عليهم مكان نصر هارون ابن غريب فدخل هارون بن غريب مع الجيش بغداد. ذكر الحال التي أدت إلى صرف علي بن عيسى وتقليد أبي علي ابن مقلة

لمّا رأى عليّ بن عيسى اختلال النواحي في أيّام وزارة الخاقاني والخصيبي ونقصان الارتفاع وزيادة النفقات وما لحق من زيادة الرجّالة بعد انصرافهم من الأنبار من حرب القرمطي وأنّ زيادتهم بلغت مائتي وأربعين ألف دينار في السنة مضافة إلى النفقات المفرطة هاله ذلك واستعظمه ووجد رجال السلطان قد ضعفوا عن القرمطي وتبيّن انحراف نصر الحاجب عنه، وذلك لميل مونس إليه، استعفى المقتدر من الوزارة فأمره بالصبر وقال له:
« أنت عندي بمنزلة المعتضد بالله ولى عليك حقوق. » فواصل الاستعفاء فشاور المقتدر مونسا المظفّر وأعلمه أنّه قد سمّى له ثلاثة: الفضل بن جعفر ابن حنزابة فلم يشر به لأجل من قتل من آل الفرات، وأبو عليّ ابن مقلة فلم يشر به لحداثته وقال:
« لا يصلح للوزارة إلّا شيخ له ذكر وفيه فضل. »، ومحمّد بن خلف النيرمانى فلم يشر به، وعرّفه أنّه جاهل لا يحسن أن يتهجّى اسمه وأنّه متهوّر، وأشار بمداراة عليّ بن عيسى.
ثم لقي مونس عليّ بن عيسى ورفق به وداراه فقال له عليّ بن عيسى:
« لو كنت مقيما بالحضرة لاستعنت بك وعملت ولكنّك خارج إلى الرقّة. » وبلغ أبا عليّ ابن مقلة ذلك فجدّ في السعى، وشاور المقتدر نصر الحاجب في أمر الثلاثة فقال:
« أمّا الفضل بن جعفر فلا يدفع عن صناعة ومحلّ ولكنّك بالأمس قتلت عمّه وبنو الفرات يدينون بالرفض، وأمّا ابن مقلة فلا هيبة له. » وأشار بمحمّد بن خلف لما كان بينهما ممّا ذكرناه فيما تقدّم. فنفر المقتدر منه لما عرفه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة مداراة نصر الحاجب فأشار على المقتدر به وقال:
« يقلّد، فإن قام بالأمر كما يجب وإلّا فالصرف العاجل بين يديه. » واضطرّ المقتدر إلى أن استوزر أبا عليّ بن مقلة.
وكان ما مال به المقتدر إلى أبي عليّ أنّ أبا طاهر القرمطي لمّا قرب من الأنبار تشوّف إلى علم خبره ولم يكن يكاتب بشيء من خبره غير الحسن بن إسماعيل الإسكافي عامل الأنبار. فلمّا عرف أبو عليّ ابن مقلة الصورة طلب أطيارا وأنفذها إلى الأنبار وكوتب عليها أخبار القرمطي وقتا بعد وقت فكان ينفذها إلى نصر لوقته ويعرضها نصر على المقتدر ووجد بذلك نصر السبيل إلى تقريظ ابن مقلة وقال للمقتدر:
« إن كان هذه مراعاته لأمورك ولا تعلّق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعته؟ »
ذكر القبض على علي بن عيسى وتقليد ابن مقلة

فلمّا كان يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ عشرة وثلاثمائة أنفذ هارون ابن غريب للقبض على عليّ بن عيسى فصار هارون إلى دار عليّ بن عيسى ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وكان أبو جعفر متعطّلا في الوقت فوجّه بأبي جعفر إليه لأنّه استحيا منه وعرّفه ما أمر فيه. فلمّا أدّى إليه الرسالة قال له:
« أنا جالس متوقّع له. » وكان قد لبس عليّ بن عيسى خفّا وعمامة وطيلسانا وفي كمّه مصحف ومقراض وسأل هارون أن يصون حرمه وولده ففعل، وحمله مع أخيه أبي عليّ عبد الرحمن إلى دار السلطان فسلّم عليّ بن عيسى إلى زيدان القهرمانة واعتقل عبد الرحمن عند نصر فكانت وزارته هذه سنة واحدة وأربعة أشهر ويومين.
