدينار وأنّه لم يضع الصرف من مال الرجال وأنّه يلزمه منه في مدّة ولايته كتابة هارون نيّف وعشرون ألف دينار، فأخرجوا الختمات فوجدوا الجهبذ قد احتسب بما صرفه في أعطيات الرجال ورقا من غير أن يوضع منه شيء لفضل الصرف. فاحتجّ كاتب ابن شيرزاد بأنّ فضل الصرف في ختمة تورد في أصول الأموال في آخر باب من أبواب الأصول وهو ما يتوفّر من هذا الباب وغيره من سائر نفقات هارون بن غريب فأخرج ذلك من الختمات.
فلمّا بطل هذان البابان وهما معظم ما كان في العمل نهض أبو يوسف ومحمّد بن جني وقام معهما ابن شيرزاد وأقبل عليه هارون فقال:
« قد هتكني كاتبي هذا الجاهل الناقص قبّحه الله وقد جنيت على نفسي بصرفك ولكن إن تصرّفت لأحد فعلت وصنعت. » وتهدّده.
فذهب ابن شيرزاد وشرح لعليّ بن عيسى ذلك فصار ذلك سببا لعناية عليّ بن عيسى به واشتهر حديثه وفاض في الكتّاب.
وفيها ورد الخبر وكتاب الفارقي من البصرة بأنّه قد اجتاز بباب البصرة ممّا يلي البريّة جيش للقرمطي كثير العدد يقصد الكوفة فكتب المقتدر إلى مونس المظفّر يأمره بالرجوع إلى بغداد فرجع من تكريت ودخل بغداد بعد صلاة العصر بعد أن أنفذ قطعة من جيشه إلى الثغر.
وخرج ياقوت إلى مضربه بالزعفرانيّة متوجّها إلى عمله بفارس.
القبض على ابن أبي الساج وتقليد الحسن بن هارون

وفي هذه السنة قبض يوسف بن أبي الساج على كاتبه أبي عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وقلّد مكانه أبا عليّ الحسن بن هارون وقيّد محمّد بن خلف بقيود ثقال وأخذ منه يوم قبض عليه من المال والفرش والكسوة والغلمان ما قيمته مائة ألف دينار وأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار مصادرة عن نفسه.
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك ما استعمله بواسط من السرف في التكبّر والتجبّر والتوسّع في النفقات حتى إنّه جعل في داره بواسط في شراب العامّة ثلاثين غلاما وفي شراب الخاصّة عشرين غلاما وكان يخرج من داره إلى دار صاحبه يوسف ويبكّر إليه جميع قوّاد ابن أبي الساج ورؤساء غلمانه ورؤساء العمّال ويسلّمون عليه كما يفعل الناس ببغداد بالوزراء في أيّام المواكب.
وكان قبل ذلك في مسير ابن أبي الساج من الريّ إلى واسط قد لبس القباء والسيف والمنطقة إلّا أنّه لم يكن يركب إلى دار صاحبه بسواد فرقا بينه وبين وزير السلطان واحتمله ابن أبي الساج على ذلك.
ثم أطمع نفسه أيّام مقامه بواسط في الوزارة للسلطان، وتبيّن عداوة نصر الحاجب لابن أبي الساج فكاتبه ووجّه إليه بمن يثق به يلتمس منه أن يشير على المقتدر بتقليده الوزارة مكان عليّ بن عيسى وضمن أن يستخرج من عليّ بن عيسى وأخيه وسليمان بن الحسن وأبي زنبور المادرائى والكلوذانى وأسبابهم ألف ألف دينار ويقوم بنفقات السلطان وأرزاق الأولياء.
