كر الخبر عن إصعادهم وما آلت إليه أمورهم

لمّا قتل بجكم اختلف أهل عسكره. فأمّا الديلم فعقدوا الرئاسة لبلسوار ابن مالك بن مسافر الكنكرى، فهجم عليه الأتراك وقتلوه. فانحدر الديلم بأسرهم إلى البصرة مستأمنين إلى أبي عبد الله البريدي وكانوا ألفا وخمسمائة رجل مختارين منتجبين ليس فيهم حشو. فقوى البريدي بهم وعظمت شوكته واستظهر بهم على السلطان وانضاف عسكرهم إليهم فبلغوا سبعة آلاف رجل.
فأصعد البريديون من البصرة إلى واسط، فراسلهم المتقي لله وأمرهم ألّا يصعدوا وأن يقيموا بواسط فأرسلوا:
« إنّا محتاجون إلى مال الرجال فانفذ إلينا ما نرضيهم به ونحن نقيم. » فوجّه المتقي لله أبا جعفر بن شيرزاد بعد أن ردّ عليه ضيعته مع عبد الله بن يونس صاحب بيت المال وانحدر في جملته تكينك سرّا من المتقي لله.
وقال الأتراك البجكمية والجنكاتى الذي كان استأمن من جهة البريدي للمتقي لله:
« نحن نقاتل بنى البريدي إن جاءوا، فأطلق لنا مالا وانصب لنا رئيسا. » فأنفق فيهم وفي رجال الحضرة القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي وجد لبجكم وجعل الرئيس عليهم سلامة الطولونى الحاجب وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالى.
وعاد عبد الله بن يونس بجواب الرسالة من البريديين يلتمسون المال.
فحمل إليهم معه من مال بجكم أيضا مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وقال:
« أنا أحتاج إلى خمسمائة ألف دينار للديلم. فإن حملت إليّ وإلّا فإنّ الديلم لا يمهلونى، وعلى كلّ حال أنا سائر، فإن تلقّانى المال انصرفت، وإلّا دخلت الحضرة. » فقال المتقي لله لمّا أدّيت رسالته:
« أنا قد أنفقت في الأتراك أربعمائة وخمسين ألف دينار وفي غيرهم جملة فمن أين أعطيه ما طلب؟ دعه يرد الحضرة ويعمل ما شاء، فانّى أرجو أن أكفى أمره. » وسار أبو عبد الله البريدي من واسط نحو الحضرة. فلمّا قرب منها اضطرب الأتراك البجكمية وقلعوا خيمهم واستأمن بعضهم إلى البريدي وسار بعضهم إلى الجنكاتى إلى الموصل ودخل سلامة بغداد واستتر أبو عبد الله الكوفي وسلامة الحاجب ومحمّد بن ينال الترجمان، وتقلّد الشرطة مكان الترجمان أحمد بن خاقان، وتأسّف الوزير أبو الحسين على أربعمائة ألف دينار ذهبت ضياعا. ورهب الناس البريدي رهبة عظيمة لعسفه وتهوّره وطمعه، فهمّ أرباب النعم بالانتقال.
فتحدّث بعض المختصّين بأبي الحسن عليّ بن عيسى قال:
كنت بين يديه أنا وأولاده وأخوه وخواصّه في تلك الأيّام ونحن نتحدّث بأمر البريدي وموافاته الحضرة ونتجارى جرأته وإقدامه وقلّة اكتراثه وأنّه ينعل الناس بنعال الدوابّ وأشارت الجماعة عليه بألّا يقيم ببغداد وأن يخرج هو وعياله إلى الموصل إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وفزّعناه وهوّلنا عليه وهو لا يصغى إلى رأينا، فلمّا أكثرنا عليه ترجّح رأيه. ثم أطلق لي مائتي دينار على أن أبكّر وأكترى له بها زواريق ليصعد هو فيها وعياله إلى الموصل. فباكرنى رسوله مع السحر يأمرنى بالمصير إليه وجئت وسألنى فعرّفته أنّى ما مكّنت من امتثال أمره بمباكرة رسوله واستدعائه إيّاى.