فلمّا كان في آخر نهار يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر أحدر أبو عليّ ابن مقلة الحاجب في دار السلطان ولم يصل إلى المقتدر وأقام عند نصر الحاجب في دار السلطان. وجدّ محمّد بن خلف في طلب الوزارة وضمن ثلاثمائة ألف دينار معجّلة غير أموال النواحي. فقلق أبو عليّ ابن مقلة لذلك وحضر من غد دار السلطان ولم يصل أيضا.
واجتمعت الألسن على المقتدر بإمضاء أمره وبالذمّ لمحمّد بن خلف، فأمضاه وحضر يوم الخمسين للنصف من الشهر ووصل وخلع عليه وحمل إليه من دار السلطان طعام على رسم الوزراء إذا تقلّدوا.
وكان أبو الحسن عليّ بن عيسى قبل صرفه عن الوزارة بعشرين يوما كتب إلى أبي عبد الله البريدي يأمره باستخراج ما كتب به ابن ما بنداذ أنّه قد اجتمع في بيت مال الأهواز من مال الأهواز وهو ألف ألف وخمسون ألف درهم وانضاف إلى ذلك ما حمله القاسم بن دينار من مال فارس وكرمان على الظهر وهو سبعمائة ألف درهم سوى ما حمله أبو على ابن رستم من مال إصبهان وهو أربعمائة وخمسون ألف درهم فيصير الجميع ألفي ألف ومائتي ألف درهم.
وكان في أبي عبد الله البريدي حركة ورجلة يحتاج إليهما في ذلك الوقت.
فكتب إلى ابن مابنداذ يطالبه بالمال فكتب بأنّ المال حاصل. وكان ابن مابنداذ بتستر، فوجّه إليه يستعجله ولم ينتظره واستحضر كاتبه فحمل في الشذاءات ألفي ألف ومائتي ألف درهم، وكتب أنّه إن عادت الشذاءات حمل فيها باقى المال، فصرف عليّ بن عيسى قبل موافاة بقية المال.
وقد كنّا ذكرنا انحراف نصر الحاجب عن عليّ بن عيسى لميل مونس المظفّر إليه، فلمّا نكب عليّ بن عيسى ادّعى نصر الحاجب أنّه وجد رجلا يعرف بالجوهرى أقرّ أنّه صاحب القرمطي وأنّه جعل سفيرا بينه وبين عليّ بن عيسى.
وحكى عنه أنّ عليّ بن عيسى كان يكاتب القرمطي على يده وجمع بينه وبين عليّ بن عيسى حتى واجهه بذلك فقال له عليّ بن عيسى:
« بهتني وما خلق الله لما يقوله أصلا. » وعاون أبو عليّ ابن مقلة نصرا الحاجب في هذه القصّة إلى أن كاد يتمّ المكروه على عليّ بن عيسى وهمّ المقتدر أن يضربه بالسوط على باب العامّة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين، فاحتالت السيّدة واستكشفت الحال فيما ادّعى عليه فوقفت على بطلانه وقررت ذلك في نفس ابنها وأزالت ما كان أمره به فيه.
وأخذ أبو عليّ ابن مقلة خطوط العمّال والضمناء بنحو مائة ألف دينار وبلغ أبا عبد الله البريدي وهو بالأهواز تقلّد أبي على ابن مقلة الوزارة وكان بينهما مودّة فأنفذ إليه من وقته سفاتج بثلاثمائة ألف دينار من حمله الباقي بالأهواز بعد ما كان حمله.
وكان القاسم بن دينار وأحمد بن محمّد بن رستم قد حملا إلى عليّ بن عيسى سفاتج بستمائة ألف درهم، فوصلت بعد صرفه فقبضها ابن مقلة فمشى أمر أبي عليّ ابن مقلة بهذه الاتفاقات. وكتب أبو عليّ ابن مقلة كتابا برفع كلّ الجبايات والمصادرات وسكّن من الناس لينبسطوا في أعمالهم.
وفي هذه السنة وقعت حرب بين نازوك وهارون بن غريب خال
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ سوّاس هارون بن غريب وسوّاس نازوك تغايروا على غلام أمرد ووقع الشّر بينهم وأخذ نازوك سوّاس هارون بن غريب وأودعهم حبس الجرائم بعد أن ضربهم، فصار أصحاب هارون بن غريب إلى مجلس الشرطة ووثبوا على أبي الجود خليفة نازوك وانتزعوا أصحابهم من يده.