سعاية

وسعى بصاحبه وقال: إنّه كان يستر عنه مذهبه في الدين وإنّه لمّا سار إلى واسط أنس به وانبسط إليه فكشف له أنّه يتديّن بأن لا طاعة عليه للمقتدر ولا لبنى العبّاس على الناس طاعة وأنّ الإمام المنتظر هو العلوي الذي بالقيروان وأنّ أبا طاهر الهجري صاحب ذلك الإمام، وإنّه قد صحّ عنده أنّه يتديّن بدين القرامطة وإنّه إنّما صيّر العلوي متحقّقا به وبجميع أسراره بهذا السبب، وإنّه ليس له نيّة بالخروج إلى هجر، وإنّه إنّما يحتال بالوعد بالخروج إلى هجر حتى يتمّ له أخذ الأموال، وإنّه قال في شهر ربيع الآخر:
« أيّ شيء بقي لنا على الخليفة ووزيره من الحجّة ولم ليس تخرج إلى هجر ولا أراك تستعدّ لذلك؟ » فقال له في الجواب:
« لم لا تكون لك معرفة بالأمور من في نيّته الخروج إلى هجر. » وإنّه قال له:
« فلم غررت السلطان من نفسك ووعدته بهذه الحال حتى سلّم إليك جميع أعمال المشرق؟ » فأجابه بأنه يرى انتقاض الخليفة وسائر ولد العبّاس الغاصبين أهل الحقّ فرضا لله - عز وجل عليه - وأنّ طاعته طاغية الروم أصلح من طاعته الخليفة. » وإنّه قال:
« فهبك فعلت ذلك، ما الذي يؤمنك من القرمطي أن يوافى إلى واسط وإلى الكوفة فلا تجد بدّا من لقائه ومحاربته؟ » فقال في الجواب:
« ويحك كيف أحارب رجلا هو صاحب الإمام وعدّة من عدده؟ » فقال له:
« فإن أراد هو حربك أى شيء تعمل؟ » فقال له:
« ليس لهذا أصل، وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلدا أكون فيه ولا يحاربني بوجه ولا بسبب. » وإنّه ختم القول بأن قال:
« إني إنّما انتظر أن يقبض رجالي بأسرهم أموال سنة أربع عشرة وثلاثمائة فإذا قووا بذلك منعت أوّلا من أعمال واسط والكوفة وسقى الفرات وأنفذت إليها العمّال، فلا بدّ للسلطان أن ينكر حينئذ ما أفعله فأكاشفه وأخطب للإمام وأظهر الدعوة وأسير إلى بغداد، فإنّ من بها من الجند قوم يجرون مجرى النساء قد ألفوا الدور على دجلة والشراب والثلج والخيش والمغنيات فآخذ نعمهم وأموالهم ولا أدع الهجري يفوز بالاسم وأكون أنا سائق الدولة إلى الأمام، فإنّ أبا مسلم خرّاز النعال لم يكن له أصل وقد بلغ ما بلغ ولم يكن معه لمّا ارتفع النصف ممّن معي. وما هو إلّا أن أظهر الدعوة حتى قد اجتمع مائة ألف ضارب سيف. » ويقول محمّد بن خلف:
« قد صدقت أمير المؤمنين عن هذا الأمر، فإن ولّانى الوزارة انقمع ابن أبي الساج وبطل عليه تدبيره وأخبّب حينئذ رجاله وغلمانه: فإمّا أسروه وإمّا هرب طائرا على وجهه إلى أذربيجان. فإني إذا تولّيت الوزارة جدّدت به في المطالبة بالخروج إلى هجر فإن كاشف دبّرت عليه. » فأنهى نصر الحاجب كلّه إلى المقتدر وعرّفه انّ محمّد بن خلف قد كتب إليه يحلف له على أنّه ما حمله على هذا الفعل إلّا الغضب للدين أوّلا ثم الأنفة من أن يتمّ لهذا القرمطي على الخليفة وسائر الخاصّة والعامّة ما دبّره.
وكان الحسن بن هارون يخلف محمّد بن خلف ويقف دائما بين يديه على رجله ويخدمه كما يخدم ابن أبي الساج. فلمّا رأى اختصاصه بابن أبي الساج تنكّر له وعمل على القبض عليه وإتلافه وأظهر ذلك لأبي بكر ابن المنتاب وكان قد اختصّ به وغلب عليه. فاتّفق أن شرب ابن المنتاب مع جماعة من إخوانه بواسط وفيهم عبد الله بن عليّ الجرجرائي عامل الصلح والمبارك، فسأله عبد الله بن عليّ أن يشكر له أبا عليّ الحسن بن هارون لما يوليه من الجميل وقال له:
« تعرض لي رقعة على سيّدنا أبي عبد الله محمّد بن خلف أسأله فيها أن يعرّفه شكرى ويأمره بالزيادة فيما شكرته عليه. » فقال له ابن المنتاب:
« اتّق الله في نفسك ولا تفعل، فإنّ أبا عبد الله على غاية التنكّر للحسن بن هارون ولن يبعد أن يقبض عليه ويبلغه. » فحفظ ذلك عبد الله بن عليّ وتقرّب به إلى الحسن بن هارون.
