ليسرى وبعض أصابع يده اليمنى وأثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده وسقط بين القتلى. وورد الخبر بذلك إلى جيرفت فهرب كاتبه كوردفير ومن تأخّر من أصحابه. ولمّا أصبح عليّ بن كلويه أمر بتتبّع القتلى والتماس أحمد بن بويه فوجدوه حيّا. إلّا أنّه قد أشفى على التلف. فحمل إلى جيرفت وأقبل عليّ بن كلويه على علاجه وخدمته وبلغ في ذلك كلّ مبلغ واعتذر إليه وأظهر الغمّ بما أصابه. واتّصل الخبر بعليّ بن بويه فاشتدّ غمّه وقبض على كوردفير وأنفذ مكانه أبا العبّاس وخطلخ حاجبه في ألفى رجل ليجمعا ما بقي من سواد معزّ الدولة - أعنى أحمد بن بويه - بالسيرجان ويضمّا من بقي من فلّ العسكر.
وأنفذ عليّ بن كلويه رسله وكتبه إلى عليّ بن بويه بالاعتذار ممّا جرى ويوضّح له الصورة ويبذل من نفسه الطاعة ويذكر أنّه ما فارقها ولا خرج عنها. فأنفذ إليه عليّ بن بويه قاضى شيراز وأبا العبّاس الحنّاط وأبا الفضل العبّاس بن فسانجس وجماعة من الوجوه وأجابه بالجميل وبسط عذره وأمضى ما كان قرّره وردّ رهينته وجدّد له عهدا وعقدا. فحينئذ أطلق عليّ ابن كلويه أبا الحسين أحمد بن بويه وأطلق معه اسفهدوست وسائر من كان أسيرا في يده بعد أن أجمل معاملتهم وخلع عليهم وحمل إليهم آلات وألطافا.
فلمّا وصل أحمد بن بويه إلى السيرجان وجد كاتبه مقبوضا عليه وقد جرى عليه مكاره عظيمة أشرف منها على التلف فاستنقذه ونصره وبرّأه من الذنب وشفع إلى أخيه فيه فشفّعه وأطلقه.
وتأدّى إلى أبي عليّ ابن الياس ما جرى على أبي الحسين وطمع فيه وسار من سجستان حتى نزل البلد المعروف بخناب فتوجّه إليه أبو الحسين واشتدّت الحرب بينهما أيّاما، إلّا انّ عاقبة الأمر كانت لأبي الحسين.
فانهزم ابن الياس وعاد أبو الحسين ظافرا وتتبعت نفسه التشفي من عليّ بن كلويه وطلب الثأر عنده. فتوجّه إليه واستعدّ عليّ بن كلويه واحتشد ثم سار إليه فلمّا صار بين العسكرين نحو من فرسخين نزل وعملوا على مباكرة الحرب فأسرى عليّ بن كلويه في جماعة من أصحابه وهم قوم رجّالة قادرون على العدو والمصابرة فيه فوقع على عسكر أبي الحسين ليلا.
واتفق أن تغيّمت السماء بمطر جود واختلط الناس فلم يتعارفوا إلّا باللعنات. فأثّروا في عسكر أبي الحسين وقتلوا ونهبوا وانصرفوا وبات عسكر أبي الحسين بقية ليلتهم يتحارسون. فلمّا أصبحوا ساروا إلى القوم فأوقعوا بهم وقتلوا منهم عدّة وانهزم عليّ بن كلويه ورجع أبو الحسين وقد نقع بعض غلّته إلّا أنّ في صدره بعد حزازات.
وكتب إلى أخيه عليّ بن بويه بالبشارة والظفر بابن الياس وانهزامه وبعليّ ابن كلويه وهربه. فورد عليه الجواب بأن يقف حيث انتهى ولا يتجاوزه.
وأنفذ إليه المرزبان بن خسره الجيلي أحد قوّاده الكبار ليبادر به إلى حضرته ويمنعه التلوّم والمراجعة وكاتب سائر القوّاد بمثل ذلك. فرجع إلى حضرته كارها لأنّه ما كان بلغ ما في نفسه من عليّ بن كلويه وأصحابه.
فلمّا وصل إلى إصطخر أقام.
ذكر ما اتفق له من الخروج إلى بلدان العراق حتى ملكها
واتفق أنّ أبا عبد الله البريدي وافى فارس في البحر لاجئا إلى عليّ بن بويه وذلك أنّ محمّد بن رائق وبجكم استظهرا عليه في عدّة حروب وانتزعا الأهواز من يده وأشرفا على انتزاع البصرة منه. فخلّف أخاه أبا يوسف وأبا الحسين عليّ بن محمّد بها. فلمّا ورد حضرة عليّ بن بويه مستصرخا به أكرمه وأحسن ضيافته وبذل له أبو عبد الله - إذا ضمّ إليه الرجال - أن يمكّنه من أعمال العراق ويصحّح له أموالا عظيمة من الأهواز ويسلّم إليه ولدين له رهينة.
واستقدم عليّ بن بويه أخاه أبا الحسين من إصطخر فلمّا قرب منه تلقّاه في جميع عسكره وقرّبه ورتّبه فوق ما كان في نفسه تسلية له عن مصيبته ثم أنهضه مع أبي عبد الله البريدي في عسكر قويّ وعدّة تامّة وسار واتّصل خبره بمحمّد بن رائق وبجكم. فأمّا بجكم فإنّه عاد إلى الأهواز وكان مع ابن رائق بعسكر أبي جعفر محاصرين البصرة وأراد أن يمنع الديلم من تورّد الأهواز. وأمّا ابن رائق فعاد إلى واسط والتقى عسكر بجكم وعسكر أبي الحسين بالقرب من رامهرمز وانحاز بجكم إلى عسكر مكرم بعد حروب سنذكرها إن شاء الله في سنة ستّ وعشرين.
ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
وفيها أشار أبو بكر محمّد بن رائق على الراضي بالله أن ينحدر معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل البريدي فإن انقاد إلى ما يراد منه وإلّا... عليه قصده. فاستجاب الراضي إلى ذلك وانحدر يوم السبت غرّة المحرّم واضطربت الحجريّة وقالوا:
« هذه تعمل علينا ليعمل بنا ما عمل بالساجيّة ونحن نقيم ببغداد. » فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر بعضهم وتأخّر أكثرهم ثم انحدر الجميع.
فلمّا صاروا بواسط عرضهم ابن رائق وبدأ بخلفاء الحجّاب وكانوا نحو خمسمائة حاجب فاقتصر منهم على ستين وأسقط الباقين ونقص أزراق من أقرّ منهم وأخذ يعرض الحجريّة ويسقط منهم الدخلاء والبدلاء والنساء والتجّار ومن لجأ إليهم فاضطربوا من ذلك ولم يستجيبوا إليه. ثم استجابوا وعرضهم وأسقط منهم عددا كثيرا ثم اضطربوا وحملوا السلاح فحاربهم ابن رائق يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرّم حربا عظيمة فكانت على الحجريّة فقتل بعضهم وأسر بعضهم وانهزم الباقون إلى بغداد. فركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداد وأوقع بالمنهزمين واستتروا فنهبت دورهم وأحرق بعضها وقبضت أملاكهم.
فلمّا فرغ ابن رائق من حرب الحجريّة وقهرهم تقدّم بقتل من كان اعتقلهم من الساجيّة فقتلوا سوى صافى الخازن والحسن بن هارون. فلمّا فرغ من الساجيّة والحجريّة عمل الراضي بالله وأبو بكر بن رائق على الشخوص إلى الأهواز ودفع البريدي عنها وأخرجت المضارب إلى باذبين وبلغ البريدي ذلك فقلق قلقا شديدا وأنفذ إلى أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو محمّد الحسن بن إسماعيل الإسكافي برسالة من الراضي بالله ومن ابن رائق يعرّفان أنّه قد أخّر الأموال واستبدّ بها وأفسد الجيوش وحسّن لها المروق وأنّه ليس بطالبيّ يسارع على الملك ولا بجنديّ فيبتغى الإمارة ولا من حملة السلاح فيؤهّل لفتح البلاد المنعلقة وأنّه كان كاتبا صغيرا فرفع بعد خمول وعاملا من أوسط العمّال فاصطنع وأهّل لجليل الأعمال فطغى وكفر النعمة وجازى عن الإحسان بالسوء وخلع الطاعة وأنّه إن سلّم الجند وحمل المال أقرّ على العمالة وإلّا قصد وعومل بما يستحقّ.
فوافياه وأخبراه بما تحمّلاه ونصحا له فعقد على نفسه كور الأهواز بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل منها في كلّ شهر من شهور الأهلّة ثلاثين ألف دينار وأن يسلّم الجيش ممّن يؤمر بتسليمه إليه ممّن يؤمّر عليهم ليخرج بهم إلى فارس للحرب إذ كانوا كارهين للعود إلى الحضرة لضيق الأموال بها ولاختلاف كلمة الأولياء فيها ولأنّهم لا يأمنون الأتراك والقرامطة.