فقال:
« ويحك لفكّرت البارحة فيما أشرتم به فوجدته خارجا عن الصواب مفسدا للدين. أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟ اصرف تلك إلى وجوه الصدقة فإني مقيم. » فرددتها إلى خزائنه وأقام. فلمّا قرب البريدي انحدر إليه وتلقّاه فأكرمه أبو عبد الله غاية الإكرام ووفّاه حقّه وأعظمه ومنعه من أن يخرج من طيّاره وانتقل هو إليه وشكر برّه وخاطبه بنهاية الإكرام والتعظيم.
ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ومعه أخوه أبو الحسين وابنه أبو القاسم وأبو جعفر ابن شيرزاد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان. فنزلوا البستان الشفيعى وتلقّاه الوزير أبو الحسين ابن ميمون والكتّاب والعمّال والقضاة والوجوه وكان معه من الشذاءات والطيارات والحديديات والزبازب ما لا يحصى كثرة. فوجّه المتقى إليه يعرّفه أنسه بقربه وحمل له الطعام والشراب والألطاف عدّة ليال وكان يخدم في ذلك كلّه خدمة الخلافة. وظهر محمّد بن ينال الترجمان وكان الناس يخاطبون أبا عبد الله البريدي بالوزارة ويخاطبون أبا الحسين ابن ميمون أيضا بالوزارة ويصير أبو الحسين إليه بسيف ومنطقة وقباء ويخاطب كلّ واحد منهما صاحبه بالوزارة ثم لبس أبو الحسين الدرّاعة وأزال عن نفسه اسم الوزارة بمواطأة الخليفة وذلك لستّ خلون من شهر رمضان فكانت مدّته فيها ثلاثة وثلاثين يوما وتفرّد أبو عبد الله البريدي باسم الوزارة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان حضر أبو الحسين ابن ميمون ومعه ابنه أبو الفضل مجلس الوزير أبي عبد الله وكان الوزير قد واطأ القوّاد إذا حضر أبو الحسين مجلسه أن يجتمعوا ويكلّموه ويتوثبوا عليه ويتهددوه بالقتل ويقولوا أنّه يضرّب علينا الخليفة ويفسد علينا رأيه.
ففعل الديلم ذلك في هذا اليوم. فما زال الوزير يسكّنهم ويعرّفهم كذب ما بلغهم عنه، ثم قال لأبي الحسين وابنه:
« قوما ادخلا الرواق. » يوهمهما أنّه يريد أن يخلّصهما من القتل. فدخلا الرواق ووكّل بهما، وانصرف القوّاد وحصلا في قبضه. ثم قال لهما بعد أيّام:
« يا أبا الحسين قد قلدتك الإشراف على واسط وأجريت لك ألف دينار في كل شهر، فامض إلى عملك مع ابنك. » فحملا إلى واسط ومنها إلى البصرة. ولمّا قبض عليه استكتب المتقي لله على خاص أمره أبا العبّاس أحمد ابن عبد الله الإصبهاني واعتلّ أبو الحسين بعد مدّة بالبصرة ومات بها.
ولم يلق الوزير أبو عبد الله طول مقامه ببغداد المتقي لله ولا دخل دار السلطان وذهب إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله وهو في النجمى ليسلّم عليه فلبس أبو عبد الله البريدي قباء أسود وعمامة سوداء وتلقّاه في أحسن زيّ وأوفر عدّة ونثر عليه دنانير ودراهم. وراسل الوزير أبو عبد الله البريدي المتقي لله على يد القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وأبي العبّاس الاصبهاني يطالبه بحمل مال، فحمل إليه مائة وخمسين ألف دينار. فأخذها وراسله بأنّه لا بدّ من خمسمائة ألف دينار.