ووقعت بين محمّد بن خلف وبين عبد الله بن عليّ مماحكة فيما سبّب عليه لقوم يعتنى بهم محمّد بن خلف فشتمه محمّد بن خلف وهدّده وأمر بإخراجه من مجلسه على أقبح صورة.
فاجتمع عبد الله بن عليّ والحسن بن هارون على التدبير على محمّد بن خلف ونصبا عليه أصحاب الأخبار إلى أن وقفا على ما عمله في السعى في تقلّد الوزارة للمقتدر وسعايته بصاحبه. فاطلع عبد الله بن عليّ ابن أبي الساج على ذلك وتقرّب إليه فنصب يوسف بن أبي الساج أصحاب أخبار على محمّد بن خلف إلى أن وقف على أنّ خادما له يثق به قد أنفذه دفعات إلى بغداد وأظهر أنّه إنّما ينفذه لابتياع كسوة وفرش ودوابّ وغلمان له وأنّه هو السفير بينه وبين نصر الحاجب في التدبير على ابن أبي الساج فتقدّم ابن أبي الساج إلى عبد الله بن عليّ في أخذ الطرق على هذا الخادم وإلى الحسن بن هارون بمراعاة الوقت الذي ينفذ فيه الخادم. فلمّا نفذ من واسط عرّفه الحسن ذاك فوجّه بثقاته وأمرهم أن يرصدوا الخادم في الطريق، فإذا عاد من بغدا قبضوا عليه وسلّموه إلى صاحب عبد الله بن عليّ بجرجرايا.
وتقدّم إلى عبد الله بن عليّ بأن يوجّه بمن ينتظره بجرجرايا وأنفذت الكتب التي معه إلى ابن أبي الساج فوجدها بخطّ كاتب نصر جوابات عن كتب محمّد بن خلف إليه تدلّ على إشارات ورموز وتراجم وفيها كلّ مكروه وسعى على دم ابن أبي الساج وحاله وإطماع في ماله وحاله وتحذير من تأخّر القبض على عليّ بن عيسى. فبادر ابن أبي الساج في إنفاذ الحسن بن هارون إلى الحضرة بكتب ورسائل إلى عليّ بن عيسى على رسمه ووجّه بتلك الكتب بعينها وقال له:
« تقول للوزير عني: قد سعى هذا الرجل على دمى ودمك ودماء أصحابك وأريد أن أقبض عليه وأكثر ذنوبه عندي سعيه عليك. » فلمّا وقف عليّ بن عيسى على جميع كتبه ورسائله تعجّب وقال له:
« تقول لأخي أبي القاسم: إن كنت تريد أن تفعل ذلك لتريح نفسك من هذا الرجل الخائن المستحلّ فالله يوفّقك ويحسن معونتك. وإن كنت تفعل هذا بسببي فو الله ما أشكر أحدا كما أشكر من يسعى في صرفى عن الوزارة، فالحبس والنفي أسهل ممّا أقاسيه منها. » وزوّر عبد الله بن عليّ عن الخادم كتبا على أنّها من بغداد إلى محمّد بن خلف بأنّه: قد أحكم أكثر ما تحتاج إليه وأنّه سريع العود إلى واسط.