وكاتبا ابن رائق بذلك فعرضه على الراضي بالله وشاور فيه الحسين بن عليّ النوبختي فأشار بألّا يقبل منه ذلك وأن يتمّم ما شرع فيه من قصده ما دام قلبه قد نخب وأن يخرج الأهواز من يده ولا يقارّ بها. وأشار أبو بكر ابن مقاتل بقبول ما بذله وإقراره في ولايته. فمال ابن رائق إلى الهوينا وقبل رأى ابن مقاتل وكان الرأي الصحيح مع النوبختي وكتب إلى ابن شيرزاد وابن إسماعيل وأذن لهما في العقد والإشهار ففعلا وانصرفا.
فأمّا المال فما حمل منه دينار واحد. وأمّا الجيش فإنّه أنفذ جعفر بن ورقاء لتسلّمه والنهوض إلى فارس به فوافى جعفر بن ورقاء الأهواز وتلقّاه أبو عبد الله البريدي في الجيش كلّه كوكبة بعد كوكبة حتى ملأ الأرض بهم واسودّت منهم حافّين بأبي عبد الله حوله فورد على جعفر بن ورقاء ما حيّره.
ثم أنفذت الخلع السلطانيّة إلى أبي عبد الله البريدي بالولاية وعمالة الأهواز فلبسها في جامع الأهواز وانصرف إلى داره فمشى العسكر قوّادهم وفرسانهم وصميمهم وعبيدهم ورجالتهم بخفاقهم وراياتهم وأسلحتهم بين يديه. فيئس جعفر بن ورقاء وكان راكبا معه وانخزل وسقطت نفسه. فلمّا بلغ داره احتبسه واحتبس القوّاد معه والناس، وكان يوما عظيما.
ثم أقام جعفر بن ورقاء أيّاما فدسّ عليه البريدي الرجال فشغبوا وطالبوه بمال يفرّق فيهم رزقة تامّة للنهوض. فاستتر واستجار بالبريدى فأخرجه وعاد إلى الحضرة.
وعنى ابن رائق بأبي الحسين البريدي قبل هذه الحال حتى انحدر من بغداد ولحق بأخويه. ولمّا تقرّر أمر البريدي أصعد الراضي بالله وابن رائق إلى بغداد. ودخل أبو عبد الله الحسين بن عليّ كاتب الأمير ابن رائق بغداد.
ذكر حيلة أبي بكر ابن مقاتل على الحسين بن علي النوبختي حتى عزله عن كتابة ابن رائق
وكان أبو بكر محمّد بن مقاتل متمكّنا من ابن رائق التمكّن المشهور منحرفا عن الحسين بن عليّ النوبختي بعد المودّة الوكيدة. وكان هو أوصله إلى ابن رائق وأدخله في كتابته فلهذا ولأنّ الحسين بن عليّ فوقه ومتفرّد بابن رائق - وهو المدبّر للملك والذي بنى لابن رائق تلك الرتبة العظيمة والذي ساق إليه تلك النعمة وجمع له تلك الأموال التي كان مستظهرا بها من ضمان واسط والبصرة - أشار على ابن رائق أن يعتضد بأبي عبد الله البريدي وأن يستكتبه ليتفق الكلمة ويجتمع جيش الأهواز إلى جيشه وقال له:
« أيّها الأمير لك في ذلك جمال عظيم لأنّه اليوم كالنظير لك فإذا تواضع وصار تابعا جاز حكمك عليه وسيقال لك: إنّ البريدي غدر بالسلطان وبياقوت فكيف تثق به؟ فالجواب عن هذا أنّه ليس يجمعكما أرض فتتمّ حيلته عليك كما تمّت على ياقوت وأنت غير قادر عليه إلّا بحرب وقد يجوز أن تظفر به أو يظهر هو. فإذا كنّا قد انتهينا إلى هذه الحال معه فحطّه من الإمارة إلى الكتابة وتصييره تابعا ثم جذب رجاله وجيشه بالخدعة أو إنفاذه مع بجكم ليفتح لنا فارس وإصبهان أولى من دفعه عمّا سأل وإيحاشه فيحتاط لنفسه ويخبّب الرجال وقد حمل إلى الأمير مع هذا ثلاثين ألف دينار هدية هي في منزلي. » وقال له ابن رائق:
« ما كنت لأصرف الحسين بن عليّ مع نصحه لي وتبرّكى به ولو فتح لي فارس وإصبهان وساقهما إليّ خصوصا وأهداهما لي دون غيري. » قال: « أيّها الأمير فإن كرهت هذا فضمّنه واسطا والبصرة. » فقال: « هذا لفعلته إن أشار به أبو عبد الله الحسين بن عليّ. » قال: « فتكتمه أيّها الأمير خوضنا في الكتابة ولا تذكرها. » وحضر أبو عبد الله الحسين بن عليّ بعد ذلك وعرض عليه هذا الرأي فضجّ منه وعدّد مساوئ البريدي وغدره وكفره الصنائع منذ ابتداء أمرهم وإلى أن كاشفوا بالعصيان، وأعاد حديث ياقوت. ثم التفت إلى ابن مقاتل فقال:
« ما قضيت حقّ هذا الأمير ولا نصحته. » ثم قال:
« أنا عليل أيّها الأمير، فإن عشت وأنا معك فهيهات أن يتمّ عليك وإن مضى فيّ حكم الله فنشدتك الله أن تأنس بالبريدى أو تسكن إليه بشيء من أصناف حيله. » فدمعت عين ابن رائق وقال:
« بل يحييك الله ويهلكه. » وكان الحسين ابن عليّ عليلا من حمّى وسعال. ثم انصرف الحسين بن عليّ وابن مقاتل مغضب. فقال لابن رائق:
« قد حمل الرجل إليك ثلاثين ألف دينار ولا بدّ من أن تعمل به جميلا.
فاقبل أحمد بن عليّ الكوفي خليفة لنا بحضرتك ونائبا عنه إلى أن ترى رأيك. » فقال: « أمّا هذا فنعم. » وكتب ابن مقاتل إلى البريدي بما جرى وأنفذ أحمد بن عليّ الكوفي ووافى حضرة أبي بكر محمّد بن رائق بمدينة السلام واختلط به نيابة عن أبي عبد الله البريدي وثقل الحسين بن عليّ النوبختي فتأخّر عن الخدمة أيّاما.
وكان له ابن أخ قد صاهره فهو يخلّفه في مجلس ابن رائق ويوقّع عنه. فقال أبو بكر ابن مقاتل للأمير ابن رائق:
« حسن العهد من الإيمان وهو من الأمير أحسن لأنّه عائد بالسلامة عليّ ولكن إضاعة الأمور ليس من الحزم والحسين بن عليّ ميّت فانظر لنفسك فإنّ الأمور قد اختلّت. » فقال: « يا هذا، الساعة والله سألت سنان بن ثابت عنه فقال: قد صلح وخفّ النفث وأنّه أكل الدرّاج. » فقال: « سنان رجل عاقل ولا يحبّ أن يلقاك فيمن تعزّ بما تكره ولا سيّما هو وزير الزمان ولكن صهره وابن أخيه خليفته أحضره وحلّفه أن يصدقك. » قال: « افعل. » وانصرف ابن مقاتل ودعا عليّ بن أحمد بن أخي الحسين بن عليّ وقال له:
« قد مهدّت لك كتبة الأمير وواقفته على تقلّدك إيّاها وهي وزارة الحضرة وعمّك ذاهب فإن سألك فعرّفه أنّه ميّت لا محالة. فإنى أعود إليه وأناجزه فيخلع عليك قبل أن يطمع فيها غيرك. » فاغترّ عليّ بن أحمد وسأله محمّد بن رائق من غد بعد أن أخلى نفسه عن خبر عمّه. فكان جوابه أن بكى وقال:
« أعظم الله أجرك أيّها الأمير في أبي عبد الله عدّه من الأموات. » ثم لطم وجهه. فقال ابن رائق:
« لا حول ولا قوّة إلّا بالله أعزز عليّ به، لو فدى حيّ ميّتا لفديته بملكي كلّه. » واستدعى ابن مقاتل فقال له:
« كان الحقّ معك قد يئسنا من الحسين بن عليّ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فأيّ شيء نعمل؟ » فقال: « هذا أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي نظير الحسين بن عليّ وكانا صنيعتي إسحاق بن إسماعيل النوبختي، هو في نهاية الثقة والعفاف وهو خصيص بأبي عبد الله البريدي وإن أنت استكتبته اجتمعت لك كفاية إلى عفافه واستقصائه وانضاف إلى ذلك كلّه حصول أولئك في جملتهم وانقطاعهم إليك ونعتدّ على أبي عبد الله أنّا قد أجبناه إلى ما سأل من كتابتك واستخلفنا صاحبه أبا عبد الله الكوفي. » فقال: « استخر الله وافعل ولكن عهدة أبي عبد الله الكوفي عليك ألّا يغشّنى ويؤثر البريدي في حال من الأحوال. » فقال: « أنا الضامن عن أبي عبد الله الكوفي كلّ ما شرطه الأمير. » فاستكتبه فدبّر الأمور كلّها كما كان يدبّرها الحسين بن عليّ وأسقط من الكتب التي تكتب عن ابن رائق وكتب: « فلان بن فلان ». وكان الحسين بن عليّ يكتب ذلك على رسم الوزارة فكانت مدّة تدبير الحسين بن عليّ النوبختي لأمور المملكة ثلاثة أشهر وثمانية أيّام.