فالتوى المتقي لله فقال للقاضي:
« انصحه وقل له: أما سمعت خبر المعتز بالله والمهتدي بالله والمتوكّل على الله؟ والله لئن خلّيتك والأولياء لتطلبنّ نفسك فلا تجدها وأنت أبصر.
إنّما الديلم وافوا لأجل المال الذي أخذته لا إلى بغداد وعندهم أنّهم أحق به منك ولا يعرفون البيعة ولا يمين لك في رقابهم. » وكان الجواب عن هذه الرسالة الإنعام، وحمل إليه خمسمائة ألف دينار.
فاستوفاها عن آخرها في سلخ رمضان ووهب للقاضي الخرقى منها خمسة آلاف دينار. ولمّا حصلت الأموال عند البريديين انصرفت أطماع الجند كلّهم. إليه وكان البريدي يبعث الجند على طلب الأموال من الخليفة ويحملهم على الشغب. فلمّا استصفى مال السلطان رجعت المكيدة عليه وتشغب الجند عليه. وكان الديلم قد اجتمعوا يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فرأسوا على أنفسهم كورنكيج بن الفاراضى الديلمي فرأس الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بجكم وانحاز الديلم بأجمعهم إلى دار السلطان وأحرقوا دار أبي الحسين البريدي التي كان ينزلها.
ونفر الجيش عن أبي عبد الله البريدي وصار تكينك إلى الديلم وتضافروا وكان سبب ذلك أنّ تكينك لم يكن كبيرا في نفوس الأتراك. فأرسل إليه كورنكيج وخدعه وقال له:
« إن تفرّد كلّ واحد منّا عن صاحبه ضعف، وأرى أن نجتمع وتصير أيدينا واحدة. » فانخدع له وصار إليه فاجتمعوا فلمّا تمكّن منه عاجله بالقبض عليه إلّا أنّه استعان به في العاجل لمّا اجتمعوا وواقفه على قصد البريدي ونهب ما حصل عنده. فاتّفقوا على ذلك وقصدوا بأجمعهم النجمى وعاونهم العامّة فقطع الوزير أبو عبد الله الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثبت العامّة. في الجانب الغربي بأسباب أبي عبد الله البريدي وقتل نعجة القرمطي.
فهرب الوزير أبو عبد الله البريدي وأخوه وابنه وانحدروا إلى واسط في الماء ونهبت داره في النجمى ودور قوّاده ونهب بعض المال الذي كان حمله إليه المتقى في ذلك اليوم. لأنّ هربه كان يوم الاثنين سلخ رمضان وآخر ما حمل إليه من بقيّة المال في ذلك اليوم. واستتر أبو جعفر ابن شيرزاد ونهبت داره وظهر سلامة الطولونى وبدر الخرشنى. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه أربعة وعشرين يوما. ولمّا هرب البريدي حصلت الإمارة لكورنكيج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوّال.
ذكر إمارة كورنكيج

فلمّا كان يوم الخميس لثلاث خلون منه لقي كورنكيج المتقي لله فقلّده إمارة الأمراء وعقد له لواء وخلع عليه. وكان يكتب له رجل من أهل إصبهان يعرف بأبي الفرج ابن عبد الرحمن واستدعى المتقي لله أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمر عبد الرحمن من غير تسمية بوزارة.
وقبض الأمير أبو شجاع كورنكيج على تكينك يوم السبت لخمس خلون من شوّال وغرّقه ليلا.
وفي يوم الجمعة اجتمعت العامّة في الجامع من دار السلطان وضجّوا وتظلّموا من الديلم ونزولهم في دورهم بغير أجرة وتعدّيهم عليهم في معاملاتهم. فلم يقع إنكار لذلك. فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر وشغب الجند. فمنعهم الديلم من ذلك فقتل بين الفريقين جماعة.
واستوزر أبو إسحاق محمّد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي للمتقي لله فكانت مدّة نظر عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن تسعة أيام.
ذكر السبب في وزارة القراريطي

حكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قال: كنت بحضرة كورنكيج مع كاتبه أبي الفرج وفي مجلسه عليّ بن عيسى وعبد الرحمن أخوه والقراريطي فطالب كورنكيج أبا الحسن عليّ بن عيسى بالمال وعرّفه حاجته إليه لإعطاء الرجال فبلّح هو وأخوه وذكر أنّ المال قد استنظف من النواحي وأنّه لا وجه له. قال: فقال القراريطي ونحن في المجلس فيما بيني وبينه:
« إن ردّ الأمر إليّ أقمت به واستخرجت ما يدفع إلى الرجال ويفضل بعده جملة وافرة. » فاجتمعت مع أبي الفرج كاتب كورنكيج وعرّفته ما خاطبني به. فالتمس أن يصير إليه في خلوة ليسمع كلامه. فأحضرته في غد فأعاد عليه ما قاله لي وأراه وجوها لجملة من المال فذهب إلى صاحبه كورنكيج فعرّفه أن عليّ بن عيسى وأخاه قد بلّحا وأنّ القراريطي قد حضر وذكر أنّه يقوم بالأمر ويزيح علل الرجال حتى لا يقع إخلال بشيء يحتاج إليه. فاستروح كورنكيج إلى ذلك وأمره بإحضاره ليلا فأحضره وخلا به وبكاتبه وجعله على ثقة من القيام بكلّ ما يحتاج إليه ولم يبرح حتى انعقد له الأمر ووقّف المتقي لله عليه.
وأخرج إصبهان الديلمي إلى واسط من قبل الأمير أبي شجاع كورنكيج لمحاربة البريدي وكان أبو يوسف قد أصعد من البصرة إلى واسط.
فلمّا سمعوا بانحدار إصبهان الديلمي انحدر البريديّون إلى البصرة وظهر ابن سنجلا وسلفه علي بن يعقوب من استتارهما وصارا إلى دار الوزير أبي إسحاق القراريطي ليسلّما عليه. فقبض عليهما من داره قبل أن يصلا إليه وحملهما إلى دار السلطان وكتب فيهما رقعة إلى المتقي لله وأمر بحبسهما ونالهما مكروه غليظ بالضرب والتعليق وصودرا على مائة وخمسين ألف دينار.
وفي هذه السنة سار محمّد بن رائق من الشام إلى مدينة السلام لمّا بلغه قتل بجكم.
ذكر الخبر عن مسير ابن رائق من الشام ودخوله بغداد وما آل إليه أمره

كان الأتراك البجكمية مثل توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون وكبارهم لمّا انصرفوا من بغداد بعد قتل بجكم وإصعاد البريدي صاروا إلى الموصل.
فحاد عنهم أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وراسلوه في إطلاق نفقاتهم فأطلق لهم ربع رزقة، فتقدّموا إلى ابن رائق بالشام فصحّ عنده قتل بجكم بمصير الأتراك إليه، وكتب إليه المتقى يخبره بقتل بجكم ويخاطبه بخطاب جميل ويستدعيه إلى الحضرة فسار من دمشق. فلمّا قرب من الموصل كتب كورنكيج إلى إصبهان الديلمي بأن يصعد من واسط فأصعد ودخل بغداد وخرج لؤلؤ إلى واسط متقلّدا لها ولم يتمّ أمره ورجع من الطريق. ولمّا وصل ابن رائق إلى الموصل حاد عنه أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وجرت بينهما مراسلة تقرّر فيها أن يحمل أبو محمّد إلى ابن رائق مائة ألف دينار. فأخذها وانحدر إلى بغداد وعاد أبو محمّد بن حمدان إلى الموصل.
ولمّا كان يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة قبض كورنكيج على القراريطي. فكانت مدّة وزارته ثلاثة وأربعين يوما وقلّد الوزارة أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخي ولقي المتقي لله في هذا اليوم وخلع عليه.
وورد الخبر بدخول بنى البريدي واسطا لمّا انصرف عنها إصبهان الديلمي وخطبوا بواسط والبصرة لابن رائق وكتبوا اسمه على أعلامهم.