وركب نازوك إلى المقتدر وشكا إليه هذه الحال فلم يكن من المقتدر إنكار رضيه نازوك فانصرف محفظا وجميع رجاله وجمع هارون ابن غريب رجاله وباتا جميعا مستعدين.
فلمّا أصبحوا زحف أصحاب نازوك إلى دار هارون بن غريب وأغلق هارون بابه دونهم وخارج الباب جماعة من غلمان هارون وأصحابه فقتل منهم قوم وفتح باب هارون حينئذ وخرج أصحابه واستحكمت الحرب بينهم واشتدّت. فوجّه نازوك إلى أصحابه بمن صرفهم، ثم ركب الوزير أبو عليّ ومعه مفلح الأسود لتوسط القصّة، فبدأ بابن الخال وأدّى إليه رسالة المقتدر بالكفّ. ثم صار الى نازوك فأدّى إليه مثل ذلك فسكنت القصّة.
واستوحش نازوك وأقام في داره وفيها غلمانه وأصحابه ورجاله وظهر في ساقه توتة وقلعها وجعلها سببا في ترك الركوب وبعد ثلاثة أيّام صار إليه هارون بن غريب بدرّاعة فاصطلحا وأقام نازوك في داره وصار هارون بن غريب إلى البستان النجمى فأقام فيه ليبعد عن نازوك وكثر الناس عليه وأرجفوا له بإمرة الأمراء فاشتدّ ذلك على أسباب مونس المظفّر وكتبوا به إليه وهو بالرقّة فأسرع الشخوص منها على طريق الموصل إلى بغداد ووصل إليها ولم ينحدر إلى المقتدر ولا لقيه وصاعد إليه الأمير أبو العبّاس والوزير أبو عليّ فسلّما عليه وانحدر نازوك.
ظهور الوحشة بين مونس والمقتدر

وأقام هارون بن غريب في دار السلطان منابذا لمونس المظفّر ودخل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان من الجبل وصار إلى مونس المظفّر وما زالت المراسلات تتردد بين مونس والمقتدر.
ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

ذكر فتنة نازوك وأبي الهيجاء التي أدّت إلى خلع المقتدر وذكر قتلهما ورجوع المقتدر بالله إلى الخلافة

لمّا كان يوم السبت لثمان خلون من المحرّم خرج مونس المظفّر إلى الشمّاسيّة وخرج الجيش معه وركب نازوك من داره في غلمانه وأصحابه في السلاح. فلمّا وصل إلى الجسر وجده مقطوعا فأقام بمكانه إلى أن أصلح وعبر هو وأصحابه عليه وصاروا إلى مونس وخرج أبو الهيجاء ابن حمدان إليه وسائر القوّاد، ثم انتقلوا من باب الشمّاسيّة إلى المصلّى وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والحجريّة والرجّالة المصافيّة. فلمّا كان آخر النهار انفضّ أكثر من كان في دار السلطان وصاروا إلى مونس وصرف مونس نحرير الصغير عن الدينور وردّها إلى أبي الهيجاء مضافة إلى أعماله.
وراسل مونس المقتدر بأنّ الجيش عاتب منكر للسرف فيما يصير إلى الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم في الرأي والتدبير ويطالبون بإخراجهم من الدار وإبعادهم وأخذ ما في أيديهم.
فكتب المقتدر إلى مونس رقعة نسختها:
« بسم الله الرحمن الرحيم، أمتعنى الله بك ولا أخلانى منك ولا أرانى سوء فيك. تأمّلت الحال التي خرج أولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسّكوا بها وأقاموا عليها، فوجدتهم لم يريدوا إلّا صيانة نفسي وولدي وإعزاز أمري وملكي واجتلاب الخير والمنفعة من كلّ جهة وتطلبها بكلّ سبيل، بارك الله عليهم وأحسن إليهم وأعاننى على صالح ما أنويه فيهم.