وكتب أبو بكر ابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يعتدّ عليه بما احتال له حتى زحزح الحسين بن عليّ وساق الأمر إليه واستخلف له أبا عبد الله الكوفي فحمل إليه أبو عبد الله البريدي عشرة آلاف دينار وحمل إلى ابن رائق عشرين ألف دينار بعد الثلاثين الألف الدينار التي قدّمنا ذكرها. واستقلّ الحسين بن عليّ النوبختي وصحّ جسمه وعوفي فكتم ذلك عن ابن رائق وتمكّن البريديون حتى غلبوا على البصرة.
ذكر الخبر عما احتالوا به واتفق أيضا لهم
لمّا مضى شهر من استكتاب ابن رائق أبا عبد الله الكوفي [ حتى ] شرع لأبي يوسف البريدي في ضمان البصرة وواسط فأشار عليّ بن رائق بذلك فقال:
« لا أفعل ولا أثق بهما. » قال له:
« ولم أيّها الأمير؟ أمّا واسط فأنا مدبّرها وليس يرد لهم إليها ولا راجل، وعليّ توفية مالها. وأمّا البصرة فقد قرّرت أمرها على أربعة آلاف ألف درهم على أن يقيم لي بها ضمناء ثقات. »
وأشار أبو بكر بن مقاتل بمثل ذلك فأذن ابن رائق في العقد عليه فقلّد أبو يوسف أبا الحسن ابن أسد أعمال الخراج بالبصرة وكان والى الحرب بها محمّد بن يزداد فخرج أهل البصرة بأجمعهم إلى سوق الأهواز لتهنئة البريدي بالولاية وكان جمعهم عظيما جدا. وكان أبو الحسين ابن عبد السلام الهاشمي وجيه البصرة قد شذّ عن ابن رائق لأنّه قصّر به وحطّ منه بالبصرة، فقصد أبا عبد الله البريدي وأبا يوسف أخاه فطرح نفسه كلّ مطرح عندهما وأشار إليهما بالغلبة على البصرة وإنفاذ العساكر إليها وذكر طاعة الخول وأهل الأنهار له.
فأخذ أبو عبد الله في بناء الشذاءات والزبازب والطيّارات والاستكثار منها حتى اجتمعت له مائة قطعة في نهاية الوثاقة والجودة. فحين وافاه أهل البصرة للتهنئة قرّبهم وأكرمهم ورفع منهم وقال:
« قد اطّلع أبو الحسين بن عبد السلام على نيّتى الجميلة فيكم ومحبتي لصلاحكم وإعداد آلة الماء للجيوش الذين أحصّن بهم بلدكم من القرامطة وكنت مستغنيا عن ضمان البصرة إذ لا فائدة لي فيها وإنّما امتعضت لكم من ظلم ابن رائق ومحمّد بن يزداد خليفته لكم وتحمّلت في مالي أربعة آلاف دينار في كلّ شهر بإزاء ما كان يؤخذ من الشرطة والمآصير والشوك تخفيفا عنكم وقد أزلت جميعها وهذا خطّى برفعها عنكم. » ووقّع بذلك توقيعا وسلّمه إليهم وكثر الدعاء والضجيج بشكره. ثم قال لهم:
« إنّه سيبلغ هذا ابن رائق فينكره ويوحشه مني ويصير سببا للعداوة بيني وبينه. وو الله ما أبالى أن يعاديني أخواى أبو يوسف وأبو الحسين وابني أبو القاسم في صلاحكم. لأنى أعلم أنّ فيكم بنى هاشم وطالبيين وأولاد المهاجرين والأنصار، ومن حرمة الإسلام صيانتكم وأنّى لأقدر أنّ الله عز وجل يغفر لي كلّ ذنب بإزالة الأذيّة عنكم وسيروم ابن رائق ردّ ما قد أزلته عنكم من هذا الحطام الذي كان يأخذه. فأين السواعد القويّة والنفوس الأبيّة التي حاربت عليّ ابن أبي طالب صلوات الله عليه. فمتى رام ابن رائق نقض ما عملت فاضربوا وجهه ووجوه أصحابه بتلك السواعد والسيوف وأنا من وراءكم. » ثم ذكر أهل البصرة بأيّامهم مع عبد الرحمن بن الأشعث ومحمّد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن وقال:
« لتكن قلوبكم قويّة وآمالكم فسيحة ونفوسكم شديدة في مجاهدة عدوّكم. » ثم وقّع للنفقة على المسجد الجامع بالبصرة بألفي دينار وقال:
« بلغني أنّه خراب. » وعرضت عليه الرقاع بالحاجات فوقّع بحطائط ونظر وصلات وتخفيف في المعاملات بألفي ألف درهم وانصرفوا عنه وقد صاروا سيوفه. وسيّر إقبالا غلامه وحاجبه وكانت له نوبة مع أبي جعفر الجمّال وضمّ إليه ألفى رجل وقال:
« أقيموا بحصن مهدى إلى أن نكاتب إقبالا الحاجب بالمسير بهم إلى البصرة. » واتّصل ذلك بأين يزداد فقامت قيامته.
وفي هذه السنة قلّد محمّد بن رائق أبا الحسين بجكم الشرطة بمدينة السلام وقلّد الحسين عمر بن محمّد قضاء القضاة مع الأعمال التي إليه. وأمر الغلمان الحجريّة المستترين ببغداد فظهروا وصاروا إليه بالسلاح فعرضهم وأمضى من جملتهم نحو ألفى رجل وأثبتهم برزق مستأنف على ما رآه وأسقط الباقين وأخرج من أمضاه وقرر رزقه إلى الجبل. فلمّا صاروا بطريق خراسان أجمع رأيهم على المضيّ إلى الأهواز فمضوا إلى أبي عبد الله البريدي فقبلهم وأضعف أرزاقهم وخاطبهم بالترثّى لهم ممّا جرى عليهم من ابن رائق والتعجب منه ووعدهم الإحسان التامّ. وأظهر للسلطان وابن رائق أنّه لم يكن به طاقة لمّا صاروا إليه أن يدفعهم وأنّه اضطرّ إلى قبولهم وجعلهم حجّة في قطع ما كان ووقف على حمله واحتجّ بأنّهم اجتمعوا مع الجيش ومنعوه من حمل مال البلد وغلب على الأهواز والبصرة.
انقسام الدولة العباسية إلى دويلات
فصارت الدنيا في أيدى المتغلّبين وصاروا ملوك الطوائف وكلّ من حصل في يده بلد ملكه ومنع ماله.
فصارت واسط والبصرة والأهواز في أيدى البريديين وفارس في يد عليّ بن بويه وكرمان في يد أبي عليّ ابن إلياس وإصبهان والريّ والجبل في يد أبي عليّ الحسن بن بويه ويد وشمكير يتنازعونها بينهما والموصل وديار ربيعة وديار بكر في أيدى بنى حمدان ومصر والشام في يد محمّد بن طغج والمغرب وافريقية في يد أبي تميم والأندلس في يد الأموي وخراسان في يد نصر بن أحمد واليمامة والبحرين وهجر في يد أبي طاهر ابن أبي سعيد الجنّابى وطبرستان وجرجان في يد الديلم، ولم يبق في يد السلطان وابن رائق غير السواد والعراق.
ولمّا حصلت ديار مضر خالية قد خربت وضاق مالها عن كفاية السلطان خرج عنها بدر الخرشنى - وكان يتولّى الحرب بها - وعاد إلى الحضرة. فلمّا خلت من صاحب معونة، قصدها عليّ بن حمدان فغلب عليها. وزاد في مرض أبي عبد الله الحسين بن عليّ النوبختي ما رآه من انتقاض كلّ ما كان نظمه وما تمّ عليه من الحيلة، فآل أمره إلى السلّ.
وفي هذه السنة انكشفت الوحشة بين محمّد بن رائق وبين البريديين
ذكر السبب في ذلك
اتفق أن وافى أبو طاهر القرمطي الكوفة فدخلها في شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين. فخرج ابن رائق من بغداد ونزل في بستان ابن أبي الشوارب بقنطرة الياسريّة وأنفذ أبا بكر ابن مقاتل برسالة إلى أبي طاهر الهجري. وكان أبو طاهر يطالب بأن يحمل إليه السلطان في كلّ سنة مالا وطعاما بنحو مائة وعشرين ألف دينار ليقيم في بلده. وبذل له ابن رائق بأن يجعل ما التمسه رزقا لأصحابه على أن يكسر لهم السلطان جريدة وينفق فيهم ويدخلوا في الطاعة ويستخدموا. وجرت خطوب بينهما ومخاطبات انصرف معها أبو طاهر إلى بلده من حيث لم يتقرّر له أمر مع ابن رائق وبلغ ابن رائق إلى قصر ابن هبيرة ثم عاد منها إلى واسط وكاشف البريدي واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات.