فسكنت نفس محمّد بن خلف إلى ذلك. وصار عبد الله بن عليّ إلى محمّد بن خلف وترضّاه وبذل له أن يحمل إليه من ماله مائة ألف درهم مرفقا ليزول ما في نفسه عليه. فظنّ محمّد بن خلف أنّ ذلك صحيح ودعا عبد الله بن عليّ وواكله وشاربه. ولم يلبث الحسن بن هارون أن عاد من بغداد فبدأ بدار محمّد بن خلف ووقف بين يديه فقال محمّد بن خلف:
« يا عاضّ، قد بلغني أنّك شنّعت عليّ عند عليّ بن عيسى وذكرت له أنّى أطلب الوزارة مكانه وأنّك مع ذلك قد ضرّبت عليّ حاشية الأمير وغلمانه. وو الله يا كلب لأضربنّك خمسمائة سوط ولآخذنّ منك ثلاثين ألف دينار قد أبطرتك. » والحسن بن هارون لا يزيد على أن يقول له:
« الله بيني وبين من أغرى مولاي ومن أنا عبده وغرسه. » ومحمّد بن خلف يشتمه إلى أن قال له:
« لقيت الأمير؟ » فقال الحسن بن هارون:
« ما لقيته بعد. » فقال له:
« فامض إلى لعنة الله فالقه وعد إليّ. » فمضى إلى ابن أبي الساج وشرح له جميع ما وقف عليه من سعى محمّد بن خلف عليه وما خاطبه به لمّا لقيه بعد قدومه من بغداد.
فقال ابن أبي الساج لخازنه الذي يتسلّم من محمّد بن خلف الأموال المحمولة إليه التي ينفقها في رجاله وغلمانه ونفقاته:
« قد كنت أحضرتنى منذ مدّة مالا نصفه غلّة ودراهم بهرجة وخراسانيّة، وذكرت أنّ ابن خلف حمله إليك لتنفقه في الأولياء وغيره، وذكرت أنّ الأمر مسرف في فضل الصرف وأنّه كثير فعرّفنى الآن الحال فيما يحمله إليك؟ » فقال: « الذي يحمله الآن شرّ من كلّ ما تقدّم وقد أخرجت من مائة ألف درهم حملها اليوم ألف وخمسمائة درهم جديد وألفى درهم صحاح لا سيّئة واثنين وأربعين ألف درهم غلّة رديّة. » وعظم عليه الأمر في فضل الصرف في ذلك فقال له:
« فإذا حضر محمّد بن خلف العشيّة فادخل إليّ واحمل المال كهيئته وعرّفنى أنّ جميع غلماني ورجالي قد فسدت نيّاتهم بهذا السبب. » ففعل الخازن ذلك. فقال ابن أبي الساج:
« يا أبا عبد الله أنت تعلم أنّ هذا المال لا يجوز لأحد أن يقبض مثله وإذا فوّت رجالي شهرا وأعطيتهم مالا جيّدا أو مقاربا للجودة كان أصلح من هذا. » فغضب محمّد بن خلف وقال له:
« ما جرّأ هذا الكلب على خطابي بحضرتك في هذا الباب إلّا لأنّه قد وقف على فساد رأيك فيّ، وإنّما أفسدك عليّ من قدّر أن يتولّى كتابتك وهو هذا العلج الحسن بن هارون وأهون به وبهذا الخازن وبجميع غلمانك ورجالك عليّ، وأنا عقدت لك هذه الحال وهذا الأمر والآن فو الله لا نظرت في شيء من أمرك، فاعمل ما شئت. » ونفض يده في وجهه وخرج من مجلسه. فجعل ابن أبي الساج يحلف له أن يعود فلا يفعل ويحلف إنّه لا يرجع.
فلمّا طال ذلك بينهما وبلغ أن يعطف إلى دهليز يغيب به عن عينه قال ابن أبي الساج لغلمانه:
« ضعوا أيديكم في قفا الكلب اللاحد الخنزير فأسمعونى صوته بالصفع. » فصفع نحو من مائة صفعة وأخذ سيفه ومنطقته. واستدعى ابن أبي الساج عبد الله بن عليّ وأحضر للوقت فوجّه به إلى دار محمّد بن خلف ليحفظها ويقبض على سائر غلمانه وأسبابه وخزائنه، وكان عبد الله بن عليّ مشهورا بالعفاف والثّقة. وتقدّم إلى الحسن بن هارون بأن يتقلّد كتابته مكانه واستحلفه أن يدخل إلى الحجرة التي اعتقل فيها ويقيّده بخمسين رطلا ويلبسه قميص بايباف ففعل به الحسن بن هارون ذلك فقال له:
« يا محمّد بن خلف أخبرني أغرّك أنّى أقول لك: يا مولاي؟ إنّما كنت أسخر منك، أيّنا كان أبعد غورا وتدبيرا، أنا أم أنت؟ »