« وأمّا أنت يا أبا الحسن المظفّر - لا خلوت منك - فشيخى وكبيرى ومن لا أزول ولا أحول عن الميل إليه والتوفّر عليه والتحقق به والإيجاب له اعترض ما بيننا هذا الحادث أم لم يعترض. وانتقض الأمر الذي يجمعنا أم لم ينتقض، وأرجو ألّا تشكّ في ذلك إذا صدقت نفسك وحاسبتها وأزلت الظنون السيّئة عنها أدام الله حراستها والقوّة بالله والذي خاض لأصحابنا فيه من أمر الخدم والحرم الذين يخرجون من الدار ويباعدون عنها وتسقط رسومهم في الخدمة ويمنعون منها ويبرّءون من نعمهم ويحال بينهم وبينها إلى أن يفرجوا عمّا في أيديهم من المال والضياع ويردّوها إلى حقوقها قول إذا تبيّنوه حقّ تبيّنه وتصفّحوه كنه تصفّحه علموا أنّه قول جاف والبغي عليّ فيه غير مستتر ولا خاف.
« ولإيثارى موافقتهم واتّباعى مسرّتهم ما أجبتهم إلى المتيسّر في أمر هذه الطبقة خاصّة، فأتقدم بقبض بعض إقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم وبسط إيغاراتهم وإخراج من يجوز إخراجه من دارى ولا أطلق للباقين الدخول في تدبيري ورأيي وأوعز بمكاتبة العمّال في استيفاء حقّ بيت المال في ضياعهم الصحيحة الملك دون ما يقال إنّه قد لابسه الريب والشكّ.
« وأنظر بنفسي في أمر الخاصّة والعامّة وأبلغ في إنصافها والإحسان إليها الغاية، ولا أعتمد في ذلك على وزير ولا سفير البتّة وانتصب لإثارة الأموال وجمعها ووضعها في مواضعها وأحميها من كلّ ما يثلمها وينتقصها وأشمّر في ذلك وأبلغ في مناهضة الأعداء قربا وبعدا وهذا إنّما قعدت عنه اعتمادا عليكم وتفويضا إليكم وثقة بأنّكم شركائى وسهمائى والمخصوصون بخير أيّامى شرّها وحلوها ومرّها ولو علمت انّه يجعل ذلك ذنبا لي وجرما يتجنّى به عليّ لكنت أوّل شاخص إلى كلّ تعب وأوّل مبادر نحوه من غير إبطاء عنه ولا ريث.
« فأمّا أنتم فمعظم نعمكم مني وما كنت لأغور عليكم في شيء سمحت به لكم ورأيته في وقته وأراه الآن زهيدا في جنب استحقاقكم وأنا بتثميره أولى وبتوفيره أحرى والله المطّلع على جميل معتقدي للجماعة فيها والشاهد على محبّتى لإيصالها إلى أقصى أمانيها.
« ونازوك، فلست أدرى من أيّ شيء عتب ولا لأيّة حال استوحش واضطرب لأنّى لم ألمه على محاربة هارون بن غريب الخال ولم أمنعه من الإنتصار منه والأخذ بثأره عنده ولا أمرت بمعاونة هارون عليه ولا قبضت يده عمّا كانت طويلة إليه منبسطة فيه متمكّنة منه ولا غيّرت له حالا ولا حزت له مالا ولا سمع مني ولا بلغه عني ما يسوء موقعه وينفر منه والله يغفر لنا وله.
« وعبد الله بن حمدان فالذي أحفظه صرفه عن الدينور وقد كان يتهيّأ إعادته إليها إن كان راغبا فيها فيسعف بمسألته وأن يستدعى تعويضه من الأعمال ما هو أعظم خطرا من الدينور فلا نقصر عن إرادته وما عندي له ولنازوك وللعصاة كلّها إلّا التجاوز والإبقاء والإغضاء وقبل هذا وبعده، فلي في أعناقكم بيعة قد وكّدتموها على أنفسكم دفعة بعد دفعة، ومن بايعنى فإنّما بايع الله ومن نكث إنّما نكث عهد الله.
« ولى أيضا عليكم نعم وأياد وعندكم صنائع وعوارف آمل أن تعترفوا بها وتلتزموها ولا تكفروها وتشكروها وإن راجعتم الجميل وتلافيتم هذا الخطب الجليل وفرّقتم جموعكم ومزّقتموها وعدتم إلى منازلكم واستوطنتموها وأقبلتم على شئونكم وتشاغلتم بها وأجريتم في الخدمة على عادتكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزلة من لم يبرح من موضعه ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه وكنت الذي تعرفونه في الثقة بكم والإيثار لكم والسكون إليكم والاشتمال عليكم لكم بذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا.