ذكر السبب في ذلك
كان ظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزر أبا الفتح جذب له الأموال من مصر والشام. فقدم أبو الفتح من الشام ولزم سليمان بن الحسن منزله وكان حمل إليه الخلع قبل وصوله إلى بغداد فوصلت إليه وهو بهيت فلبسها. ثم دخل بغداد وأقرّ أبا القاسم الكلوذانى على ديوان السواد واستخلف بالحضرة أبا بكر عبد الله بن عليّ النفرى وهو زوج أخته وكتب السلطان في استيزاره أبا الفتح كتابا نفذ إلى أصحاب الأطراف.
ولمّا بلغ ابن رائق ما خاطب البريدي به أهل البصرة قلق وتغيّر للكوفى واتّهمه وهمّ بالقبض عليه، فحامى عنه أبو بكر ابن مقاتل، ثم رأى أنّه يغالط ابن البريدي بكتاب إليه. فقال للكوفى أنّه بلغني أنّ صاحبك خاطب أهل البصرة بما أنا معرض عنه فإنّه ربّما وقع التزيّد في مثله ولكن اكتب إليه:
« إنّ الذي أنكرته قبولك الحجريّة. فأمّا إذا تردهم وإمّا أن تطردهم وإن استأذنوك في ناحية يقصدونها فاضمم إليهم من رأيت من قوّادك وأنفذهم إلى الجبل وهذا العسكر الذي أنفذته إلى حصن مهدى، فأنا أعلم أنّه لمّا اتّصل ورود الهجري إلى الكوفة استظهرت بإنفاذه ليعين من فيها عليه إن احتيج إلى ذلك وقد استغنى الآن عنهم وفي مقامهم بالحصن مع الاستغناء عنهم تسليط الظنون السيّئة عليك وإيجاد أعداءك سبيلا إلى التضريب بيني وبينك.
« وبلغني أنّك قد كنت أنفذت أبا جعفر محمّدا غلامك إلى السوس - وكان قد أنفذه على الحقيقة - وأمرته أن يقصد الطيب ويقيم بها إشفاقا من أن يلحقني وهن من القرامطة فإن احتيج إليه لحماية واسط كان قريبا وإني لمّا وافيت كاتبته بالانصراف فعاد إلى الأهواز، وهذا مشكور. فاعمل في أمر إقبال ومن أنفذته إلى حصن مهدى كهذا العمل، ثم أنا لك على الوفاء. »
فكتب الكوفي بهذا كلّه. فكان الجواب:
« إن جيشه القديم متشبّثون بالحجريّة لأنّهم أقاربهم وبين القوم وصل ورحم وبلديّة ولا يمكن إخراجهم جملة واحدة ولكنّه على الأيّام يفرّق شملهم، وإنّ الأخبار تواترت بأنّ القرمطي لمّا انصرف عن الكوفة قصد البصرة واستجار به أهلها فأنفذ هذا العسكر إشفاقا عليها وأنّهم قد حصلوا بها. » وكان البريدي ساعة ورود الخبر عليه بنزول ابن رائق واسط أنفذ إلى من بحصن مهدى بدخول البصرة فدخلوها بعد أن أنفذ من الحجريّة قطعة وافرة لمعاضدتهم على دخولها. وأخرج محمّد بن يزداد تكان الصغدي وتكين - وكانا تركيّين من شحنة البصرة - لحربهم فوقعت بينهم وقعة في نهر الأمير انهزم بها الرائقيّة. ثم زاد محمّد بن يزداد في عدّتهم بالإثبات وبغلمان نفسه. فكانت الوقعة الثانية بكسر أبان وبينها وبين الأبلّة فرسخ.
فانهزم الرائقيّة هزيمة ثانية ودخل إقبال وجيش البريدي البصرة.
وأمّا محمّد بن يزداد صاحب ابن رائق فإنّه فتح باب البصرة وهرب على طريق البرّ إلى الكوفة.
وأمّا تكان وتكين ورجال الماء من الرائقيّة فإنّهم اهتدوا في زبازبهم إلى واسط.
وورد الخبر على ابن رائق بحصول إقبال غلام البريدي وأصحابه بالبصرة وجواب كتاب الكوفي في أيّام متقاربة. فأنفذ رسولا إلى البريدي برسالة قسّمها بين إرغاب وإرهاب ووعد ووعيد فكان من جوابه:
« إنّه لا يمكنه ردّ رجاله من البصرة، لأنّ أهلها قد أنسوا بهم واستوحشوا من قبيح ما عاملهم به ابن يزداد في أيّامه لأنّ القرمطي طامع في البلد وليس يأمن متى كاتبهم بالانصراف أن يدخل القرامطة إلى البصرة ضرورة، لئلّا تعود المعاملة بين أهلها وبين ابن يزداد بعد أن كاشفوه. » وقد كان لعمري أهل البصرة في نهاية الاستيحاش من ابن رائق ومحمّد بن يزداد، فإنّ محمّد بن يزداد سار بهم سيرة سدوم وظلمهم في معاملاتهم ظلما مفرطا وسامهم الخسف وكانوا قد اعتادوا العزّ وقدّروا بالبريدى خيرا ثم رأوا منه ومن أخويه ما ودّوا أنّهم أكلوا الخرشف والخرنوب وصبروا على محمّد بن رائق ومحمّد بن يزداد ومعاملته.
ولمّا عاد الرسول بالجواب كان ابن رائق قد استدعى بدرا الخرشنى وأكرمه وخلع عليه خلعا سلطانيّة وحمله. وترجّح الرأي في تسيير الجيوش إلى الأهواز والبصرة ثم استقرّ الرأي على أن يقلّد بجكم الأهواز بعد حديث لبجكم في ذلك مع ابن مقاتل سنذكره فيما بعد إن شاء الله. وخلع عليه ابن رائق لذلك وسيّره وبدرا الخرشنى إلى الأهواز وضمّ إليه ابن أبي عدنان الراسبي دليلا ومعينا وأنفذ حاجبه فاتكا وعبد العزيز الرائقى وأحمد بن نصر القشوري وبرغوثا وأمرهم أن يقيموا بالجامدة ويحصل جيش البريدي بين حلقتى البطان فبادر بجكم ولم يتوقّف على بدر الخرشنى ونفذ أمامه فوصل إلى السوس وأخرج البريدي محمّدا غلامه المعروف بأبي جعفر الجمّال في عشرة آلاف رجل بأتمّ آلة وأكمل سلاح للحرب.
فوقعت الحرب بظاهر السوس ومع بجكم مائتان وتسعون غلاما من الأتراك فانهزم البريديّة يوم نزول بدر بالطيب.
وقال بجكم:
« إنّما بادرت وحملت على نفسي ما حملت ولاقيت هذه العدّة العظيمة بهذه العدّة اليسيرة لئلّا يشركني بدل في الفتح. » وعاد أبو جعفر الجمّال إلى أبي عبد الله البريدي فصفعه بخفّة وقال:
« انهزمت مع عشرة آلاف من بين يدي ثلاثمائة غلام. » فقال له:
« أنت ظننت أنّك تحارب ياقوتا المدبر وجيشه المدابير. قد والله جاءك من لتّ بجكم والأتراك خلاف ما عهدت من سودان باب عمان والمولّدين. » فقام إليه فلكمه بيده ثم قال له:
« قد أنفذت أبا الخليل الديلمي ومن معي من العجم ومن كان يخلّف بالأهواز في ثلاثة آلاف رجل إلى تستر فانفذ الساعة مع من صحبك إليها حتى تجتمع معهم وتعاود الحرب. » فقال: « افعل وسنعود إليك هذه الكرّة بأخزى من الكرّة الأولى لأنّ هيبة بجكم قد تمكّنت في نفوس أهل العسكر. » ونفذ للوقت في ثلاثة آلاف رجل ووافى بجكم إلى نهر تستر فطرح نفسه وغلمانه أنفسهم في الماء للعبور سباحة وكان الماء قليلا فانهزم القوم بغير حرب وعادوا إلى أبي عبد الله. فخرج في الوقت مع أخويه وجلسوا في طيّار ومعهم حديدي فيه ثلاثمائة ألف دينار كانت في خزائنهم فغرقت بالنهروان وغرق الطيّار وأخرجهم الغوّاصون وأخرج لبجكم بعض المال. فقال أبو عبد الله:
« ما نجونا والله من الغرق بصالح أعمالنا ولكن لصاعقة يريدها الله بهذه الدنيا. » فقال له أبو يوسف:
« ويحك، ما تدع التنادر في هذه الحال. » ثم وافوا البصرة ودخل بجكم الأهواز وكتب إلى ابن رائق بالفتح.
ولمّا وصل أبو عبد الله إلى الأبلّة ومعه أخواه أنفذ إقبالا غلامه إلى مطارا وأقام هو وأخواه في طيّاراتهم وأعدّوا ثلاثة مراكب للهرب منها إلى عمان إن اتفق على إقبال بمطارا من الهزيمة مثل ما تمّ على أبي جعفر بالسوس.
وأخرج أبو عبد الله البريدي أبا الحسن ابن عبد السلام لمعاضدة إقبال، فانهزم الرائقيّة وأسر برغوث وحمل به إلى البريدي فأطلقه، وكتب إلى ابن رائق كتابا يستعطفه فيه وأنفذه إليه مع برغوث ودخل البريون الثلاثة إلى الدور فنزلوها وسكنوا واطمأنّوا ولم يمكن بجكم أن يسير من الأهواز لخلوّ الأهواز من آلة الماء وشغب رجال بدر عليه فانصرف إلى واسط وملك بجكم الأهواز.
ولمّا عرف ابن رائق ما جرى على رجاله في الماء أنفذ أبا العباس أحمد بن خاقان وجوامرد الرائقى إلى المذار على الظهر لمحاربة البريدي وإخراج أصحابه وسيّر بدرا الخرشنى إلى البصرة في الماء في شذاءات مقيّرة بناها بواسط. فانهزم الرائقة من المذار وأسر أبو العبّاس ابن خاقان ورجع جوامرد إلى واسط وأحسن البريدي إلى ابن خاقان واستحلفه ألّا يعود لمحاربته ولا يشايع عليه وأطلقه.
واتّصل خبر هذه الهزيمة بابن رائق فسار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم أن يلحق به إلى عسكر أبي جعفر. فاتفق أن سار بدر الخرشنى في الماء إلى نهر عمر ووافى إلى البصرة وملك شاطئ الكلّا وحصل إقبال غلام البريدي في حدود واسط لمّا عرف خروج ابن رائق عنها وبلغ ابن رائق ذلك فردّ فاتكا حاجبه إلى واسط ليحفظها.
ولمّا ملك بدر الخرشنى الكلّا هرب أبو عبد الله البريدي للوقت إلى جزيرة أوال وخرج من كان بالبصرة من الجند لدفع بدر وانضاف إليهم عالم عظيم من العامّة فاضطرّ بدر إلى الإفراج عن شاطئ الكلّا وحصل بالجزيرة التي بإزاءه واستتر أبو يوسف البريدي وركب أخوه أبو الحسين يحض الجند والعامّة ووافى بجكم إلى ابن رائق وهو في عسكر أبي جعفر يوم ورود بدر لكلّا ولمّا كان وقت العصر عبر ابن رائق وبجكم دجلة البصرة ودخلا نهر دبيس وتبعهما أحمد بن نصر القشوري فرمى بالحجارة وغرق زبزبة واجتمع بدر وابن رائق وبجكم في الجزيرة فشاهدوا أمرا عظيما وخطبا جليلا من العامّة وتكاثرهم عليهم. فقال بجكم لابن رائق:
« ما الذي عملت بهؤلاء القوم حتى قد أحوجتهم إلى ما خرجوا إليه؟ » فقال: « لا والله ما أدري. » وانصرف بجكم وابن رائق إلى عسكر أبي جعفر ولمّا جنّ الليل وجاء المدّ انصرف بدر إليهما.
وبلغ إقبالا خبر بدر في نفوذه في الماء إلى البصرة من الجامدة ومخالفته إيّاه الطريق فكرّ راجعا ووافى في اليوم الثاني وقت العصر إلى شاطئ الكلّا ونفذ إلى شاطئ الأبلّة وحال بين ابن رائق وبجكم وبدر وبين الابلّة وصارت الحرب في دجلة وطالت المنازلة.
ونفذ أبو عبد الله البريدي من جزيرة أوال إلى فارس واستجار بعليّ ابن بويه فأنفذ معه أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه لفتح الأهواز.
وورد الخبر بذلك على ابن رائق وأصحابه فتقدّم ابن رائق إلى بجكم بالمبادرة إلى الأهواز لحمايتها فقال بجكم:
« لست أحارب الديلم وأدفعهم عن الأهواز إلّا بعد أن تحصل لي أمارتها حربا وخراجا. وأنت تعلم أنّى ما صبرت لأبي العبّاس الخصيبي لمّا قلّدته الأهواز حتى صرفته أصبر لعليّ بن خلف بن طناب أن يتحكّم في بلد أحارب عنه؟ » وكان عليّ بن خلف بالأهواز من قبل الوزير أبي الفتح فضمن ابن رائق بجكم الأهواز وكورها بمائة وثلاثين ألف دينار محمولة في السنة على أن يوفى رجاله مالهم ويستوفى ما يخصّه وغلمانه، وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار. ولمّا كان بعد شهر أو دونه من نفوذ بجكم إلى الأهواز انصرف ابن رائق أيضا من عسكر أبي جعفر ومضى إلى الأهواز وأحرق ما بقي من سواده لاتفاق سيّئ اتّفق عليه.
ذكر اتفاق سيئ اتفق على ابن رائق حتى انهزم إلى الأهواز وأحرق سواده
كان طاهر الجبلي وافى إلى واسط مستأمنا إلى ابن رائق فلم يجده بها وقصده إلى عسكر أبي جعفر فتلقّاه في طريقه كتاب ابنه وجاريته بحصولهما في يد ابن البريدي، لأنّ أبا عبد الله كان بفارس فقبل ابنه وجمع بينه وبين الجارية فعبر بالليل في مائتي رجل. وزعق بابن رائق وبدر الخرشنى ووازره جميع أصحاب البريدي من عسكر الماء. فأمّا بدر فإنّه انهزم إلى واسط. وأمّا ابن رائق فإنّه مضى إلى الأهواز وأكرمه بجكم وخدمه وأشير على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل. وأقام أيّاما حتى وافاه من واسط فاتك غلامه ثم سار إليها وخلّف بجكم بالأهواز.
وأمّا حديث بجكم مع ابن رائق الذي وعدنا به فهو ما حكاه ثابت ابن سنان عن والده سنان.
ذكر حكاية عن بجكم تدل على حصافة وبعد غور وكبر همة
قال ثابت: حدّثني والدي أنّ بجكم قال له بعد أن ملك الحضرة وأزال أمر ابن رائق في عرض حديث جرى بينهما:
سبيل الملك إذا حزبه أمر من الأمور أن يكون جميع ما يملك من مال وغيره، أقلّ في عينه من التراب، وأن تحذف جميعه كما حذفت هذه الحصاة فيما يقدر به زوال ما قد أظلّه. فإنّ دولته إذا ثبتت أمكنه أن يستخلف أضعاف ما خرج عن يده وإن هو بخل وشحّت نفسه وتهيّب إخراج ما في يده ذهب ما بخل به وذهبت معه نفسه.
أذكر وقد قلّدنى ابن رائق الأهواز ولم يكن ما فعله من ذلك برأى أبي بكر ابن مقاتل ولا شاوره فيه. فلمّا بلغ ابن مقاتل الخبر شقّ عليه ذلك جدّا وبادر إلى ابن رائق وقال له:
« أيّ شيء عملت، قد عزمت على أن تقلّد بجكم الأهواز؟ » قال ابن رائق:
« نعم. »
قال: « قد أخطأت على نفسك نهاية الخطأ. أنت لا تقوى ببني البريدي وهم كتّاب أصحاب دراريع، ولا يمكنك صرفهم ولا انتزاع المال من أيديهم.
تقلّد رجلا تركيّا صاحب سيف إنّما صحبك قريبا مثل الأهواز ما هو إلّا أن تحصل الأهواز في يده ويرى جلالتها وحسنها وكثرة أموالها وما يحصل عنده من الجيش بها حتى تحدّثه نفسه بالتغلّب عليها. ثم لا يقتصر عليها حتى يطمع في غيرها وتنازعه نفسه إلى أن ينازعك أمرك ويزيلك عن موضعك ويصير هو مكانك ليأمن على ما حصل له ولا يكون له منازع عليه. وأنت الساعة على طمع في أن تنتزع البلد من يد البريدي. فإن قلّدته بجكم فاحسم طمعك عنها وأخرجها من قلبك واصرف همّتك إلى حفظ - غيرها وليته ينحفظ - واحفظ مهجتك فقد عرّضتها للتلف. » ففتأ رأى ابن رائق وصرفه عمّا عزم عليه في أمري ولعمري لقد صدقه ونصحه وأشار بالرأي الصحيح. وبلغني ما جرى بينهما فقامت قيامتي منه ورأيت أنّه يفوتني ما حدّثت نفسي به من الملك فقلقت وشاورت محمّد بن ينال الترجمان فلم يكن عنده رأى. فأخذ يسلّينى ويقول لي:
« أنت في نعمة وراحة ومحلّك من هذا الملك محلّ الأخ. » فقلت له:
« أنت أحمق، امض حتى تعدّ سميريّة في هذه الليلة المقبلة. » وعملت على قصد ابن مقاتل وعلمت أنّه تاجر عامّى صغير النفس وإنّ الدرهم ليعظم في نفوس أمثاله. فلمّا كان الليل ونام الناس حملت معي عشرة آلاف دينار ونزلت إلى السميريّة وأخذت معي محمّد بن ينال وحده ولم آخذ غلاما وصرت إلى بابه فوجدته مغلقا ودققت فخاطبني بوّابه من وراء الباب وأعلمني أنّ الرجل نائم وأنّ الأبواب بيني وبينه مغلقة. فقلت له:
« دقّ الباب وأنبهه، فإني حضرت في مهمّ. » ففعل ودخلت إليه وقد انزعج عن فراشه لحضورى في مثل ذلك الوقت فقال:
« ما الخبر؟ » فقلت: « خير وأمر أردت أن ألقيه إليك على خلوة، فانتظرت نوم الناس وخلوّ الطريق ولم آخذ معي غير الترجمان. ولو لا أنّى أردته ليترجم بيني وبينك لما أحضرته ولا أطلعته على ما أخاطبك به. » قال: فقال:
« قل ما تحبّ. » قلت: « قد علمت ما كان عزم عليه الأمير في بابى من تقليدي الأهواز، وبلغني أنّه توقّف عن ذلك ولست أعرف سبب توقّفه وفي إبطاله ما عزم عليه بطلان جاهي بعد اشتهاره وغضّ مني. ولا يشكّ أحد أنّه لسوء رأي وأنا صنيعتك وصنيعته وغرسكما وإن لم أحظ في أيّامكما فمتى أحظى وأيّ مقدار يكون لي عند الناس. وهذه عشرة آلاف دينار قد حملتها إلى خزائنك، وأنا أعلم أنّه يقبل منك، وأريد أن تشير عليه بإمضاء ما كان عزم عليه. » فلمّا رأى الدنانير تخربق وقال:
« دعني وانصرف في حفظ الله. » فتركت الدنانير بحضرته وانصرفت وأنا واثق بحصول الأهواز لي. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام صار ابن مقاتل إلى ابن رائق فقال له:
« أشرت بذلك الرأي على الهاجس وظاهر النظر. فلمّا تأمّلت الحال وجدت الصواب معك لأنّك إن تركت الأهواز في يد ابن البريدي وأخوته بعد ما حصل لهم من الأموال ازداد كلّ يوم قوّة وطمعا ومدّوا أيديهم إلى غيرها من أعمالك وبلدانك ودبّ فسادهم إلى عسكرك بكثرة ما يبذل ويعطى ولا يبعد بعد ذلك منازعتهم لك على أمرك هذا. وإن خرجت إليهم بنفسك فهي حرب ولا تدرى كيف تكون، فإن كانت عليك لم تشدّ منها حزاما أبدا، وإن وجّهت بغير بجكم استضعف وغلب وكسر ذلك قلوب أصحابك ولأن تصدمهم بمثل بجكم وهم لا يطمعون في مقاومته أصلح. فإن حصل له البلد استأصل شافتهم. ثم أنت مالك أمرك: إن شئت أقررته وإن شئت صرفته قبل أن يتمكّن وقبل أن يجتمع أمره ويحدّث نفسه بشيء تكرهه فاستخر الله وامض أمره. » فقبل رأيه وأمضى أمري وقلّدنى ولم أستقلّ ولاية الأهواز بذلك المال، وباع ابن مقاتل روحه وروح صاحبه ونعمته بعشرة آلاف دينار واستخلفت أنا مكان الدنانير أضعافها وحصل لي ملك ابن رائق.
شرح حال أبي الحسين أحمد بن بويه وأبي عبد الله البريدي في قصدهم الأهواز لمحاربة بجكم وذلك في سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة ودخلت سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة
قد ذكرنا حال أبي عبد الله البريدي وقصده عليّ بن بويه وأنّه تقدّم إلى أخيه أحمد بن بويه بالمسير إلى الأهواز معه. وخلّف أبو عبد الله البريدي عند عليّ بن بويه ابنيه أبا الحسن محمّدا وأبا جعفر الفيّاض رهينة وسار مع الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز.
وورد الخبر على بجكم بنزول أحمد بن بويه أرجان. فخرج بجكم لحربه فانهزم من بين يديه وكان أوكد الأسباب في هزيمته أنّ المطر اتّصل أيّاما كثيرة فعطّلت القسيّ. ومنع الأتراك أن يرموهم بالنشّاب. فعاد بجكم وأقام بالأهواز وقطع قنطرة أربق وأنفذ محمّد بن ينال الترجمان إلى عسكر مكرم ووقعت النازلة بينه وبين محمّد بن ينال الترجمان ثلاثة عشر يوما.
ثم عبر أحمد بن بويه بخمسة من الخاصّة في سميريّة إلى مشرعة يعرف بمشرعة الحناس فهزموا من كان رتّب فيها وما زال يعبر بقوم بعد قوم حتى حصل ثلاثمائة رجل في الجانب الغربي. ثم ضربوا بالبوق واشتملوا فانهزم الترجمان وأخذ إلى تستر، وبلغ الخبر بجكم فعبر دجلة الأهواز وقبض على الوجوه بها وفيهم ابن أبي علّان وأبو زكريّا السوسي. وحمل الجميع معه والتقى مع الترجمان بالسوس وسار بجميع عسكره إلى واسط.
ولمّا حصل بالطيب كتب إلى ابن رائق بالخبر وأنّه قد حرب هو ورجاله فلم يبق لهم حال وأنّ الرجال سيطاولونه وإن كان عنده مائتا ألف دينار ينفقها فيهم فإنّهم فقراء، فالوجه أن يقيم وإن كانت متعذّرة فالصواب أن يصعد إلى بغداد فإنّه لا يأمن أن يقع شغب ولا يدرى عن أيّ شيء ينكشف.
فرهب ابن رائق هذه الحال وبادر وخرج إلى بغداد بعسكره ودخل بجكم وأصحابه واسطا وأقاموا بها واعتقل الأهوازيين وطالبهم بخمسين ألف دينار.
فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد: « أردت أن أسبر ما في نفسه من طلب العراق فراسلته وقلت له:
« أيّها الأمير أنت مطالب بملك ومرشّح نفسك لخدمة الخلافة تعتقل قوما منكوبين قد سلبوا نعمهم وتطالبهم بمال في بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حتى جعل في أمسنا طشت فيه جمر على بطن سهل بن نظير الجهبذ. أولا تعلم أنّ هذا إذا سمع به أوحش منك وحاربك وعاداك من لا يعرفك ولا يسمع بخبرك فضلا عمّن تحقّق فعلك هذا؟ أو ما تذكر إنكارك على الأمير ابن رائق بالأمس إيحاشه أهل البصرة وعوامّ بغداد أضعافهم؟ وقد حملت نفسك في أمرنا على مثل ما كان يعمله مرداويج بأهل الجبل. وهذه بغداد ودار الخلافة لا الريّ وإصبهان ولا تحتمل هذه الأخلاق. » فلمّا سمع ذلك انحلّ وبعث فحلّ القيود وأزال المطالبة. ثم شفّع ابن رائق وابن مقاتل والكوفيّ في يحيى بن سعيد السوسي، فأطلقه واختصّه لعقله ولما تبيّنه من نفاقه على كلّ أحد وشفّع يحيى بن سعيد في الباقين وكفّل بهم فأطلقهم. ولمّا عرف عليّ بن بويه حصول طاهر الجيلي بالبصرة وفي نفسه عليه ما كان عامله به بأرجان، كتب إلى أخيه أبي الحسين أن يطالب أبا عبد الله البريدي به ويقبض عليه ففعل ذلك وأنفذ إلى فارس ولمّا انهزم الترجمان عبر أحمد بن بويه إلى غربيّ عسكر مكرم وجلس على شاطئ المسرقان ومعه أبو عبد الله البريدي حتى عقد الجسر الأعلى بها وعبر بباقي رجاله من غد وعاد إليه جواسيسه من سوق الأهواز وعرّفوه أنّه لم يبق بها أحد.
ونزل البريدي دارا على شاطئ نهر المسرقان ووافاه أهل الأهواز بأجمعهم مهنّئين وداعين وكان يحمّ الربع، وفيمن حضره يوحنّا الطبيب وكان متقدّما في صناعته.
فقال له أبو عبد الله البريدي:
« أما ترى يا أبا زكريا حالي؟ » فقال له:
« خلّط - يعنى في المأكول - لترمى بالأخلاط. » فقال له:
« أكثر بما خلّطت يا أبا زكريا، قد أرهجت ما بين فارس والحضرة فإن أقنعك ذلك وإلّا ملت إلى الجانب الآخر وأرهجت إلى خراسان. » ولمّا كان في اليوم الخامس رحل أحمد بن بويه إلى الأهواز وخلّف بعسكر مكرم ثلاثة من القوّاد فأقام أبو عبد الله معه خمسة وثلاثين يوما ثم هرب منه في الماء إلى الباسيان وأقام بها وكاتبه بعتب كثير وتصرّف في ضروب من القول إقامة لحجّة نفسه فيما استعمله ولم يكره المقام عنده لضيق المال فإنّه كان سلّم إلى أبي عليّ العارض ضمانات وخطوطا فصحّ في شهرين بخمسة آلاف ألف درهم وصحّ منها إلى يوم هربه صدر كثير.
ذكر السبب في هرب البريدي
كان طولب بإحضار عسكره من البصرة على أن ينفذهم إلى إصبهان لمضامّة الأمير أبي عليّ الحسن بن بويه على حرب وشمكير فوافى بأربعة آلاف رجل وقال للأمير أبي الحسن أحمد بن بويه:
« إن أقاموا بالأهواز وقعت فتنة عظيمة بينهم وبين الديلم. والرأي أن يخرجوا إلى السوس مع محمّد المعروف بالجمال، حاجبي وأسبّب بمالهم عليها وعلى جنديسابور حتى يقبضوا وينفذوا على طريق البنيان إلى إصبهان. » فأجابه إلى ذلك ثم طالبه أن يحضر رجال الماء إلى حصن مهدى حتى يشاهدهم فإذا عاينهم سيّرهم في الماء إلى واسط وسار أحمد بن بويه بالديلم على طريق السوس إليها فاستوحش البريدي من ذلك استيحاشا شديدا وظنّ أنّه إنّما يريد أن يفرّق بينه وبين عسكره وقال:
« هكذا عملت بياقوت فإني أخذت رجاله ثم أهلكته. فلو لم أتعلّم إلّا من نفسي لكفانى استبصارى والله المستعان. » وكان الديلم أيضا يستخفّون به ويشتمونه إذا ركب ويزعجونه من فراشه وهو محموم وتلقّى منهم ما لم تجر عادته بمثله. وكانت الكرامة متوفّرة عليه من الأمير أبي الحسين ومن أبي عليّ العارض. فأمّا الباقون فكانوا يهينونه إهانة عظيمة.
ولمّا أراد الهرب قدّم كتابه في صبيحة الليلة التي خرج فيها وعرّف أبا جعفر الجمّال غلامه ما عزم عليه وأمره أن يسير إلى الباسيان ومنها إلى نهر تيرى ثم إلى الباذاورد والبصرة وتمّ ذلك على ما نظمه، وحصل جيشه بالبصرة موفورين. واتّصلت المراسلات بينه وبين أحمد بن بويه في الإفراج عن قصبة الأهواز حتى يردّها ويقوم بما عقده للأمير عليّ بن بويه على نفسه من ضمان الأهواز والبصرة وهي ثمانية عشر ألف ألف درهم لسنة خراجية ولإشفاق الأمير أحمد بن بويه من إنكار أخيه عليّ بن بويه هرب البريدي استجاب إلى حكمه.
وانتقل إلى عسكر مكرم وأقام بها في ظاهر داراباذ وكتب إلى البريدي كتابا أنّه قد أخلى الأهواز. فانتقل البريدي من الباسيان إلى بناتاذر وأنفذ إلى سوق الأهواز من يخلفه بها. وكتب إلى الأمير أنّ نفسه لا تسكن إلى أن تقيم في بلد على ثمانية فراسخ منه. لأنّه لا يأمن كبسه ليلا وسامه أن ينتقل إلى السوس فتبعد الدار بينهما. فترسّل في ذلك القاضي أبو القاسم التنوخي وأبو عليّ العارض واستقرّت الحال على أن يحمل البريدي ثلاثين ألف دينار إليه لينهضه. فردّ غلامي هذين الرسولين مع غلام له بأربعة عشر ألف دينار وكتب بأنّه يوفيه تتمة الثلاثين الألف الدينار بالسوس فاجتمع دلّان وكان كاتب جيش الأمير أحمد بن بويه وأبو جعفر الصيمري وكان تابعا لدلّان وأبو الحسن المافرّوخى وكان يتولّى عسكر مكرم للأمير ويجزف ويأخذ المال من حيث لاح له، فقالوا للأمير أبي الحسين:
« قد سلك معك البريدي طرقه مع ياقوت وأخذ يبعدك إلى السوس ويضايقك حتى يفلّ الرجال عنك ثم يأخذ المعابر إلى نفسه - وبين الأهواز وبين عسكر مكرم وتستر وبين السوس دجلة - ويحتال في تحصيلك إن استوى له. » فاقشعرّ الأمير أبو الحسين من ذلك وامتنع أن يخرج من عسكر مكرم وقال:
« هي على سمت الطريق إلى فارس ولست أبعد عن الأمير الكبير هذا البعد حتى يقطع بيني وبينه دجلة أوّلا ثم المسرقان. »
وعرف البريدي ذلك فمنع العارض والتنوخي من الرجوع واستحكمت الوحشة.
واتّصل ذلك ببجكم فأنفذ قائدا من قوّاده يقال له: بالبا، في ألفى رجل من الأكراد والأعراب والحشر والإثبات والمولّدين إلى السوس وجنديسابور للغلبة عليها وكاتبا يعرف بالفيّاضى وأقام البريدي ببناتاذر غالبا على أسافل الأهواز وتغلّب المخلديّة على تستر وبقي الأمير أحمد بن بويه لا يملك من كور الأهواز إلّا عسكر مكرم قصبها دون ما سواها فإنّ أبا محمّد المهلّبي - وكان في هذا الوقت وكيل أبي زكريّا السوسي - قطع المعابر وغلب على الحميديّة والمسكول وقتل عاملا كان هناك بيد الأعراب والرجّالة الذين أثبتهم. فكانت الصورة فيما دهم أحمد بن بويه غليظة جدّا واضطرب رجاله وفارقوه بأجمعهم وعملوا على الرجوع إلى فارس فعاضده اسفهدوست وموسى فياذه حتى تلافوهم وردّوهم وضمنوا لهم أن يرضوهم بعد شهر.
وكتب أحمد ابن بويه إلى أخيه بالصورة فأنفذ قائدا من قوّاده كان ساربان حماله عظيم المحلّ من أهل البأس والنجدة ثقة عنده يعرف ببلّ في ثلاثمائة رجل من الديلم ومعه خمسمائة ألف [ درهم ] ووافى معه كوردفير لأنّ الأمير أبا الحسين استدعاه لأنّه كان وزيره بكرمان فلمّا حصل عنده كوردفير استكتبه للوقت وخلع عليه وأبو عليّ العارض معتقل ببناتاذر في يد البريدي واتّهمه بمطابقة البريدي على جميع ما عمله أوّلا وآخرا وكان الأمير مبغضا له وإنّما ضمّه إليه أخوه الأمير عليّ بن بويه لأنّه كان شاهده وزيرا لما كان الديلمي وكان كبيرا في نفسه وكان بجكم مملوكا له فطلبه منه ما كان فأهداه إليه.
وتقرّر الرأي أن ينفذ بلّ إلى السوس في خمسمائة رجل ومعه أبو جعفر الصيمري عاملا عليها وينفذ موسى فياذه إلى بناتاذر في ثلاثمائة رجل.
فهرب بالبا لمّا سمع خبر بلّ وهرب البريدي إلى البصرة وسار موسى فياذه إلى حصن مهدى فملكها وكانت من أعمال البصرة وصارت الأسافل وراءه ودخل الأمير سوق الأهواز فنزل دار أبي عبد الله البريدي وانتظمت له الأمور وحصل البريدي بالبصرة واستقامت لهم واستقرّ بجكم بواسط ينازع الملك ببغداد وجمع ابن رائق أطرافه وأقام بها.
ولمّا رأى الوزير أبو الفتح اضطراب الأمور بالحضرة وما تؤذن به أحوالها أطمع ابن رائق في أن يحمل إليه الأموال من مصر والشام ويمدّه بها وعرّفه أنّ ذلك لا يتمّ له مع بعده عنها وواقفه على الشخوص وعقد بينه وبينه صهرا بأن زوّج ابنه أبا القاسم بابنة ابن رائق وعقد بين ابن رائق وابن طغج صهرا وخرج مبادرا إلى الشام على طريق الفرات.
وقلّد أبو بكر ابن رائق عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بكور الأهواز وواقفه على النفوذ إلى عمله وأن يبتدئ بأبي الحسين بجكم ويلطف له حتى ينفذ معه لمحاربة الأمير أبي الحسين أحمد بن بويه ودفعه عن الأهواز وأن يواقفه على أن يكون عدّته خمسة آلاف رجل على أن يكون ماله ومال رجاله - إن أقام بواسط ولم ينفذ إلى الأهواز - ثمانمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال واسط وإن نفذ إلى الأهواز وفتحها، ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار في السنة يأخذها من مال الأهواز.
ولمّا وصل عليّ بن خلف إلى واسط ولقي بجكم، رأى بجكم أن يستكتبه ورأى عليّ بن خلف أن يكتب له. فخلع عليه وأقام عنده بواسط وأخذ جميع مالها. وسفّر أبو جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد في الصلح بين ابن رائق وبنى البريدي فتمّ ذلك وأخذ ابن رائق خطّ الراضي بالله للبريديين بالرضا عنهم وقطعت لهم الخلعة على أن يقيموا الدعوة لابن رائق بالبصرة ويجتهدوا في فتح الأهواز وضمنوا حمل ثلاثين ألف دينار وأطلقت ضياعهم وكتب عن الراضي في هذا المعنى كتاب.
وورد الخبر بمسير جيش البريدي إلى واسط. فخرج إليه بجكم وأوقع بناحية الدرمكان به وهزمه فجلس ابن رائق ببغداد في داره للتهنئة بذلك وأقام بجكم بموضعه مدّة ثم بالمدار مدّة ثم عاد إلى واسط.
وكانت نيّة بجكم إذلال البريديين وقطعهم عن ابن رائق ونفسه متعلّقة بالحضرة فأنفذ ثاني يوم الهزيمة عليّ بن يعقوب كاتب الترجمان المتولّى للعرض عليه إلى البريدي يعتذر إليه ممّا جرى ويقول:
« أنت بدأت بمراسلة ابن رائق وتعرّضت لي وهذه كرّتك الثانية فإنّك حملت الديلم إلى الأهواز وأعقبت ذلك بمراسلة ابن رائق وبذلت له مضافرته عليّ وقد عفوت وأنا أعاهدك وأعاهدك على أن أقلّدك واسطا إذا ملكت الحضرة. » وجرى في أثناء ذلك قول في المصاهرة. قال عليّ بن يعقوب:
« فرأيت أبا عبد الله البريدي وقد سجد شكرا لله تعالى لبجكم على ما ابتدأه به ثم استجاب لكلّ ما أراده منه ولما سمته إيّاه. » وأحضر القاضيين أبا القاسم التنوخي وأبا القاسم ابن عبد الواحد وحلف بحضرتهما وأشهد على نفسه في خطّ كتبه بالوفاء بجميع ما عقدته معه وبرّنى بثلاثة آلاف دينار وقال لي:
« سأحمل إليه وألاطفه حتى يعلم أنّى أصلح لخدمته. » وعدت إلى بجكم وخبّرته بما جرى فقال لي:
« يا أبا القاسم كلوتته على رأسه. » فقلت: « أيّها الأمير ما معنى هذا وكيف سألتنى عنها؟ » فقال لي:
« إني كنت رأيتها فعرّفنى. » قلت: « نعم قد رأيتها. » فقال: « يا أبا القاسم هي على رأس شيطان لا على رأس بشر. » فقلت: « أيّها الأمير أنت ما رأيته فكيف قلت هذا؟ » قال: « بلى رأيته يوم وقعتنا بأرجان وقد تعمّم على كلوتته وعزمت على أن أفوّت إليه سهما ففطن لما أردته وإنّما لمح طرفي من بعيد فنزع العمامة. والكلوتة وجعلها على رأس غيره وتنحّى هو وأقامه مقامه. » فقلت: « ذلك المسكين بلا ذنب وأفلت هو لعنه الله فإنّه كاذب في جميع ما قاله وحلف عليه ولكن نقبل ذلك منه لحاجتنا إلى قبوله. » وانصرف بجكم إلى واسط وأخذ في التدبير على ابن رائق.
وفي هذه السنة قطعت يد أبي عليّ ابن مقلة ثم لسانه
ذكر السبب في ذلك
كان ابن رائق لمّا صار إليه تدبير المملكة قبض ضياع أبي عليّ ابن مقلة وابنه. فلمّا صار إلى الحضرة لقيه أبو عليّ ابن مقلة ولقي أبا عبد الله الحسين ابن عليّ النوبختي ثم بعده أبا عبد الله الكوفي وأبا بكر ابن مقاتل فاستحيوا منه وتذلّل للجماعة وسأل ردّ الضيعة المقبوضة عليه فوعده بذلك ومطل مطلا ومتّصلا. فلمّا رأى أبو عليّ المطل متّصلا وللوفاء لا يصحّ، أخذ في السعى على ابن رائق من كلّ جهة. فكتب إلى بجكم يطمعه في الحضرة وفي موضع ابن رائق وكتب بمثل ذلك إلى وشمكير بالريّ وكتب إلى الراضي بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأسبابه ويضمن أنّه متى فعل ذلك استخرج له ثلاثة آلاف ألف دينار ويصحّحها وأشار باستدعاء بجكم ونصبه مكان ابن رائق فإنّه أكثر طاعة وكانت مكاتبته للراضى على يد عليّ بن هارون ابن المنجّم النديم فأطمعه الراضي في ذلك فكتب ابن مقلة إلى بجكم يعرّفه أنّ الراضي قد استجاب إلى أمره وأنّ الأمر تامّ ويستحثّه على التعجّل.
فلمّا توثّق ابن مقلة عند نفسه من الراضي واقفه على أن ينحدر إليه سرّا ويقيم عنده إلى أن يتمّ التدبير على ابن رائق.
فركب من داره في سوق العطش في سميريّة وعليه طيلسان وخفّ وصار إلى الأزج بباب البستان وركب السميريّة ليلة الاثنين لليلة تبقى من شهر رمضان وإنّما تعمّد تلك الليلة لأنّ القمر تحت الشعاع وهو يختار للأمور المستورة.
فلمّا وصل إلى دار السلطان لم يوصله الراضي إليه واعتقله في حجرة ووجّه من غد بابن سنجلا إلى ابن رائق وأخبره بما جرى وأنّه احتال على ابن مقلة حتى حصله عنده وما زال المراسلات تتردّد بين الراضي وبين أبي بكر ابن رائق.
فلمّا كان يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شوّال أظهر الراضي بالله أمر ابن مقلة وأخرجه وحضر فاتك حاجب ابن رائق وجماعة من القوّاد فقطعت يده اليمنى وردّ إلى محبسه وانصرف فاتك إلى ابن رائق فأخبره بما شاهد من قطع يد ابن مقلة.
قال ثابت: فلمّا كان في آخر هذا اليوم استدعاني الراضي وأمرنى بالدخول إليه وعلاجه. فصرت إليه فوجدته في حجرة مقفلة عليه ففتح الخادم الباب فدخلت فرأيته بحال صعبة فدمعت عينه حين رآني ووجدت ساعده قد ورم ورما عظيما وعلى موضع القطع خرقة غليظة كردوانى كحلية مشدودة بخيط قنب. فحللت الشدّ ونحيت الخرقة فوجدت تحتها على موضع القطع سرجين الدوابّ فنفضته عنه وإذا رأس الساعد أسفل القطع مشدود بخيط قنب قد غاص في ذراعه لشدّة الورم وابتدأ ساعده يسودّ. فعرّفته أنّ سبيل الخيط أن يحلّ ويجعل موضع السرجين كافور ويطلى ذراعه بالصندل وماء الورد والكافور قال:
« فافعل. » فقال الخادم الذي دخل معه:
« حتى استأذن مولانا. » ومضى يستأذن ثم خرج ومعه مخزنة كافور وقال لي:
« قد أذن مولانا أن تعمل ما ترى وأن ترفق به وتقدّم العناية به وتلزمه إلى أن يهب الله عافيته. » فحللت الخيط وفرّغت المخزنة في موضع القطع وطليت ساعده فعاش واستراح وسكن الضربان ولم أفارقه حتى اغتدى بشيء يسير من فروّج ثم حلف أنّه ليس يسوغ له شيء آخر وشرب ماء باردا فرجعت إليه نفسه وانصرفت.
ثم تردّدت إليه أيّاما كثيرة إلى أن عوفي. وكنت إذا دخلت إليه يسألنى عن خبر ابنه أبي الحسين فأعرّفه استتاره وسلامته فتطيب نفسه ثم ينوح ويبكى على يده ويقول:
« قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء وكتبت بها القرآن دفعتين تقطع كما تقطع أيدى اللصوص أتذكر وأنت تقول لي:
أنت في آخر نكبة وإنّ الفرج قريب؟ » فقلت: « بلى والآن ينبغي أن تتوقّع الفرج فإنّه قد عمل بك ما لم يعمل بنظير لك وهذا انتهاء المكروه وما بعد الانتهاء إلّا الانحطاط. » فقال: « لا تفعل، فإنّ المحنة قد يتشبّث بي كما تشبّثت حمّى الدّقّ بالأعضاء فلا تفارقني حتى تؤدّينى إلى الموت. » ثم تمثّل بهذا البيت:
« إذا ما مات بعضك فابك بعضا ** فبعض الشيء من بعض قريب»
فكان الأمر على ما قال.
ومن عجائبه أنّه كان يراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده ويطمعه في المال ويشير بأن يستوزره ويقول:
« إنّ قطع يده ليس ممّا يمنع من استيزاره لأنّه يمكنه أن يحتال ويكتب. » وكانت تخرج له رقاع بعد قطع يده وقبل التضييق عليه. فيقال: إنّه كان يشدّ القلم على ساعده الأيمن ويكتب به.
ولمّا قرب بجكم من بغداد نقل من ذلك الموضع إلى موضع أغمض منه.
فلم يوقف له على خبر ومنعت من الدخول إليه.
ثم قطع لسانه وبقي مدّة طويلة في الحبس. ثم لحقه ذرب ولم يكن له من يعالجه ولا من يخدمه حتى بلغني أنّه كان يستسقى الماء لنفسه من البئر بيده اليسرى وفمه. ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن في دار السلطان ثم سأل بعد مدّة أهله فنبش وسلّم إليهم.
وفي هذه السنة دخل بجكم العراق أعنى بغداد ولقي الخليفة وقلّده أمرة الأمراء مكان محمّد ابن رائق
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 14 (0 من الأعضاء و 14 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)