وكان المقتدر من محبته لأن يستوزر الحسين بن القاسم، استحضره وبيّته عنده وخلع عليه ووعده أن يصل في غد تلك الليلة بحضرة الناس ويخلع عليه الوزارة. فلمّا اتصل ذلك بمونس غلظ عليه أن يتفرّد المقتدر بهذا التدبير ولا يشاوره فيه وقد كان طعن عليه قديما وقال:
« لا يصلح للوزارة. » فترددت الرسائل بينه وبين المقتدر على لسان عليّ بن عيسى، فاستشار المقتدر عليّ بن عيسى. فأشار بردّ أبي عليّ ابن مقلة موافقة لمونس وذلك بعد أن سأله أن يتقلّدها هو فامتنع فقال المقتدر:
« هذا غير ممكن، فاذكر سواه. » فذكر سليمان بن الحسن وأشار به أو عبد الرحمن بن عيسى. فمال المقتدر إلى سليمان لما كان قدّمه من الطعن على ابن مقلة وما ظهر من عداوته له، فأمره بإحضاره وانصرف الحسين بن القاسم من دار السلطان واستتر.
وكانت مدّة وزارة أبي عليّ محمّد ابن عليّ ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر.
ذكر ما جرى في أمر الوزارة بعد أبي علي وتقلد سليمان بن الحسن لها

أحضر سليمان بن الحسن يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى دار السلطان ولم يوصله المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم وعاد من غد وهو يوم الخميس فوصل وخلع عليه. وتقدّم المقتدر إلى عليّ بن عيسى بالإشراف على سائر الأمور من الأعمال والدواوين وبمعاضدة سليمان وألّا يتراخى في ذلك فصار يصل مع سليمان إلى المقتدر ولا يقلّد سليمان أحدا ولا يصرفه ولا يعمل شيئا إلّا بموافقة عليّ بن عيسى.
وفيها قبض على البريديين وصودروا
ذكر الخبر عن ذلك

حكى أبو الفرج ابن أبي هشام قال: كان أبي يكتب لأحمد بن نصر القشوري وكان أحمد يطمع أن يجعل مكان أبيه نصر ويستحجب. قال:
فبينا نحن بين يدي أحمد بن نصر بالأهواز - وكان يتولّى أعمال المعاون بها - إذ ورد عليه توقيع من المقتدر بالله بخطّه مع ركابيّ يعرفه سرّا يقول فيه:
« يا أحمد قد عرفت ذنبك الذي جنيته وحرمت به نفسك رأيي، وقد تيسّر لك تلافيه بامتثال أمري فيما أضمّنه توقيعى هذا، اقبض على البريديين الثلاثة وحصّلهم في دارك، وإيّاك أن تفرج عنهم إلّا بتوقيع يرد عليك بخطّ كهذا الخطّ الذي في هذا التوقيع وثق مني بالعود لك إذا فعلت ذلك إلى ما يرفع منك ويصلح حالك ويعيد منزلتك. » قال: فأقرأنى أحمد بن نصر هذا التوقيع وسجد شكرا لله على ثقة المقتدر به وعبر في الوقت إلى دار أبي عبد الله وأنفذ حاجبه أبا يعقوب إلى دار أبي يوسف وأنفذ أحمد بن مقبل إلى دار أبي الحسين فوجدوهم قد خرجوا قبل ركوبه بلحظة وركبوا طيّاراتهم. وكان الخبر قد سبق إليهم فأظهروا أنّهم يريدون مسجد الرضا المتصل بالشاذروان بالأهواز فاتبعهم وعرف أنّهم ساروا إلى البصرة، فقامت قيامته من ذلك.
وأنفذ أبا يعقوب والغلمان وراءهم، فاتّفق أن عصفت الريح على البريديين فمنعتهم عن السير ولحقهم الطلب فأخذوا.
وبذل أبو عبد الله لأبي يعقوب خمسين ألف دينار على أن يفرج عنهم فما أجابه، ثم سأله أن يفرج عن أحد أخويه ويقبل منه عشرين ألف دينار فأبى، وردّهم وحصلوا في دار أحمد بن نصر ولم تمض خمسة أيّام حتى ارتفعت ضجّة. فقال لي أحمد بن نصر:
« اخرج فاعرف ما سبب هذه الضجّة. » قال: وكان سلّم إليهم داره الشطيّة واعتزل في حجرة، فخرجت مبادرا فرءانى أبو عبد اله فقال:
« قل له وبشّره أنّ الفرج قد أتى وأنّ هذا كتاب الوزير بالإطلاق وإقراري وأن أنظر في الأعمال. » وأعطاني الكتاب وبادرت به إلى أحمد بن نصر فقرأه وخرج إليه وإلى أخويه وقال:
« هذه نعمة يلزمني فيها الشرك والصدقة والوفاء بالنذر ولكن هذا خطّ أمير المؤمنين إليّ بما رسمه وأريد خطّا مثله بما ينقضه. » فتغيّرت وجوه الأخوة من ذلك واضطربوا حتى ظهر على وجوههم ما في قلوبهم ثم أخذوا في مداراته ومسألته الرفق. فلمّا كان من الغد شغّب الرجّالة بالأهواز تعصّبا لهم وقالوا:
« لا بدّ من إطلاقهم. » وحملوا السلاح وكان مع أحمد بن نصر طوائف من البصريّة وعدّة كثيرة من السودان والغلمان والحجريّة فجمعهم ثم حلف بالطلاق أنّه إن هجم على داره أحد منهم قتلهم وأخذ رؤوس الثلاثة وحملها إلى الخليفة. وقال:
« هذا كتاب مزوّر وإلّا فلم لا يقع تثبّت وإنّما ضرّبتم عليّ الرجّالة وراسلتموهم في حمل السلاح وأخذكم من منزلي لئلّا يظهر ما زوّرتموه وتتعجّلون الخروج والهرب. » فلمّا رأوا المصدوقة اعتذروا ووضعوا جنوبهم له وأرسلوا الرجّالة في الانصراف بعد أن حلفوا أنّهم تبرّعوا بالتعصّب لهم وأقاموا بمكانهم.
ووافى بعد عشرة أيّام ابن موسى دانجو بتوقيع مثل ذلك التوقيع وذلك الخطّ فتسلّمهم وحملهم وعلم أنّهم كانوا زوّروا واحتالوا وتأكّدت الوحشة بينهم وبين أحمد بن نصر القشوري ولم يزالوا عليها حتى فرّق بينهم الدهر.
ولمّا ورد البريدون الحضرة نوظروا على المصادرة فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي وكان في الوقت عدوّا لهم:
« بكرت إلى أبي جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وقلت له: الأهواز
خطّة القاسم أبيك وهي دارك ودار أخيك وأنتم تتصرّفون فيها منذ ستين سنة فلم تركتموها لهؤلاء الفعلة الصنعة وهلّا سعيت على سحقهم وسحبهم حتى لا يبقى لهم جناح يطيرون به؟ » فقال: « يا أبا زكريا ما الذي تقدّره في مصادرتهم التي تؤدّيهم إلى هذه الحال؟ » فقلت معظما: « ثلاثمائة ألف دينار يزهق الله به نفوسهم. » فقال لي:
« يا أخ قم بنا حتى نعبر إلى دار الوزير. » وكان يومئذ أبو القاسم سليمان بن الحسن. فخرجت معه فنزلنا الطيّار فلمّا وصلنا وتوسّطنا الدار وجدنا أبا القاسم الكلوذانى في جانب منها والبريديّين بين يديه والكتّاب. فقال لي أبو جعفر:
« ترى أن نقضي حقّه ونعرّج عليه ونعرف الصورة من أمرهم فنبنى ما نخاطب الوزير به بحسبه؟ » فقلت: « صواب. » فعدلنا إلى أبي القاسم وجلسنا عنده فقال لأبي جعفر:
« قد فصلنا أمر أصحابنا وأنت وجه الحضرة وتاجها وحرّها وهم إخوتك وما أحقّك بمعونتهم؟ » فقال: « إنّ أيسر ما يكون لهم أيّدهم الله مشاركتهم في المحنة فأمّا المعونة فما أقنع من نفسي بها فعلام انفصل أمرهم؟ » فقال: « على تسعة آلاف ألف درهم. »
قال أبو زكريا: فنظر إليّ أبو جعفر وقد بهت. ونهضنا فقال: « يا أبا زكريا هذا خلاف ما كان عندك. » فقلت: « هذا الأمر يراد والله ما يملكون هذا المال فإني أعرف بمكاسبهم ولكن لأبي عبد الله نفس أبيّة وهمة عليّة فعرفت نفسه على سلطانه فأعطاه أكثر ممّا أطمع فيه وممّا سعى به أعداؤه متربّصا بالأيّام والأوقات ومتوقّعا الدوائر وإن يسمع الخليفة التزامه هذا المال الجليل فيستكثر قدره ويرغب في تجديد الصنيعة عنده وما كلّ أحد يغرّر هذا التغرير وما هذا آخر أمره وسيكون له شأن عظيم كفافا الله شرّه. » قال أبو زكريا: وعدلت مذ ذلك اليوم إلى مداراته وخدمته واستصلاحه.
مناظرة أبي علي بن مقلة

وتقدّم المقتدر بالله إلى سليمان بن الحسن وأبي الحسن عليّ بن عيسى بمناظرة أبي عليّ ابن مقلة فاختارا لذلك أحمد بن محمّد بن صالح العكبري وأنفذه إلى دار السلطان فناظره ولم يزد على توبيخه ومواقفته على قبيح آثاره.
فالتمس أبو عليّ ابن مقلة أن يكون المناظر له عليّ بن عيسى. فاجتمع الوزير سليمان وعليّ بن عيسى على مناظرته في دار الحجبة بحضرة ياقوت الحاجب، فاغلظ له سليمان في الخطاب والتخطئة والاحتقار ونسبه إلى التضريب بين السلطان وأوليائه إلى أن قرّر عليّ بن عيسى أمره على مائتي ألف دينار على جمل، يعجّل منه النصف ويؤدّى الباقي في نجوم المصادرات، وكانت تلك النجوم إنّما هي رسم لا يطالب من يؤخذ خطّه بها.
فكتب مونس المظفّر إلى المقتدر يشفع لابن مقلة ويسأله أن يعفيه من المصادرة وأن يكون معتقلا في يد مرشد الخادم فأجابه إلى ذلك.
ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

وفي هذه السنة استوحش مونس المظفّر زيادة استيحاش.
ذكر السبب في استيحاش مونس وخروجه

كان محمّد بن ياقوت منحرفا عن سليمان ومائلا إلى الحسين بن القاسم ومونس المظفّر، وأسبابه يميلون إلى سليمان لمكان عليّ بن عيسى وثقتهم به وينحرفون عن الحسين بن القاسم. وقوى أمر محمد بن ياقوت وقلّد مع الشرطة الحسبة [ ببغداد ] واستضمّ رجالا وقويت بهم شوكته فشقّ ذلك على مونس وسأل المقتدر صرفه عن الحسبة وتقليد ابن بطحاء ففعل ذلك.
وتقدّم مونس إلى أصحابه بالاجتماع إليه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمّد بن ياقوت. وقيل لمونس إنّ محمّد بن ياقوت قد عمل على كبس داره بالليل وما فارقه أصحابه حتى أخرجوه إلى باب الشمّاسيّة وخرجوا معه وصار إليه عليّ بن عيسى فعرّفه خطأ هذا الرأي وأشار عليه بأن يعود إلى داره فلم يقبل منه وأقام على أمره.
وطالب بصرف محمّد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة وياقوت عن الحجبة وإبعادهما عن الحضرة، فوجّه المقتدر قاضى القضاة أبا عمر وابنه الحسن وابن أبي الشوارب وجماعة من شيوخ الهاشميين أصحاب المراتب إلى مونس برسالة يرفق فيها ويسأله الرجوع إلى داره، فقال قاضى القضاة:
« الوجه أن يكتب رقعة بما حمّلناه من الرسالة نرجع إليها ونثنى الكلام على معانيها، فإنّا جماعة والقول يختلف والنسيان غير مأمون. » فقال الوزير:
« وما معنى هذا؟ » فقال عليّ بن عيسى:
« هذا هو الصواب. » وكتب بذلك رقعة.
وقعد الوزير وعليّ بن عيسى في دار السلطان ينتظران عود الجماعة، فعادوا وذكروا أنّهم لم يصلوا إلى مونس وأنّهم أجلسوا في الحديدى وراسلهم مونس في إعلامه بما وردوا فيه فذكروه له فصار إليهم كتّابه يخاطبونهم خطابا جميلا عنه.
فبينا هم كذلك إذا هجم الجيش على الحديدى فكادوا يغرقونه وقالوا:
« لا نرضى إلّا بإخراج ياقوت وابنيه. » وتكلّموا بكلام قبيح فراح في آخر النهار الوزير سليمان بن الحسن وعليّ بن عيسى ومن معهما من الخدم الخاصّة إلى باب الشمّاسيّة فشافهوا مونسا بالرسالة فلم يبعد عليهم وخرجوا من عنده فقبض عليهم عند مغيب الشمس وحبسهم في الحديدى.
فخرج ياقوت في تلك الليلة ونزل المدائن ومعه ابناه فلمّا كان من غد ذلك اليوم وعرفت المونسيّة انّ ياقوتا وابنيه قد خرجوا عن الحضرة أفرجوا عن الوزير والجماعة وانصرفوا إلى منازلهم.
وقلّد المقتدر ياقوتا أعمال الخراج والمعاون بفارس وكرمان وكتب إلى أبي طاهر محمّد بن عبد الصمد بالانضمام إليه وانضمّ إليه وخاطبه بالأستاذيّة، وقلّد المظفّر بن ياقوت إصبهان وتقلّد ابنا رائق: إبراهيم ومحمّد، مكان ياقوت وأقام ياقوت بشيراز مدّة وكان عليّ بن خلف بن طيّاب متضمنا أموال الضياع والخراج بها فتظافروا وتعاقدوا فقطعا الحمل عن السلطان إلى أن ملك عليّ بن بويه الديلمي فارس يوم السبت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وفيها دخلت قوافل الحاجّ من مكّة سالمين مع مونس الورقائى فاستبشر الناس بتمام الحجّ وانفتاح الطريق وضربت له القباب ببغداد.
وفيها قبض على الوزير سليمان بن الحسن
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ سليمان أضاق إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات وبلّح واتصلت الرقاع ممّن يلتمس الوزارة بالسعاية فقبض على سليمان بن الحسن وأبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى فشقّ من ذلك وجزع جزعا عظيما وحملا إلى دار السلطان.
وكان المقتدر شديد الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع عليه مونس وأشار بتقليد الكلوذانى فاضطرّ المقتدر إلى تقليده. وكانت مدّة وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين وأيّاما.
استحضار الكلوذانى لتقليده الوزارة

واستحضر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى من دار مونس يوم السبت لخمس بقين من رجب وخرج إليه مفلح برسالة المقتدر بأنّه قد قلّده وزارته ودواوينه ولم يوصله إليه وتقدّم إليه بأن ينحدر إليه يوم الاثنين ليخلع عليه. فخاف الكلوذانى من حيلة تتمّ للحسين بن القاسم في تقلّده الوزارة لأنّه بلغه أنّ الحسين قد جدّ بعد القبض على سليمان وراسل مونسا المظفّر وقال:
« لا يؤمن أن يحتجّ الخليفة في تأخّر الخلع على الكلوذانى بأنّه لم تعدّ له الخلع. » وأشار بأن يوجّه مونس بخلع من عنده إلى دار السلطان ليخلعها عليه، ففعل مونس ذلك وخلع المقتدر على أبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى يوم الاثنين وخاطبه بتقليده الوزارة والدواوين وتقدّم إليه بأن يقلّد الحسين بن القاسم ديوانا جليلا ليظهر ويزول عنه الأراجيف بالوزارة.
ووصل عليّ بن عيسى بوصول الكلوذانى فأمره المقتدر بحضرة الكلوذانى بأن يجرى على عادته في الإشراف على الأمور والحضور معه وعرّفه أنّه قد أفرده بالنظر في المظالم دون الكلوذانى فركب الكلوذانى في الخلع من دار السلطان إلى داره فأخذ خطّ سليمان بن الحسن بمائتي ألف دينار.
وقدم أبو الفتح الفضل بن جعفر من الشام وأبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله من نواحي جند قنّسرين والعواصم وكان أبو الفتح منصرفا إلى ناحية قومس فأشار مونس بتقليده ديوان السواد فقلّده الكلوذانى مكرها وانقطعت بتقليده موادّ كانت تصل إلى الكلوذانى وأبي الفياض من أرزاق قوم لا يحصرون وتسبيبات بأسماء قوم لم يخلقوا وما كان يسبّب للغلمان والوكلاء في الدار والحاشية برسم الفقهاء والكتّاب وما كان يستطلق لهم من الورق والقراطيس ويبتاع ببعضه ما يحتاج إليه وأشياء تشبه هذه ولم تنبسط يد الكلوذانى على قوم لعناية مونس المظفّر بهم.
وكان أبو بكر ابن قرابة متحققا بمفلح الأسود فأوصله مفلح إلى المقتدر وجعله واسطة للمرافق التي أخلق بها الخلافة. وكان ابن قرابة ذكر له أنّ الوزراء كانوا يرتفقون بها وأنّ الضمناء قد بذلوا أن يرفقوا به الخليفة ليصرفه في مهمّ نفقاته لشدّة الإضافة.