« وإن أبيتم إلّا مكاشفة ومخالفة وإثارة فتنة وتجديد محنة فقد ولّيتكم ما تولّيتم وأغمدت سيفي منكم وتبرّأت إلى الله أن أمدّ باعى إلى أحد منكم ولجأت في نصرى ومعونتى وكفايتي إلى الله عز وجل ولم أخرج من منزلي ولم أسلّم الحقّ الذي جعله الله لي إلّا كما خرج عثمان بن عفّان عن داره وكما سلّم حقّه لمّا خذله عامّة ثقاته وأنصاره وكان ذلك حجّة فيما بين الله عز وجل وبيني ومعذرة وسببا بإذن الله لما أؤمّله من الفوز في الدنيا والآخرة والله بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد وحسبي الله ونعم الوكيل. » ولمّا وصلت هذه الرقعة إلى مونس ووقف نازوك وأبو الهيجاء على ما تضمّنت عدلوا إلى مكاتبته بإخراج هارون بن غريب عن بغداد، فأجابهم إلى ذلك وقلّد هارون الثغور الشاميّة والجزريّة من يومه ومضى إلى قطربّل فأقام بها.
ولمّا كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم دخل مونس المظفّر والجيش بغداد وعدلوا عن دار السلطان كراهية لمعرّة الجند وظهر عند الناس ظهورا بيّنا وأرجفوا إرجافا قويّا أنّ نازوك وأبا الهيجاء واقفا مونسا المظفّر على الاستبدال به ونصب غيره في الخلافة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لاثنى عشرة ليلة خلت من المحرّم خرج مونس إلى باب الشمّاسيّة دفعة ثانية وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك وبنيّ بن نفيس وجميع القوّاد والجيش وزحفوا إلى دار السلطان.
ذكر الخبر عن خلع المقتدر بالله وتقليد القاهر بالله الخلافة

لمّا زحف القوم بأسرهم إلى دار السلطان هرب المظفّر بن ياقوت وسائر الحجّاب والحشم والخدم والوزير أبو عليّ ابن مقلة منها ودخل مونس من باب الزاوية وحصل الجيش كلّه في دار السلطان. فلمّا كان بعد عتمة بساعة أخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه من الدار وأصعد بهم إلى دار مونس المظفّر ودخل هارون بن غريب من قطربّل سرّا إلى بغداد واستتر بها.
ومضى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى دار ابن طاهر ليحدر منها محمّد بن المعتضد بالله فلم يفتح له كافور الموكّل بحفظ الدار وطالبه بعلامة من مونس، فلم تكن معه فانصرف، وأصعد ونازوك بعد أن أخذ العلامة وطرح في طريقه النار في دار هارون بن غريب وأحدر محمّد بن المعتضد ووصل إلى دار السلطان في الثلث الأخير من ليلة السبت للنصف من المحرّم وسلّم عليه بالخلافة وبايعه مونس والقوّاد ولقّب القاهر بالله.
وزارة علي بن مقلة

وأخرج مونس عليّ بن عيسى من الحبس في دار السلطان وأطلقه إلى منزله وأحضر أبا عليّ ابن مقلة وقلّده وزارة القاهر بالله وقلّد نازوك الحجبة مضافة إلى ما إليه من الشرطة بمدينة السلام وأضاف إلى ما كان إلى أبي الهيجاء من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وطريق سرّ من رأى وبزرج سابور والراذانين ودقوقاء وخانيجان والموصل أعمال المعاون بهمذان ونهاوند والصيمرة والسيروان وماسبذان ومهرجانقذق وأرزن.
ووقع النهب في دار السلطان ومضى بنيّ بن نفيس إلى تربة السيدة بالرصافة فوجد لها هناك ستّمائة ألف دينار فحملها إلى دار السلطان. وخلع المقتدر بالله من الخلافة يوم السبت النصف من المحرّم وأشهد على نفسه بذلك القضاة وسلّم الكتاب بذلك إلى القاضي أبي عمر محمّد بن يوسف.
ذكر حزم استعمل وانتفع به

فحدّث أبو الحسين ابن أبي عمر أنّ أباه سلّم الكتاب إليه بالخلع وقال له:
« يا بنيّ احفظه واستره ولا يراه أحد من خلق الله عندك. » قال: فقلت له:
« وما الفائدة في كتمانه وقد علم به الخلق؟ » قال: فقال لي: